Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 41, Ayat: 19-24)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
واعلم أنه تعالى لما بيّن كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا أردفه بكيفية عقوبتهم في الآخرة ، ليحصل منه تمام الاعتبار في الزجر والتحذير ، وقرأ نافع { نَحْشُرُ } بالنون { أَعْدَاء } بالنصب أضاف الحشر إلى نفسه ، والتقدير يحشر الله عزّ وجلّ أعداءه الكفار من الأولين والآخرين وحجته أنه معطوف على قوله { وَنَجَّيْنَا } [ فصلت : 18 ] فيحسن أن يكون على وفقه في اللفظ ، ويقويه قوله { وَيَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ } [ مريم : 85 ] { وَحَشَرْنَـٰهُمْ } [ الكهف : 47 ] وأما الباقون فقرؤا على فعل ما لم يسم فاعله لأن قصة ثمود قد تمت وقوله { وَيَوْمَ يُحْشَرُ } ابتداء كلام آخر ، وأيضاً الحاشرون لهم هم المأمورون بقوله { ٱحْشُرُواْ } [ الصافات : 22 ] وهم الملائكة ، وأيضاً أن هذه القراءة موافقة لقوله { فَهُمْ يُوزَعُونَ } [ فصلت : 19 ] وأيضاً فتقدير القراءة الأولى أن الله تعالى قال : { وَيَوْمَ نَحْشُرُ أَعْدَاء ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ } فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال ويوم نحشر أعداءنا إلى النار . واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أعداء الله يحشرون إلى النار قال : { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي يحبس أولهم على آخرهم ، أي يوقف سوابقهم حتى يصل إليهم تواليهم ، والمقصود بيان أنهم إذا اجتمعوا سألوا عن أعمالهم . ثم قال : { حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـٰرُهُمْ وَجُلُودُهُم } وفيه مسائل : المسألة الأولى : التقدير حتى إذا جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ، وعلى هذا التقدير فكلمة { مَا } صلة ، وقيل فيها فائدة زائدة وهي تأكيد أن عند مجيئهم لا بد وأن تحصل هذه الشهادة كقوله { أثم إذا ما وقع آمنتم به } [ يونس : 51 ] أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به . المسألة الثانية : روي أن العبد يقول يوم القيامة : يا رب العزة ألست قد وعدتني أن لا تظلمني ، فيقول الله تعالى فإن لك ذلك ، فيقول العبد إني لا أقبل على نفسي شاهداً إلا من نفسي ، فيختم الله على فيه وينطق أعضاءه بالأعمال التي صدرت منه ، فذلك قوله { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـٰرُهُمْ وَجُلُودُهُم } واختلف الناس في كيفية الشهادة وفيه ثلاثة أقوال أحدها : أنه تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه والثاني : أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني كما خلق الكلام في الشجرة والثالث : أن يظهر تلك الأعضاء أحوالاً تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان ، وتلك الأمارات تسمى شهادات ، كما يقال يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه ، واعلم أن هذه المسألة صعبة على المعتزلة أما القول الأول : فهو صعب على مذهبهم لأن البنية عندهم شرط لحصول العقل والقدرة فاللسان مع كونه لساناً يمتنع أن يكون محلاً للعلم والعقل ، فإن غير الله تعالى تلك البنية والصورة خرج عن كونه لساناً وجلداً ، وظاهر الآية يدل على إضافة تلك الشهادة إلى السمع والبصر والجلود ، فإن قلنا إن الله تعالى ما غير بنية هذه الأعضاء فحينئذ يمتنع عليها كونها ناطقة فاهمة ، وأما القول الثاني : وهو أن يقال إن الله تعالى خلق هذه الأصوات والحروف في هذه الأعضاء ، وهذا أيضاً باطل على أصول المعتزلة لأن مذهبهم أن المتكلم هو الذي فعل الكلام ، لا ما كان موصوفاً بالكلام ، فإنهم يقولون إن الله تعالى خلق الكلام في الشجرة وكان المتكلم بذلك الكلام هو الله تعالى لا الشجرة ، فههنا لو قلنا إن الله خلق الأصوات والحروف في تلك الأعضاء لزم أن يكون الشاهد هو الله تعالى لا تلك ، ولزم أن يكون المتكلم بذلك الكلام هو الله لا تلك الأعضاء ، وظاهر القرآن يدل على أن تلك الشهادة شهادة صدرت من تلك الأعضاء لا من الله تعالى لأنه تعالى قال : { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـٰرُهُمْ وَجُلُودُهُم } وأيضاً أنهم قالوا لتلك الأعضاء { لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } فقالت الأعضاء { أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْء } وكل هذه الآيات دالة على أن المتكلم بتلك الكلمات هي تلك الأعضاء ، وأن تلك الكلمات ليست كلام الله تعالى ، فهذا توجيه الإشكال على هذين القولين ، وأما القول الثالث : وهو تفسير هذه الشهادة بظهور أمارات مخصوصة على هذه الأعضاء دالة على صدور تلك الأعمال منهم ، فهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والأصل عدمه ، فهذا منتهى الكلام