Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 41, Ayat: 30-32)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

أعلم أنه تعالى لما أطنب في الوعيد أردفه بهذا الوعد الشريف ، وهذا ترتيب لطيف مدار كل القرآن عليه ، وقد ذكرنا مراراً أن الكمالات على ثلاثة أقسام النفسانية والبدنية والخارجية وأشرف المراتب النفسانية وأوسطها البدنية وأدونها الخارجية ، وذكرنا أن الكمالات النفسانية محصورة في نوعين العلم اليقيني والعمل الصالح ، فإن أهل التحقيق قالوا كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ورأس المعارف اليقينية ورئيسها معرفة الله وإليه الإشارة بقوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ } ورأس الأعمال الصالحة ورئيسها أن يكون الإنسان مستقيماً في الوسط غير مائل إلى طرفي الإفراط والتفريط ، كما قال : { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [ البقرة : 143 ] وقال أيضاً : { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وإليه الإشارة في هذه الآية بقوله { ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } وسمعت أن القارىء قرأ في مجلس العبادي هذه الآية ، فقال العبادي : والقيامة في القيامة ، بقدر الاستقامة ، إذا عرفت هذا فنقول : قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } ليس المراد منه القول باللسان فقط لأن ذلك لا يفيد الاستقامة ، فلما ذكر عقيب ذلك القول الاستقامة علمنا أن ذلك القول كان مقروناً باليقين التام والمعرفة الحقيقية ، إذ عرفت هذا فنقول في الاستقامة قولان أحدهما : أن المراد منه الاستقامة في الدين والتوحيد والمعرفة الثاني : أن المراد منه الاستقامة في الأعمال الصالحة أما على القول الأول ففيه عبارات : قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : ثم استقاموا أي لم يتلفتوا إلى إله غيره ، قال ابن عباس في بعض الروايات هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه وقع في أنواع شديدة من البلاء والمحنة ولم يتغير ألبتة عن دينه ، فكان هو الذي قال : { رَبُّنَا ٱللَّهُ } وبقي مستقيماً عليه لم يتغير بسبب من الأسباب ، وأقول يمكن فيه وجوه أخرى ، وذلك أن من أقر بأن لهذا العالم إلهاً بقيت له مقامات أخرى فأولها : أن لا يتوغل في جانب النفي إلى حيث ينتهي إلى التعطيل ، ولا يتوغل في جانب الاثبات إلى حيث ينتهي إلى التشبيه ، بل يبقى على الخط المستقيم الفاصل بين التشبيه والتعطيل ، وأيضاً يجب أن يبقى على الخط المستقيم الفاصل بين الجبر والقدر ، وكذا في الرجاء والقنوط يجب أن يكون على الخط المتسقيم ، فهذا هو المراد من قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } وأما على القول الثاني وهو أن نحمل الاستقامة على الإتيان بالأعمال الصالحة ، فهذا قول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين ، قالوا وهذا أولى حتى يكون قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ } متناولاً للقول والاعتقاد ويكون قوله { ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } متناولاً للأعمال الصالحة . ثم قال : { تَتَنَزَلَ عَلَيْهِمْ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ } قيل عند الموت وقيل في مواقف ثلاثة عند الموت وفي القبر وعند البعث إلى القيامة { أَلاَّ تَخَافُواْ } أن بمعنى أي أو بمخففة من الثقيلة وأصله بأنه لا تخافوا والهاء ضمير لشأن واعلم أن الغاية القصوى في رعاية المصالح دفع المضار وجلب المنافع ، ومعلوم أن دفع المضرة أولى بالرعاية من جلب المصلحة ، والمضرة إما أن تكون حاصلة في المستقبل أو في الحال أو في الماضي ، وههنا دقيقة عقلية وهي أن المتسقبل مقدم على الحاضر والحاضر مقدم على الماضي ، فإن الشيء الذي لم يوجد ويتوقع حدوثه يكون مستقبلاً ، فإذا وجد يصير حاضراً ، فإذا عدم وفني بعد ذلك يصير ماضياً ، وأيضاً المستقبل في كل ساعة يصير أقرب حصولاً والماضي في كل حالة أبعد حصولاً ، ولهذا قال الشاعر : @ فلا زال ما تهواه أقرب من غد ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس @@ وإذا ثبت هذا فالمضار التي يتوقع حصولها في المستقبل أولى بالدفع من المضار الماضية ، وأيضاً الخوف عبارة عن تألم القلب بسبب توقع حصول مضرة في المستقبل ، والغم عبارة عن تألم القلب بسبب قوة نفع كان موجوداً في الماضي ، وإذا كان كذلك فدفع الخوف أولى