Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 42, Ayat: 13-19)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى لما عظم وحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بقوله { كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [ الشورى : 3 ] ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك فقال : { شَرَعَ لَكُم مّنَ ٱلِدِينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً } والمعنى شرع الله لكم يا أصحاب محمد من الدين ما وصى به نوحاً ومحمداً وإبراهيم وموسى وعيسى ، هذا هو المقصود من لفظ الآية ، وإنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة ، إلا أنه بقي في لفظ الآية إشكالات أحدها : أنه قال في أول الآية { مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً } وفي آخرها { وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ } وفي الوسط { وَٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } فما الفائدة في هذا التفاوت ؟ وثانيها : أنه ذكر نوحاً عليه السلام على سبيل الغيبة فقال : { مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً } والقسمين الباقيين على سبيل التكلم فقال : { وَٱلَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ } وثالثها : أنه يصير تقدير الآية : شرع الله لكم من الدين الذي أوحينا إليك فقوله { شَرَعَ لَكُم } خطاب الغيبة وقوله { وَٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } خطاب الحضور ، فهذا يقتضي الجمع بين خطاب الغيبة وخطاب الحضور في الكلام الواحد بالاعتبار الواحد ، وهو مشكل ، فهذه المضايق يجب البحث عنها والقوم ما داروا حولها ، وبالجملة فالمقصود من الآية أنه يقال شرع لكم من الدين ديناً تطابقت الأنبياء على صحته ، وأقول يجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئاً مغايراً للتكاليف والأحكام ، وذلك لأنها مختلفة متفاوتة قال تعالى : { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَـٰجاً } [ المائدة : 48 ] فيجب أن يكون المراد منه الأمور التي لا تختلف باختلاف الشرائع ، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، والإيمان يوجب الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والسعي في مكارم الأخلاق والاحتراز عن رذائل الأحوال ، ويجوز عندي أن يكون المراد من قوله { وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ } أي لا تتفرقوا بالآلهة الكثيرة ، كما قال يوسف عليه السلام : { أأربابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ } [ يوسف : 39 ] وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] واحتج بعضهم بقوله { شَرَعَ لَكُم مّنَ ٱلِدِينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً } على أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر كان مبعوثاً بشريعة نوح عليه السلام ، والجواب ما ذكرناه أنه عطف عليه سائر الأنبياء وذلك يدل على أن المراد هو الأخذ بالشريعة المتفق عليها بين الكل ، ومحل { أَنْ أَقيمُوا ٱلدِّينَ } إما نصب بدل من مفعول { شَرَعَ } والمعطوفين عليه ، وإما رفع على الاستئناف كأنه قيل ما ذاك المشروع ؟ فقيل هو إقامة الدين { كَبُرَ عَلَى ٱلْمُشْرِكِينَ } عظم عليهم وشق عليهم { مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } من إقامة دين الله تعالى على سبيل الاتفاق والإجماع ، بدليل أن الكفار قالوا { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وٰحِداً إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْء عُجَابٌ } [ صۤ : 5 ] وههنا مسائل : المسألة الأولى : احتج نفاة القياس بهذه الآية قالوا إنه تعالى أخبر أن أكابر الأنبياء أطبقوا على أنه يجب إقامة الدين بحيث لا يفضي إلى الاختلاف والتنازع ، والله تعالى ذكر في معرض المنّة على عباده أنه أرشدهم إلى الدين الخالي عن التفرق والمخالفة ومعلوم أن فتح باب القياس يفضي إلى أعظم أنواع التفرق والمنازعة ، فإن الحس شاهد