Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 97-99)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد أتبعه بعقاب من قعد عنه ورضي بالسكون في دار الكفر ، وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : قال الفرّاء : إن شئت جعلت { تَوَفَّـٰهُمُ } ماضياً ولم تضم تاء مع التاء ، مثل قوله : { إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَـٰبَهَ عَلَيْنَا } [ البقرة : 70 ] وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية إخباراً عن حال أقوام معينين انقرضوا ومضوا ، وإن شئت جعلته مستقبلاً ، والتقدير : إن الذين تتوفاهم الملائكة ، وعلى هذا التقدير تكون الآية عامة في حق كل من كان بهذه الصفة . المسألة الثانية : في هذا التوفي قولان : الأول : وهو قول الجمهور معناه تقبض أرواحهم عند الموت . فإن قيل : فعلى هذا القول كيف الجمع بينه وبين قوله تعالى : { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } [ الزمر : 42 ] { ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ } [ الملك : 2 ] { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] وبين قوله : { قُلْ يَتَوَفَّـٰكُم مَّلَكُ ٱلْمَوْتِ ٱلَّذِى وُكّلَ بِكُمْ } [ السجدة : 11 ] . قلنا : خالق الموت هو الله تعالى ، والرئيس المفوض إليه هذا العمل هو ملك الموت وسائر الملائكة أعوانه . القول الثاني : { توفاهم الملائكة } يعني يحشرونهم إلى النار ، وهو قول الحسن . المسألة الثالثة : في خبر إن وجوه : الأول : أنه هو قوله : قالوا لهم فيم كنتم ، فحذف « لهم » لدلالة الكلام عليه . الثاني : أن الخبر هو قوله : { فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } فيكون قالوا لهم في موضع { ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } ، لأنه نكرة . الثالث : أن الخبر محذوف وهو هلكوا ، ثم فسّر الهلاك بقوله : { قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ } أما قوله تعالى : { ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } ففيه مسألتان : المسألة الأولى : قوله : { ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ } في محل النصب على الحال ، والمعنى تتوفاهم الملائكة في حال ظلمهم أنفسهم ، وهو وإن أضيف إلى المعرفة إلا أنه نكرة في الحقيقة ، لأن المعنى على الانفصال ، كأنه قيل ظالمين أنفسهم ، إلا أنهم حذفوا النون طلباً للخفة ، واسم الفاعل سواء أُريد به الحال أو الاستقبال فقد يكون مفصولاً في المعنى وإن كان موصولاً في اللفظ ، وهو كقوله تعالى : { هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] { هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ } [ المائدة : 95 ] { ثَانِىَ عِطْفِهِ } [ الحج : 9 ] فالإضافة في هذه المواضع كلها لفظية لا معنوية . المسألة الثانية : الظلم قد يراد به الكفر قال تعالى : { إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] وقد يراد به المعصية { فَمِنْهُمْ ظَـٰلِمٌ لّنَفْسِهِ } [ فاطر : 32 ] وفي المراد بالظلم في هذه قولان : الأول : أن المراد الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك ، ولم يهاجروا إلى دار الإسلام . الثاني : أنها نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفاً ، فإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا لهم الكفر ولم يهاجروا إلى المدينة ، فبيّن الله تعالى بهذه الآية أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة . وأما قوله تعالى : { قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ } ففيه وجوه : أحدها : فيم كنتم من أمر دينكم . وثانيها : فيم كنتم في حرب محمد أو في حرب أعدائه . وثالثها : لم تركتم الجهاد ولم رضيتم بالسكون في ديار الكفار ؟ ثم قال تعالى : { قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى ٱلأَرْضِ } جواباً عن قولهم { فِيمَ كُنتُمْ } وكان حق الجواب أن يقولوا : كنا في كذا ، أو لم نكن في شيء . وجوابه : أن معنى { فِيمَ كُنتُمْ } التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا ، فقالوا : كنا مستضعفين اعتذاراً عما وبخوا به ، واعتلالاً بأنهم ما كانوا قادرين على المهاجرة ، ثم إن الملائكة لم يقبلوا منهم هذا العذر بل ردوه عليهم فقالوا : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وٰسِعَةً فَتُهَـٰجِرُواْ فِيهَا } أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ، فبقيتم بين الكفار لا للعجز عن مفارقتهم ، بل مع القدرة على هذه المفارقة ، فلا جرم ذكر الله تعالى وعيدهم فقال : { فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً } . ثم استثنى تعالى فقال : { إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرّجَالِ وَٱلنّسَاء وَٱلْوِلْدٰنِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } ونظيره قول الشاعر : @ ولقد أمر على اللئيم يسبني @@ ويجوز أن يكون { لاَ يَسْتَطِيعُونَ } في موضع الحال ، والمعنى لا يقدرون على حيلة ولا نفقة ، أو كان بهم مرض ، أو كانوا تحت قهر قاهر يمنعهم من تلك المهاجرة . ثم قال : { وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } أي لا يعرفون الطريق ولا يجدون من يدلهم على الطريق . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بهذه الآية إلى مسلمي مكة فقال جندب بن ضمرة لبنيه : احملوني فإني لسيت من المستضعفين ، ولا أني لا أهتدي الطريق ، والله لا أبيت الليلة بمكة ، فحملوه على سرير متوجهاً إلى المدينة ، وكان شيخاً كبيراً ، فمات في الطريق . فإن قيل : كيف أدخل الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد ، فإن الاستثناء إنما يحسن لو كانوا مستحقين للوعيد على بعض الوجوه ؟ قلنا : سقوط الوعيد إذا كان بسبب العحز ، والعجز تارة يحصل بسبب عدم الأهبة وتارة بسبب الصبا ، فلا جرم حسن هذا إذا أُريد بالولدان الأطفال ، ولا يجوز أن يراد المراهقون منهم الذين كملت عقولهم لتوجه التكليف عليهم فيما بينهم وبين الله تعالى ، وإن أُريد العبيد والإماء البالغون فلا سؤال . ثم قال تعالى : { فَأُوْلَـئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } وفيه سؤال ، وهو أن القوم لما كانوا عاجزين عن الهجرة ، والعاجز عن الشيء غير مكلف به ، وإذا لم يكن مكلفاً به لم يكن عليه في تركه عقوبة ، فلم قال : { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } والعفو لا يتصور إلا مع الذنب ، وأيضاً { عَسَى } كلمة الإطماع ، وهذا يقتضي عدم القطع بحصول العفو في حقهم . والجواب عن الأول : أن المستضعف قد يكون قادراً على ذلك الشيء مع ضرب من المشقة وتمييز الضعف الذي يحصل عنده الرخصة عن الحد الذي لا يحصل عنده الرخصة شاق ومشتبه ، فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز عن المهاجرة ولا يكون كذلك ، ولا سيما في الهجرة عن الوطن فإنها شاقة على النفس ، وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزاً مع أنه لا يكون كذلك ، ولا سيما في الهجرة عن الوطن فإنها شاقة على النفس ، وبسبب شدة النفرة قد يظن الإنسان كونه عاجزاً مع أنه لا يكون كذلك ، فلهذا المعنى كانت الحاجة إلى العفو شديدة في هذا المقام . وأما السؤال الثاني : وهو قوله : ما الفائدة في ذكر لفظة { عسى } ههنا ؟ فنقول : الفائدة فيها الدلالة على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه ، حتى أن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني ، فكيف الحال في غيره . هذاهو الذي ذكره صاحب « الكشاف » في الجواب عن هذا السؤال ، إلا أن الأولى أن يكون الجواب ما قدمناه ، وهو أن الإنسان لشدة نفرته عن مفارقة الوطن ربما ظن نفسه عاجزاً عنها مع أنه لا يكون كذلك في الحقيقة ، فلهذا المعنى ذكر العفو بكلمة { عَسَى } لا بالكلمة الدالة على القطع . ثم قال تعالى : { وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً } ذكر الزجاج في { كَانَ } ثلاثة أوجه : الأول : كان قبل أن خلق الخلق موصوفاً بهذه الصفة . الثاني : أنه قال { كَانَ } مع أن جميع العباد بهذه الصفة والمقصود بيان أن هذه عادة الله تعالى أجراها في حق خلقه . الثالث : لو قال : إنه تعالى عفو غفور كان هذا إخباراً عن كونه كذلك فقط ، ولما قال إنه كان كذلك كان هذا إخباراً وقع مخبره على وفقه فكان ذلك أدل على كونه صدقاً وحقاً ومبرأ عن الخلف والكذب . واحتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى قد يعفو عن الذنب قبل التوبة فإنه لو لم يحصل ههنا شيء من الذنب لامتنع حصول العفو والمغفرة فيه ، فلما أخبر بالعفو والمغفرة دلّ على حصول الذنب ، ثم إنه تعالى وعد بالعفو مطلقاً غير مقيد بحال التوبة فيدل على ما ذكرناه .