من دفع الحزن الحاصل بسبب الغم ، إذا عرفت هذا ، فنقول : إنه تعالى أخبر عن الملائكة أنهم في أول الأمر يخبرون بأنه لا خوف عليكم بسبب ما تستقبلونه من أحوال القيامة ، ثم يخبرون بأنه لا حزن عليكم بسبب ما فاتكم من أحوال الدنيا ، وعند حصول هذين الأمرين فقد زالت المضار والمتاعب بالكلية ، ثم بعد الفراغ منه يبشرون بحصول المنافع وهو قوله تعالى : { وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } فإن قيل البشارة عبارة عن الخبر الأول بحصول المنافع ، فأما إذا أخبر الرجل بحصول منفعة ثم أخبر ثانياً بحصولها كان الإخبار الثاني إخباراً ولا يكون بشارة ، والمؤمن قد يسمع بشارات الخير فإذا سمع المؤمن هذا الخبر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخباراً ولا يكون بشارة ، فما السبب في تسمية هذا الخبر بالبشارة ، قلنا المؤمن يسمع أن من كان مؤمناً تقياً كان له الجنة ، أما من لم يسمع ألبتة أنه من أهل الجنة فإذا سمع هذا الكلام من الملائكة كان هذا إخباراً بنفع عظيم مع أنه هو الخبر الأول بذلك فكان ذلك بشارة . واعلم أن هذا الكلام يدل على أن المؤمن عند الموت وفي القبر وعند البعث لا يكون فازعاً من الأهوال ومن الفزع الشديد ، بل يكون آمن القلب ساكن الصدر لأن قوله { أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } يفيد نفي الخوف والحزن على الإطلاق . ثم إنه تعالى أخبر عن الملائكة أنهم قالوا للمؤمنين { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلأَخِرَةِ } وهذا في مقابلة ما ذكره في وعيد الكفار حيث قال : { وَقيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء } [ فصلت : 25 ] ومعنى كونهم أولياء للمؤمنين أن للملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية ، بالإلهامات والمكاشفات اليقينية ، والمقامات الحقيقية ، كما أن للشياطين تأثيرات في الأوراح بإلقاء الوساوس فيها وتخييل الأباطيل إليها . وبالجملة فكون الملائكة أولياء للأرواح الطيبة الطاهرة حاصل من جهات كثيرة معلومة لأرباب المكاشفات والمشاهدات ، فهم يقولون : كما أن تلك الولاية كانت حاصلة في الدينا فهي تكون باقية في الآخرة فإن تلك العلائق ذاتية لازمة غير قابلة للزوال ، بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى ، وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة ، وهي كالشعلة بالنسبة إلى الشمس ، والقطرة بالنسبة إلى البحر ، والتعلقات الجسمانية هي التي تحول بينها وبين الملائكة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " " لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات " " فإذا زالت العلائق الجسمانية والتدبيرات البدنية ، فقد زال الغطاء والوطاء ، فيتصل الأثر بالمؤثر ، والقطرة بالبحر ، والشعلة بالشمس ، فهذا هو المراد من قوله { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُنيا وَفِي ٱلأَخِرَةِ } ثم قال : { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } قال ابن عباس : { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } أي ما تتمنون ، كقوله تعالى : { لَهُمْ فِيهَا فَـٰكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } [ يس : 57 ] فإن قيل فعلى هذا التفسير لا يبقى فرق بين قوله { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ } وبين قوله { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } قلنا : الأقرب عندي أن قوله { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ } إشارة إلى الجنة الجسمانية ، وقوله { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } إشارة إلى الجنة الروحانية المذكورة في قوله { دَعْوٰهُمْ فِيهَا سُبْحَـٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَءاخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [ يونس : 10 ] . ثم قال : { نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } والنزل : رزق النزيل وهو الضيف ، وانتصابه على الحال ، قال العارفون : دلّت هذه الآية على أن كل هذه الأشياء المذكورة جارية مجرى النزل ، والكريم إذ أعطى النزل فلا بد وأن يبعث الخلع النفيسة بعدها ، وتلك الخلع النفيسة ليست إلا السعادات الحاصلة عند الرؤية والتجلي والكشف التام ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا لها أهلاً بفضله وكرمه ، إنه قريب مجيب .