Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 40, Ayat: 64-67)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أنا بينا أن دلائل وجود الله وقدرته إما أن تكون من دلائل الآفاق أو من باب دلائل الأنفس ، أما دلائل الآفاق فالمراد كل ما هو غير الإنسان من كل هذا العالم وهي أقسام كثيرة ، والمذكور منها في هذه الآية أقسام منها أحوال الليل والنهار وقد سبق ذكره وثانيها : الأرض والسماء وهو المراد من قوله { ٱللَّهُ ٱلَّذِى جَعَـلَ لَكُـمُ ٱلأَرْضَ قَـرَاراً وَٱلسَّمَاء بِنَـاء } قال ابن عباس في قوله { قَـرَاراً } أي منزلاً في حال الحياة وبعد الموت { وَٱلسَّمَاء بِنَاء } كالقبة المضروبة على الأرض ، وقيل مسك الأرض بلا عمد حتى أمكن التصرف عليها { وَٱلسَّمَاء بِنَاء } أي قائماً ثابتاً وإلا لوقعت علينا ، وأما دلائل الأنفس فالمراد منها دلالة أحوال بدن الإنسان ودلالة أحوال نفسه على وجود الصانع القادر الحكيم ، والمذكور منها في هذه الآية قسمان أحدها : ما هو حاصل مشاهد حال كما حاله والثاني : ما كان حاصلاً في ابتداء خلقته وتكوينه . أما القسم الأول : فأنواع كثيرة والمذكور منها في هذه الآية أنواع ثلاثة أولها : حدوث صورته وهو المراد من قوله { وَصَوَّرَكُمْ } وثانيها : حسن صورته وهو المراد من قوله { فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } ، وثالثها : أنه رزقه من الطيبات وهو المراد من قوله { وَرَزَقَكُم مّنَ ٱلطَّيّبَاتِ } وقد أطنبنا في تفسير هذه الأشياء في هذا الكتاب مراراً لا سيما في تفسير قوله تعالى { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ } [ الإسراء : 70 ] ولما ذكر الله تعالى هذه الدلائل الخمسة اثنين من دلائل الآفاق وثلاثة من دلائل الأنفس قال : { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُـمْ فَتَـبَـٰرَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } وتفسير تبارك إما الدوام والثبات وإما كثرة الخيرات ، ثم قال : { هُوَ ٱلْحَىُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } وهذا يفيد الحصر وأن لا حي إلا هو ، فوجب أن يحمل ذلك على الحي الذي يمتنع أن يموت امتناعاً ذاتياً وحينئذٍ لا حي إلا هو فكأنه أجرى الشيء الذي يجوز زواله مجرى المعدوم . واعلم أن الحي عبارة عن الدراك الفعال والدراك إشارة إلى العلم التام ، والفعال إشارة إلى القدرة الكاملة ، ولما نبه على هاتين الصفتين من صفات الجلال نبه على الصفة الثالثة وهي : الوحدانية بقوله لا إله إلا هو ، ولما وصفه بهذه الصفات أمر العباد بشيئين أحدها : بالدعاء والثاني : بالإخلاص فيه ، فقال : { فَـٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } ثم قال : { الحمد لله رب العالمين } فيجوز أن يكون المراد قول : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } ويجوز أن يكون المراد أنه لما كان موصوفاً بصفات الجلال والعزة استحق لذاته أن يقال له الحمد لله رب العالمين ولما بيّـن صفات الجلال والعظمة قال : { قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } فأورد ذلك على المشركين بألين قول ليصرفهم عن عبادة الأوثان ، وبيّـن أن وجه النهي في ذلك ما جاءه من البينات ، وتلك البينات أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفاً بصفات الجلال والعظمة على ما تقدم ذكره ، وصريح العقل يشهد بأن العبادة لا تليق إلا به ، وأن جعل الأحجار المنحوتة والخشب المصورة شركاء له في المعبودية مستنكر في بديهة العقل . ولما بيّـن أنه أمر بعبادة الله تعالى فقال : { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } وإنما ذكر هذه الأحكام في حق نفسه لأنهم كانوا يعتقدون فيه أنه في غاية العقل وكمال الجوهر ، ومن المعلوم بالضرورة أن كل أحد فإنه لا يريد لنفسه إلا الأفضل الأكمل ، فإذا ذكر أن مصلحته لا تتم إلا بالإعراض عن غير الله والإقبال بالكلية على طاعة الله ظهر به أن هذا الطريق أكمل من كل ما سواه ، ثم قال : { هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ } . واعلم أنا قد ذكرنا أن الدلائل على قسمين دلائل الآفاق والأنفس ، أما دلائل الآفاق فكثيرة والمذكور منها في هذه الآية أربعة : الليل والنهار والأرض والسماء ، وأما دلائل الأنفس فقد ذكرنا أنها على قسمين أحدها : الأحوال الحاضرة حال كمال الصحة وهي أقسام كثيرة ، والمذكور ههنا منها ثلاثة أنواع : الصورة وحسن الصورة ورزق الطيبات . وأما القسم الثاني : وهو كيفية تكون هذا البدن من ابتداء كونه نطفة وجنيناً إلى آخر الشيخوخة والموت فهو المذكور في هذه الآية فقال : { هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } فقيل المراد آدم ، وعندي لا حاجة إليه لأن كل إنسان فهو مخلوق من المني ومن دم الطمث ، والمني مخلوق من الدم فالإنسان مخلوق من الدم والدم إنما يتولد من الأغذية والأغذية إما حيوانية وإما نباتية ، والحال في تكون ذلك الحيوان كالحال في تكون الإنسان ، فالأغذية بأسرها منتهية إلى النباتية والنبات إنما يكون من التراب والماء ، فثبت أن كل إنسان فهو متكون من التراب ، ثم إن ذلك التراب يصير نطفة ثم علقة بعد كونه علقة مراتب كثيرة إلى أن ينفصل من بطن الأم ، فالله تعالى ترك ذكرها ههنا لأجل أنه تعالى ذكرها في سائر الآيات . واعلم أنه تعالى رتب عمر الإنسان على ثلاث مراتب أولها : كونه طفلاً ، وثانيها : أن يبلغ أشده ، وثالثها : الشيخوخة وهذا ترتيب صحيح مطابق للعقل ، وذلك لأن الإنسان في أول عمره يكون في التزايد والنشوء والنماء وهو المسمى بالطفولية والمرتبة الثانية : أن يبلغ إلى كمال النشوء وإلى أشد السن من غير أن يكون قد حصل فيه نوع من أنواع الضعف ، وهذه المرتبة هي المراد من قوله { لتبلغوا أشدكم } والمرتبة الثالثة : أن يتراجع ويظهر فيه أثر من آثار الضعف والنقص ، وهذه المرتبة هي المراد من قوله { ثُمَّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخاً } وإذا عرفت هذا التقسيم عرفت أن مراتب العمر بحسب هذا التقسيم لا تزيد على هذه الثلاثة ، قال صاحب « الكشاف » قوله { لِتَـبْلُغُواْ أَشُدَّكُـمْ } متعلق بفعل محذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا . ثم قال : { وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ } أي من قبل الشيخوخة أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطاً . ثم قال : { وَلِتَبْلُغُواْ أَجَلاً مُّسَمًّى } ومعناه يفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مسمى وهو وقت الموت وقيل يوم القيامة . ثم قال : { وَلَعَلَّـكُمْ تَعْقِلُونَ } ما في هذه الأحوال العجيبة من أنواع العبر وأقسام الدلائل .