Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 79-79)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قال أبو علي الجبائي : قد ثبت أن لفظ السيئة تارة يقع على البلية والمحنة ، وتارة يقع على الذنب والمعصية ، ثم إنه تعالى أضاف السيئة إلى نفسه في الآية الأولى بقوله : { قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ } [ النساء : 78 ] وأضافها في هذه الآية إلى العبد بقوله : { وَمَا أَصَـٰبَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } فلا بد من التوفيق بين هاتين الآيتين وإزالة التناقض عنهما ، ولما كانت السيئة بمعنى البلاء والشدة مضافة إلى الله وجب أن تكون السيئة بمعنى المعصية مضافة إلى العبد حتى يزول التناقض بين هاتين الآيتين المتجاورتين ، قال : وقد حمل المخالفون أنفسهم على تغيير الآية وقرؤا : { فَمَنْ نَفْسك } فغيروا القرآن وسلكوا مثل طريقة الرافضة من ادعاء التغيير في القرآن . فان قيل : فلماذا فصل تعالى بين الحسنة والسيئة في هذه الآية فأضاف الحسنة التي هي الطاعة إلى نفسه دون السيئة وكلاهما فعل العبد عندكم ؟ قلنا : لأن الحسنة وإن كانت من فعل العبد فانما وصل اليها بتسهيله تعالى وألطافه فصحت الاضافة إليه ، وأما السيئة التي هي من فعل العبد فهي غير مضافة إلى الله تعالى لا بأنه تعالى فعلها ولا بأنه أرادها ، ولا بأنه أمر بها ، ولا بأنه رغب فيها ، فلا جرم انقطعت إضافة هذه السيئة من جميع الوجوه إلى الله تعالى . هذا منتهى كلام الرجل في هذا الموضع . ونحن نقول : هذه الآية دالة على أن الايمان حصل بتخليق الله تعالى ، والقوم لا يقولون به فصاروا محجوجين بالآية . إنما قلنا : إن الآية دالة على ذلك لأن الايمان حسنة ، وكل حسنة فمن الله . إنما قلنا : إن الايمان حسنة ، لأن الحسنة هي الغبطة الخالية عن جميع جهات القبح ، ولا شك أن الايمان كذلك ، فوجب أن يكون حسنة لأنهم اتفقوا على أن قوله : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى ٱللَّهِ } [ فصلت : 33 ] المراد به كلمة الشهادة ، وقيل في قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإْحْسَانِ } [ النحل : 90 ] قيل : هو لا إله إلا الله ، فثبت أن الايمان حسنة ، وإنما قلنا إن كل حسنة من الله لقوله تعالى : { مَّا أَصَـٰبَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } وقوله : { مَّا أَصَـٰبَكَ مِنْ حَسَنَةٍ } يفيد العموم في جميع الحسنات ، ثم حكم على كلها بأنها من الله ، فيلزم من هاتين المقدمتين ، أعني أن الايمان حسنة ، وكل حسنة من الله ، القطع بأن الايمان من الله . فان قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من كون الايمان من الله هو أن الله أقدره عليه وهداه إلى معرفة حسنة ، وإلى معرفة قبح ضده الذي هو الكفر ؟ قلنا : جميع الشرائع مشتركة بالنسبة إلى الايمان والكفر عندكم ، ثم إن العبد باختيار نفسه أوجد الايمان ، ولا مدخل لقدرة الله وإعانته في نفس الايمان ، فكان الايمان منقطعا عن الله في كل الوجوه ، فكان هذا مناقضا لقوله : { مَّا أَصَـٰبَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } فثبت بدلالة هذه الآية أن الايمان من الله ، والخصوم لا يقولون به ، فصاروا محجوجين في هذه المسألة ، ثم اذا أردنا أن نبين أن الكفر أيضا من الله . قلنا فيه وجوه : الأول : أن كل من قال : الايمان من الله قال : الكفر من الله ، فالقول بأن أحدهما من الله دون الآخر مخالف لاجماع الأمة . الثاني : أن العبد لو قدر على تحصيل الكفر فالقدرة الصالحة لايجاد الكفر إما أن تكون صالحة لايجاد الايمان أو لا تكون ، فان كانت صالحة لايجاد الايمان فحينئذ يعود القول في أن إيمان العبد منه ، وإن لم تكن صالحة