بأن هؤلاء الذين بنوا دينهم على الأخذ بالقياس تفرقوا تفرقاً لا رجاء في حصول الاتفاق بينهم إلى آخر القيامة ، فوجب أن يكون ذلك محرماً ممنوعاً عنه . المسألة الثانية : هذه الآية تدل على أن هذه الشرائع قسمين منها ما يمتنع دخول النسخ والتغيير فيه ، بل يكون واجب البقاء في جميع الشرائع والأديان ، كالقول بحسن الصدق والعدل والإحسان ، والقول بقبح الكذب والظلم والإيذاء ، ومنها ما يختلف باختلاف الشرائع والأديان ، ودلت هذه الآية على أن سعي الشرع في تقرير النوع الأول أقوى من سعيه في تقرير النوع الثاني ، لأن المواظبة على القسم الأول مهمة في اكتساب الأحوال المفيدة لحصول السعادة في الدار الآخرة . المسألة الثالثة : قوله تعالى : { أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } مشعر بأن حصول الموافقة أمر مطلوب في الشرع والعقل ، وبيان منفعته من وجوه الأول : أن للنفوس تأثيرات ، وإذا تطابقت النفوس وتوافقت على واحد قوي التأثير الثاني : أنها إذا توافقت صار كل واحد منها معيناً للآخر في ذلك المقصود المعين ، وكثرة الأعوان توجب حصول المقصود ، أما إذا تخالفت تنازعت وتجادلت فضعفت فلا يحصل المقصود الثالث : أن حصول التنازع ضد مصلحة العالم لأن ذلك يفضي إلى الهرج والمرج والقتل والنهب ، فلهذا السبب أمر الله تعالى في هذه الآية بإقامة الدين على وجه لا يفضي إلى التفرق وقال في آية أخرى { وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ } [ الأنفال : 46 ] . ثم قال تعالى : { ٱللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } وفيه وجهان الأول : أنه تعالى لما أرشد أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى التمسك بالدين المتفق عليه بيّن أنه تعالى إنما أرشدهم إلى هذا الخير ، لأنه اجتباهم واصطفاهم وخصهم بمزيد الرحمة والكرامة الثاني : أنه إنما كبّر عليهم هذا الدعاء من الرسل لما فيه من الانقياد لهم تكبراً وأنفة فبيّن تعالى أنه يخص من يشاء بالرسالة ويلزم الانقياد لهم ، ولا يعتبر الحسب والنسب والغنى ، بل الكل سواء في أنه يلزمهم اتباع الرسل الذين اجتباهم الله تعالى ، واشتقاق لفظ الاجتباء يدل على الضم والجمع ، فمنه جبى الخراج واجتباه وجبى الماء في الحوض فقوله { ٱللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ } أي يضمه إليه ويقربه منه تقريب الإكرام والرحمة ، وقوله { مَن يَشَآء } كقوله تعالى : { يُعَذّبُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء } [ العنكبوت : 21 ] . ثم قال : { وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } وهو كما روي في الخبر « من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة » أي من أقبل إليّ بطاعته أقبلت إليه بهدايتي وإرشادي بأن أشرح له صدره وأسهل أمره . واعلم أنه تعالى لما بيّن أنه أمر كل الأنبياء والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه ، كان لقائل أن يقول : فلماذا نجدهم متفرقين ؟ فأجاب الله تعالى عنهم بقوله { وَمَا تَفَرَّقُواْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } يعني أنهم ما تفرقوا إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلالة ، ولكنهم فعلوا ذلك للبغي وطلب الرياسة فحملتهم الحمية النفسانية والأنفة الطبعية ، على أن ذهب كل طائفة إلى مذهب ودعا الناس إليه وقبح ما سواه طلباً للذكر والرياسة ، فصار ذلك سبباً لوقوع الاختلاف ، ثم أخبر تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل ، إلا أنه تعالى أخر عنهم ذلك العذاب ، لأن لكل عذاب عنده أجلاً مسمى ، أي وقتاً معلوماً ، إما لمحض المشيئة كما هو قولنا ، أو لأنه علم أن الصلاح تحقيقه به كما عند المعتزلة ، وهو معنى قوله { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بِيْنَهُمْ } والأجل المسمى قد يكون في الدنيا وقد يكون في القيامة ، واختلفوا في الذين أريدوا بهذه الصفة من هم ؟ فقال الأكثرون هم اليهود والنصارى ، والدليل قوله تعالى في آل عمران { وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } [ آل عمران : 19 ] وقال في سورة لم يكن { وَمَا تَفَرَّقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ ٱلْبَيّنَةُ } [ البينة : 4 ] ولأن قوله { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ٱلْعِلْمُ } لائق بأهل الكتاب ، وقال آخرون : إنهم هم العرب ، وهذا باطل للوجوه المذكورة ، لأن قوله تعالى بعد هذه الآية { وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُورِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ مِن بَعْدِهِمْ } لا يليق بالعرب ، لأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم ، هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم { لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } من كتابهم { مُرِيبٍ } لا يؤمنون به حق الإيمان . ثم قال تعالى : { فَلِذَلِكَ فَٱدْعُ وَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ } يعني فلأجل ذلك التفرق ولأجل ما حدث من الاختلافات الكثيرة في الدين ، فادع إلى الاتفاق على الملة الحنيفية واستقم عليها وعلى الدعوة إليها ، كما أمرك الله ، ولا تتبع أهواءهم المختلفة الباطلة { وَقُلْ ءَامَنتُ بِمَا أَنزَلَ ٱللَّهُ مِن كِتَـٰبٍ } أي بأي كتاب صح أن الله أنزله ، يعني الإيمان بجميع الكتب المنزلة ، لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض ، ونظيره قوله { نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ } إلى قوله { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ } [ النساء : 151 ] ثم قال : { وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } أي في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلي ، قل القفال : معناه أن ربي أمرني أن لا أفرق بين نفسي وأنفسكم بأن آمركم بما لا أعمله ، أو أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه ، لكني أسوي بينكم وبين نفسي ، وكذلك أسوي بين أكابركم وأصاغركم فيما يتعلق بحكم الله . ثم قال : { ٱللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَـٰلُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـٰلُكُمْ لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ } والمعنى أن إله الكل واحد ، وكل واحد مخصوص بعمل نفسه ، فوجب أن يشتغل كل واحد في الدنيا بنفسه ، فإن الله يجمع بين الكل في يوم القيامة ويجازيه على عمله ، والمقصود منه المتاركة واشتغال كل أحد بمهم نفسه ، فإن قيل كيف يليق بهذه المتاركة ما فعل بهم من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء ؟ قلنا هذه المتاركة كانت مشروطة بشرط أن يقبلوا الدين المتفق على صحته بين كل الأنبياء ، ودخل فيه التوحيد ، وترك عبادة الأصنام ، والإقرار بنبوة الأنبياء ، وبصحة البعث والقيامة ، فلما لم يقبلوا هذا الدين ، فحينئذٍ فات الشرط ، فلا جرم فات المشروط . وأعلم أنه ليس المراد من قوله { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } تحريم ما يجري مجرى محاجتهم ، ويدل عليه وجوه الأول : أن هذا الكلام مذكور في معرض المحاجة ، فلو كان المقصود من هذه الآية تحريم المحاجة ، لزم كونها محرمة لنفسها وهو متناقض والثاني : أنه لولا الأدلة لما توجه التكليف الثالث : أن الدليل يفيد العلم وذلك لا يمكن تحريمه ، بل المراد أن القوم عرفوا بالحجة صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما تركوا تصديقه بغياً وعناداً ، فبيّـن تعالى أنه قد حصل الاستغناء عن محاجتهم لأنهم عرفوا بالحجة صدقه فلا حاجة معهم إلى المحاجة ألبتة ، ومما يقوي قولنا : أنه لا يجوز تحريم المحاجة ، قوله { وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِىَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] وقوله تعالى : { ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبّكَ } [ النحل : 125 ] وقوله { ولا تُجَـٰدِلُواْ أَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ العنكبوت : 46 ] وقوله { يٰنُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } [ هود : 32 ] وقوله { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَـٰهَا إِبْرٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ } [ الأنعام : 83 ] . ثم قال تعالى : { وَٱلَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي ٱللَّهِ } أي يخاصمون في دينه { مِن بَعْدِ مَا ٱسَتُجِيبَ لَهُ } أي من بعد ما استجاب الناس لذلك الدين { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ } أي باطلة وتلك المخاصمة هي أن اليهود قالوا ألستم تقولون إن الأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف ؟ فنبوّة موسى وحقية التوراة معلومة بالاتفاق ، ونبوة محمد ليست متفقاً عليها ، فإذا بنيتم كلامكم في هذه الآية على أن الأخذ بالمتفق أولى ، وجب أن يكون الأخذ باليهودية أولى ، فبيّـن تعالى أن هذه الحجة داحضة ، أي باطلة فاسدة ، وذلك لأن اليهود أطبقوا على أنه إنما وجب الإيمان بموسى عليه السلام لأجد ظهور المعجزات على وفق قوله ، وههنا ظهرت المعجزات على وفق قول محمد عليه السلام ، واليهود شاهدوا تلك المعجزات ، فإن كان ظهور المعجزة يدل على الصدق ، فههنا يجب الإعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن كان لا يدل على الصدق وجب في حق موسى أن لا يقروا بنبوته . وأما الإقرار بنبوة موسى والإصرار على إنكار نبوة محمد مع استوائهما في ظهور المعجزة يكون متناقضاً ، ولما قرر الله هذه الدلائل خوف المنكرين بعذاب القيامة ، فقال : { ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنزَلَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ وَٱلْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ } والمعنى أنه تعالى أنزل الكتاب المشتمل على أنواع الدلائل والبينات ، وأنزل الميزان وهو الفصل الذي هو القسطاس المستقيم ، وأنهم لا يعلمون أن القيامة متى تفاجئهم ومتى كان الأمر كذلك ، وجب على العاقل أن يجد ويجتهد في النظر والاستدلال ، ويترك طريقة أهل الجهل والتقليد ، ولما كان الرسول يهددهم بنزول القيامة وأكثر في ذلك ، وأنهم ما رأوا منه أثراً قالوا على سبيل السخرية : فمتى تقوم القيامة ، وليتها قامت حتى يظهر لنا أن الحق ما نحن عليه أو الذي عليه محمد وأصحابه ، فلدفع هذه الشبهة قال تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا وٱلَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا } والمعنى ظهر ، وإنما يشفقون ويخافون لعلمهم أن عندها تمتنع التوبة ، وأما منكر البعث فلأن لا يحصل له هذا الخوف . ثم قال : { أَلاَ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُمَارُونَ فَي ٱلسَّاعَةِ لَفِي ضَلَـٰلٍ بَعِيدٍ } والممارة الملاجة ، قال الزجاج : الذين تدخلهم المرية والشك في وقوع الساعة ، فيمارون فيها ويجحدون { لَفِي ضَلَـٰلٍ بَعِيدٍ } لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب في العدل ، فلو لم تحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى الله تعالى ، وهذا من أمحل المحالات ، فلا جرم كان إنكار القيامة ضلالاً بعيداً . ثم قال : { ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } أي كثير الإحسان بهم ، وإنما حسن ذكر هذا الكلام ههنا لأنه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على هذه الدلائل اللطيفة ، فكان ذلك من لطف الله بعباده ، وأيضاً المتفرقون استوجبوا العذاب الشديد ، ثم إنه تعالى أخر عنهم ذلك العذاب فكان ذلك أيضاً من لطف الله تعالى ، فلما سبق ذكر إيصال أعظم المنافع إليهم ودفع أعظم المضار عنهم ، لا جرم حسن ذكره ههنا ، ثم قال : { يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ } يعني أن أصل الإحسان والبر عام في حق كل العباد ، وذلك هو الإحسان بالحياة والعقل والفهم ، وإعطاء ما لا بد منه من الرزق ، ودفع أكثر الآفات والبليات عنهم ، فأما مراتب العطية والبهجة فمتفاوتة مختلفة . ثم قال : { وهو القوي } أي القادر على كل ما يشاء { ٱلْعَزِيزُ } الذي لا يغالب ولا يدافع .