Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 40, Ayat: 10-12)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى لما عاد إلى شرح أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله وهم الذين ذكرهم الله في قوله { مَا يُجَـٰدِلُ فِى ءايَـٰتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ غافر : 4 ] بين أنهم في القيامة يتعرفون بذنوبهم واستحقاقهم العذاب الذي ينزل بهم ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط منهم فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ } وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : في الآية حذف وفيها أيضاً تقديم وتأخير ، أما الحذف فتقديره لمقت الله إياكم ، وأما التقديم والتأخير فهو أن التقدير أن يقال لمقت الله لكم حال ما تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم وفي تفسير مقتهم أنفسهم وجوه الأول : أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على التكذيب بهذه الأشياء في الدنيا الثاني : أن الأتباع يشتد مقتهم للرؤساء الذين دعوهم إلى الكفر في الدنيا ، والرؤساء أيضاً يشتد مقتهم للأتباع فعبر عن مقت بعضهم بعضاً بأنهم مقتوا أنفسهم ، كما أنه تعالى قال : { فَٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } [ البقرة : 54 ] والمراد قتل بعضهم بعضاً الثالث : قال محمد بن كعب إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله { وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ } - إلى قوله - { وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ } [ إبراهيم : 22 ] ففي هذه الحالة مقتوا أنفسهم ، واعلم أنه لا نزاع أن مقتهم أنفسهم إنما يحصل في يوم القيامة ، أما مقت الله لهم ففيه وجهان الأول : أنه حاصل في الآخرة ، والمعنى لمقت الله لكم في هذا الوقت أشد من مقتكم أنفسكم في هذا الوقت والثاني : وعليه الأكثرون أن التقدير لمقت الله لكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون ، أكبر من مقتكم أنفسكم الآن ففي تفسير الألفاظ المذكورة في الآية أوجه الأول : أن الذين ينادونهم ويذكرون لهم هذا الكلام هم خزنة جهنم الثاني : المقت أشد البغض وذلك في حق الله تعالى محال ، فالمراد منه أبلغ الإنكار والزجر الثالث : قال الفراء { يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ ٱللَّهِ } معناه إنهم ينادون إن مقت الله أكبر يقال ناديت إن زيداً قائم وإن زيداً لقائم الرابع : قوله { إذ تدعون إلى الإيمان } فيه حذف والتقدير لمقت الله لكم إذ تدعون إلى الإيمان فتأتون بالكفر أكبر من مقتكم الآن أنفسكم . ثم إنه تعالى بيّـن أن الكفار إذا خاطبوا بهذا الخطاب { قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ } إلى آخر الآية ، والمعنى أنهم لما عرفوا أن الذي كانوا عليه في الدنيا كان فاسداً باطلاً تمنوا الرجوع إلى الدنيا لكي يشتغلوا عند الرجوع إليها بالأعمال الصالحة ، وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : احتج أكثر العلماء بهذه الآية في إثبات عذاب القبر ، وتقرير الدليل أنهم أثبتوا لأنفسهم موتتين حيث قالوا { رَبَّنَا أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ } فأحد الموتتين مشاهد في الدنيا فلا بد من إثبات حياة أخرى في القبر حتى يصير الموت الذي يحصل عقيبها موتاً ثانياً ، وذلك يدل على حصول حياة في القبر ، فإن قيل قال كثير من المفسرين الموتة الأولى إشارة إلى الحالة الحاصلة عند كون الإنسان نطفة وعلقة والموتة الثانية إشارة إلى ما حصل في الدنيا ، فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك ، والذي يدل على أن الأمر ما ذكرناه قوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا فَأَحْيَـٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } [ البقرة : 28 ] والمراد من قوله { وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا } الحالة الحاصلة عند كونه