لايجاد الايمان فحينئذ يكون القادر على الشيء غير قادر على ضده ، وذلك عندهم محال ، ولأن على هذا التقدير تكون القدرة موجبة للمقدور ، وذلك يمنع من كونه قادرا عليه ، فثبت أنه لما لم يكن الايمان منه وجب أن لا يكون الكفر منه . الثالث : أنه لما لم يكن العبد موجدا للايمان فبأن لا يكون موجدا للكفر أولى ، وذلك لأن المستقل بايجاد الشيء هو الذي يمكنه تحصيل مراده ، ولا نرى في الدنيا عاقلا إلا ويريد أن يكون الحاصل في قلبه هو الايمان والمعرفة والحق ، وإن أحدا من العقلاء لا يريد أن يكون الحاصل في قلبه هو الجهل والضلال والاعتقاد الخطأ ، فاذا كان العبد موجداً لأفعال نفسه وهو لا يقصد إلا تحصيل العلم الحق المطابق ، وجب أن لا يحصل في قلبه إلا الحق ، فاذا كان الايمان الذي هو مقصوده ومطلوبه ومراده لم يقطع بايجاده ، فبأن يكون الجهل الذي ما أراده وما قصد تحصيله وكان في غاية النفرة عنه والفرار منه غير واقع بايجاده وتكوينه كان ذلك أولى . والحاصل أن الشبهة في أن الايمان واقع بقدرة العبد أشد من الشبهة في وقوع الكفر بقدرته ، فلما بين تعالى في الايمان أنه من الله ترك ذكر الكفر للوجه الذي ذكرناه ، فهذا جملة الكلام في بيان دلالة هذه الآية على مذهب إمامنا . أما ما احتج الجبائي به على مذهبه من قوله : { وَمَا أَصَـٰبَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } . فالجواب عنه من وجهين : الأول : أنه تعالى قال حكاية عن ابراهيم عليه السلام : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] أضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله ، فلم يقدح ذلك في كونه تعالى خالقا للمرض والشفاء ، بل إنما فصل بينهما رعاية الأدب ، فكذا ههنا ، فانه يقال : يا مدبر السموات والأرض ، ولا يقال يا مدبر القمل والصبيان والخنافس ، فكذا ههنا . الثاني : أكثر المفسرين قالوا في تفسير قول ابراهيم : { هَـٰذَا رَبّى } أنه ذكر هذا استفهاما على سبيل الانكار ، كأنه قال : أهذا ربي ، فكذا ههنا ، كأنه قيل : الايمان الذي وقع على وفق قصده قد بينا أنه ليس واقعا منه ، بل من الله ، فهذا الكفر ما قصده وما أراده وما رضي به ألبتة ، أفيدخل في العقل أن يقال : إنه وقع به ؟ فانا بينا أن الحسنة في هذه الآية يدخل فيها الايمان ، والسيئة يدخل فيها الكفر ، أما قراءة من قرأ { فَمَنْ نَفْسِك } فنقول : إن صح أنه قرأ بهذه الآية واحد من الصحابة والتابعين فلا طعن فيه ، وإن لم يصح ذلك فالمراد أن من حمل الآية على أنها وردت على سبيل الاستفهام على وجه الانكار ذكر في تفسير الاستفهام على سبيل الانكار هذا الكلام ، لأنه لما أضاف السيئة اليهم في معرض الاستفهام على سبيل الانكار كان المراد أنها غير مضافة اليهم ، فذكر هذا القائل قوله : { فَمَنْ نَفْسِك } لا على اعتقاد أنه من القرآن ، بل لأجل أنه يجري مجرى التفسير لقولنا : إنه استفهام على سبيل الانكار ، ومما يدل دلالة ظاهرة على أن المراد من هذه الآيات إسناد جميع الأمور إلى الله تعالى ، قوله تعالى بعد هذه الآية : { وَأَرْسَلْنَـٰكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً } يعني ليس لك إلا الرسالة والتبليغ ، وقد فعلت ذلك وما قصرت { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } [ النساء : 166 ] على جدك وعدم تقصيرك في أداء الرسالة وتبليغ الوحي ، فأما حصول الهداية فليس إليك بل إلى الله ، ونظيره قوله تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ ٱلأَمْرِ شَىْء } [ آل عمران : 128 ] وقوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاء } [ القصص : 56 ] فهذا جملة ما خطر بالبال في هذه الآية ، والله أعلم بأسرار كلامه . ثم إنه تعالى أكد هذا الذي قلناه .