في هذا البحث ، أما على مذهب أصحابنا فهذا الإشكال غير لازم ، لأن عندنا البنية ليست شرطاً للحياة ولا للعلم ولا للقدرة ، فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء ، وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البنية ليست شرطاً للحياة ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة ، والله أعلم . المسألة الثالثة : ما رأيت للمفسرين في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر سبباً وفائدة ، وأقول لا شك أن الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس ، ولا شك أن آلة اللمس هي الجلد ، فالله تعالى ذكر ههنا من الحواس وهي السمع والبصر واللمس ، وأهمل ذكر نوعين وهما الذوق والشم ، لأن الذوق دالخل في اللمس من بعض الوجوه ، لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان والحنك مماسة لجرم الطعام ، فكان هذا داخلاً فيه فبقي حس الشم وهو حس ضعيف في الإنسان ، وليس لله فيه تكليف ولا أمر ولا نهي ، إذا عرفت هذا فنقول نقل عن ابن عباس أنه قال المراد من شهادة الجلود شهادة االفروج قال وهذا من باب الكنايات كما قال : { وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا } [ البقرة : 235 ] وأراد النكاح وقال : { أَوْ جَاء مّنْكُمْ مّن ٱلْغَائِطِ } [ النساء : 43 ] والمراد قضاء الحاجة وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه " " وعلى هذا التقدير فتكون هذه الآية وعيداً شديداً في الإتيان بالزنا ، لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالكف ، ونهاية الأمر فيها إنما تحصل بالفخذ . ثم حكى الله تعالى أنهم يقولون لتلك الأعضاء { لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَىْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } ومعناه أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حالما كنتم في الدنيا ثم على خلقكم وإنطاقكم في المرة الثانية وهي حال القيامة والبعث كيف يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء ؟ ثم قال تعالى : { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَـٰرُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ } والمعنى إثبات أنهم كانوا يستترون عند الإقدام على الأعمال القبيحة ، إلا أن استتارهم ما كان لأجل خوفهم من أن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم وذلك لأنهم كانوا منكرين للبعث والقيامة ، ولكن ذلك الاستتار لأجل أنهم كانوا يظنون أن الله لا يعلم الأعمال التي يقدمون عليها على سبيل الخفية والاستتار . عن ابن مسعود قال : كنت مستتراً بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر على ثقفيان وقرشي فقال أحدهم : أترون الله يسمع ما تقولون ؟ فقال الرجلان إذا سمعنا أصواتنا سمع وإلا لم يسمع . فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ } . ثم قال تعالى : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ ٱلُخَـٰسِرِينَ } وهذا نص صريح في أن من ظن بالله تعالى أنه يخرج شيء من المعلومات عن علمه فإنه يكون من الهالكين الخاسرين ، قال أهل التحقيق الظن قسمان ظن حسن بالله تعالى وظن فاسد ، أما الظن الحسن فهو أن يظن به الرحمة والفضل ، قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله عزّ وجلّ : " " أنا عند ظن عبدي بي " " وقال صلى الله عليه وسلم : " " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله " " والظن القبيح فاسد وهو أن يظن بالله أنه يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال ، وقال قتادة : الظن نوعان ظن منج وظن مرد ، فالمنج قوله { إِنّي ظَنَنتُ أَنّي مُلَـٰقٍ حِسَابِيَهْ } [ الحاقة : 20 ] وقوله { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُوا رَبّهِمْ } [ البقرة : 46 ] ، وأما الظن المردي فهو قوله { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ٱلَّذِي ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ } قال صاحب « الكشاف » { وَذَٰلِكُمْ } رفع بالابتداء { وظنكم } و { أَرْدَاكُمْ } خبران ويجوز أن يكون ظنكم بدلاً من ذلٰكم وأرداكم الخبر . ثم قال : { فَإِن يَصْبِرُواْ فَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } يعني إن أمسكوا عن الاستغاثة لفرج ينتظرونه لم يجدوا ذلك وتكون النار مثوى لهم أي مقاماً لهم { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ } أي لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها ، ونظيره قوله تعالى : { أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } [ إبراهيم : 21 ] وقرىء وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين أي أن يسألوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون أي لا سبيل لهم إلى ذلك .