نطفة وعلقة وتحقيق الكلام أن الإماتة تستعمل بمعنيين أحدهما : إيجاد الشيء ميتاً والثاني : تصيير الشيء ميتاً بعد أن كان حياً كقولك وسع الخياط ثوبي ، يحتمل أنه خاطه واسعاً ويحتمل أنه صيره واسعاً بعد أن كان ضيقاً ، فلم لا يجوز في هذه الآية أن يكون المراد بالإماتة خلقها ميتة ، ولا يكون المراد تصييرها ميتة بعد أن كانت حية . السؤال الثاني : أن هذا كلام الكفار فلا يكون حجة . السؤال الثالث : أن هذه الآية تدل على المنع من حصول الحياة في القبر ، وبيانه أنه لو كان الأمر كذلك لكان قد حصلت الحياة ثلاث مرات أولها : في الدنيا ، وثانيها : في القبر ، وثالثها : في القيامة ، والمذكور في الآية ليس إلا حياتين فقط ، فتكون إحداهما الحياة في الدنيا والحياة الثانية في القيامة والموت الحاصل بينهما هو الموت المشاهد في الدنيا . السؤال الرابع : أنه إن دلت هذه الآية على حصول الحياة في القبر فههنا ما يدل على عدمه وذلك بالمنقول والمعقول ، أما المنقول فمن وجوه الأول : قوله تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ٱلَّيْلِ سَـٰجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ ٱلأَخِرَةَ وَيَرْجُو رَّحْمَةِ رَبّهِ } [ الزمر : 9 ] فلم يذكر في هذه الآية إلا الحذر عن الآخرة ، ولو حصلت الحياة في القبر لكان الحذر عنها حاصلاً ، ولو كان الأمر كذلك لذكره ، ولما لم يذكره علمنا أنه غير حاصل الثاني : أنه تعالى حكى في سورة الصافات عن المؤمنين المحقين أنهم يقولون بعد دخولهم في الجنة { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا ٱلأولَىٰ } [ الصافات : 58 ، 59 ] ولا شك أن كلام أهل الجنة حق وصدق ولو حصلت لهم حياة في القبر لكانوا قد ماتوا موتتين ، وذلك على خلاف قوله { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا ٱلأولَىٰ } قالوا والاستدلال بهذه الآية أقوى من الاستدلال بالآية التي ذكرتموها ، لأنه الآية التي تمسكنا بها حكاية قول المؤمنين الذين دخلوا الجنة والآية التي تمسكتم بها حكاية قول الكافرين الذين دخلوا النار . وأما المعقول فمن وجوه الأول : وهو أن الذي افترسته السباع وأكلته لو أعيد حياً لكان إما أن يعاد حياً بمجموعة أو بأحاد أجزائه ، والأول باطل لأن الحس يدل على أنه لم يحصل له مجموع ، والثاني باطل لأنه لما أكلته السباع ، فلو جعلت تلك الأجزاء أحياء لحصلت أحياء في معدة السباع وفي أمعائها ، وذلك في غاية الاستبعاد . الثاني : أن الذي مات لو تركناه ظاهراً بحيث يراه كل واحد فإنهم يرونه باقياً على موته ، فلو جوزنا مع هذه الحالة أنه يقال إنه صار حياً لكان هذا تشكيكاً في المحسوسات ، وإنه دخول في السفسطة والجواب قوله لم لا يجوز أن تكون الموتة الأولى هي الموتة التي كانت حاصلة حال ما كان نطفة وعلقة ؟ فنقول هذا لا يجوز ، وبيانه أن المذكور في الآية أن الله أماتهم ولفظ الإماتة مشروط بسبق حصول الحياة إذ لو كان الموت حاصلاً قبل هذه الحالة امتنع كون هذا إماتة ، وإلا لزم تحصيل الحاصل وهو محال وهذا بخلاف قوله { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوٰتًا } لأن المذكور في هذه الآية أنهم كانوا أمواتاً وليس فيها أن الله أماتهم بخلاف الآية التي نحن في تفسيرها ، لأنها تدل على أن الله تعالى أماتهم مرتين ، وقد بينا أن لفظ الإماتة لا يصدق إلا عند سبق الحياة فظهر الفرق . أما قوله إن هذا كلام الكفار فلا يكون حجة ، قلنا لما ذكروا ذلك لم يكذبهم الله تعالى إذ لو كانوا كاذبين لأظهر الله تكذيبهم ، ألا ترى أنهم لما كذبوا في قولهم { وَٱللَّهِ رَبّنَا مَا كُنا مُشْرِكِينَ } كذبهم الله في ذلك فقال : { ٱنظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ } [ الأنعام : 23 ، 24 ] وأما قوله ظاهر الآية يمنع من إثبات حياة في القبرة إذ لو حصلت هذه الحياة لكان عدد الحياة ثلاث مرات لا مرتين ، فنقول الجواب عنه من وجوه : الأول : هو أن مقصودهم تعديل أوقات البلاء والمحنة وهي أربعة الموتة الأولى ، والحياة في القبر ، والموتة الثانية ، والحياة في القيامة ، فهذه الأربعة أوقات البلاء والمحنة ، فأما الحياة في الدنيا فليست من أقسام أوقات البلاء والمحنة فلهذا السبب لم يذكروها الثاني : لعلهم ذكروا الحياتين : وهي الحياة في الدنيا ، والحياة في القيامة ، أما الحياة في القبر فأهملوا ذكرها لقلة وجودها وقصر مدتها الثالث : لعلهم لما صاروا أحياء في القبور لم يموتوا بل بقوا أحياء ، إما في السعادة ، وإما في الشقاوة ، واتصل بها حياة القيامة فكانوا من جملة من أرادهم الله بالاستثناء في قوله { فَصَعِقَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَن فِى ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء ٱللَّهُ } [ الزمر : 68 ] الرابع : لو لم تثبت الحياة في القبر لزم أن لا يحصل الموت إلا مرة واحدة فكان إثبات الموت مرتين كذباً وهو على خلاف لفظ القرآن ، أما لو أثبتنا الحياة في القبر لزمنا إثبات الحياة ثلاث مرات والمذكور في القرآن مرتين ، أما المرة الثالثة فليس في اللفظ ما يدل على ثبوتها أو عدمها ، فثبت أن نفي حياة القبر يقتضي ترك ما دل اللفظ عليه ، فأما إثبات حياة القبر فإنه يقتضي إثبات شيء زائد على ما دل عليه اللفظ مع أن اللفظ لا إشعار فيه بثبوته ولا بعدمه فكان هذا أولى ، وأما ما ذكروه في المعارضة الأولى فنقول قوله { يَحْذَرُ ٱلآخِرَةَ } [ الزمر : 9 ] تدخل فيه الحياة الآخرة سواء كانت في القبر أو في القيامة ، وأما المعارضة الثانية فجوابها أنا نرجح قولنا بالأحاديث الصحيحة الواردة في عذاب القبر . وأما الوجهان العقليان فمدفوعان ، لأنا إذا قلنا إن الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل بل هو عبارة عن جسم نوراني سار في هذا البدن كانت الإشكالات التي ذكرتموها غير واردة في هذا الباب ، والله أعلم . المسألة الثانية : اعلم أنا لما أثبتنا حياة القبر فيكون الحاصل في حق بعضهم أربعة أنواع من الحياة وثلاثة أنواع من الموت ، والدليل عليه قوله تعالى في سورة البقرة : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَـٰهُمْ } [ البقرة : 243 ] فهؤلاء أربعة مراتب في الحياة ، حياتان في الدنيا ، وحياة في القبر ، وحياة رابعة في القيامة . المسألة الثالثة : قوله { ٱثْنَتَيْنِ } نعت لمصدر محذوف والتقدير إماتتين اثنتين ، ثم حكى الله عنهم أنهم قالوا { فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا } فإن قيل الفاء في قوله { فَٱعْتَرَفْنَا } تقتضي أن تكون الإماتة مرتين والإحياء مرتين سبباً لهذا الاعتراف فبينوا هذه السببية ، قلنا لأنهم كانوا منكرين للبعث فلما شاهدوا الإحياء بعد الإماتة مرتين لم يبق لهم عذر في الإقرار بالبعث ، فلا جرم وقع هذا الإقرار كالمسبب عن ذلك الإحياء وتلك الإماتة ، ثم قال : { فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ } أي هل إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء من سبيل ، أم اليأس وقع فلا خروج ، ولا سبيل إليه ؟ وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط ، واعلم أن الجواب الصريح عنه أن يقال لا أو نعم وهو تعالى لم يفعل ذلك بل ذكر كلاماً يدل على أنه لا سبيل لهم إلى الخروج فقال : { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِىَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ } أي ذلكم الذي أنتم فيه ، وهو أن لا سبيل لكم إلى الخروج قط ، إنما وقع بسبب كفركم بتوحيد الله تعالى ، وإيمانكم بالإشراك به { فَٱلْحُكْمُ للَّهِ } حيث حكم عليكم بالعذاب السرمدي ، وقوله { ٱلْعَلِىُّ ٱلْكَبِيرُ } دلالة على الكبرياء والعظمة ، وعلى أن عقابه لا يكون إلا كذلك ، والمشبهة استدلوا بقوله تعالى : { ٱلْعَلِيُّ } على العلو الأعلى في الجهة ، وبقوله { ٱلْكَبِيرُ } على كبر الجثة والذات ، وكل ذلك باطل ، لأنا دللنا على أن الجسمية والمكان محالان في حق الله تعالى ، فوجب أن يكون المراد من { ٱلْعَلِىُّ ٱلْكَبِيرُ } العلو والكبرياء بحسب القدرة والإلهية .