Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 42, Ayat: 32-39)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في الآية مسائل : المسألة الأولى : قرأ نافع وأبو عمرو { الجواري } بياء في الوصل والوقف ، فإثبات الياء في الأصل وحذفها للتخفيف . المسألة الثانية : الجواري ، يعني السفن الجواري ، فحذف الموصوف لعدم الالتباس . المسألة الثالثة : اعام أنه تعالى ذكر من آياته أيضاً هذه السفن العظيمة التي تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح ، واعلم أن المقصود من ذكره أمران أحدهما : أن يستدل به على وجود القادر الحكيم والثاني : أن يعرف ما فيه من النعم العظيمة لله تعالى على العباد أما الوجه الأول : فقد اتفقوا على أن المراد بالأعلام الجبال ، قالت الخنساء في مرثية أخيها : @ وإن صخراً لتأتم لهداة به كأنه علم في رأسه نار @@ ونقل أن النبي صلى الله عليه وسلم استنشد قصيدتها هذه فلما وصل الراوي إلى هذا البيت ، قال : " " قاتلها الله ما رضيت بتشبيهها له بالجبل حتى جعلت على رأسه ناراً ! " " إذا عرفت هذا فنقول : هذه السفن العظيمة التي تكون كالجبال تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح على أسرع الوجوه ، وعند سكون هذه الرياح تقف ، وقد بينا بالدليل في سورة النحل ، أن محرك الرياح ومسكنها هو الله تعالى ، إذ لا يقدر أحد على تحريكها من البشر ولا على تسكينها ، وذلك يدل على وجود الإلٰه القادر ، وأيضاً أن السفينة تكون في غاية الثقل ، ثم إنها مع ثقلها بقيت على وجه الماء ، وهو أيضاً دلالة أخرى وأما الوجه الثاني : وهو معرفة ما فيها من المنافع ، فهو أنه تعالى خص كل جانب من جوانب الأرض بنوع آخر من الأمتعة ، وإذا نقل متاع هذا الجانب إلى ذلك الجانب في السفن وبالعكس حصلت المنافع العظيمة في التجارة ، فلهذه الأسباب ذكر الله تعالى حال هذه السفينة . ثم قال تعالى : { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ ٱلرّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىٰ ظَهْرِهِ } قرأ أبو عمرو والجمهور : بهمزة { إِن يَشَأْ } لأن سكون الهمزة علامة للجزم ، وعن ورش عن نافع بلا همزة ، وقرأ نافع وحده { يُسْكِنِ ٱلرّيَاح } على الجمع ، والباقون { ٱلرّيحَ } على الواحد ، قال صاحب « الكشاف » : قرىء { يظللن } بفتح اللام وكسرها من ظل يظل ويظل ، وقوله تعالى : { رَوَاكِدَ } أي رواتب ، أي لا تجري على ظهره ، أي على ظهر البحر { إِنَّ فِى ذٰلِكَ لأَيَـٰتٍ لّكُلّ صَبَّارٍ } على بلاء الله { شَكُورٍ } لنعمائه ، والمقصود التنبيه ، على أن المؤمن يجب أن لا يكون غافلاً عن دلائل معرفة الله ألبتة ، لأنه لا بد وأن يكون إما في البلاء ، وإما في الآلاء ، فإن كان في البلاء كان من الصابرين ، وإن كان من النعماء كان من الشاكرين ، وعلى هذا التقدير فإنه لا يكون ألبتة من الغافلين . ثم قال تعالى : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } يعني أو يهلكهن ، يقال أوبقه ، أي أهلكه ، ويقال للمجرم أوبقته ذنوبه ، أي أهلكته ، والمعنى أنه تعالى إن شاء ابتلى المسافرين في البحر بإحدى بليتين : إما أن يسكن الريح فتركد الجواري على متن البحر وتقف ، وإما أن يرسل الرياح عاصفة فيها فيهلكن بسبب الإغراق ، وعلى هذا التقدير فقوله { أَوْ يُوبِقْهُنَّ } معطوف على قوله { يُسْكِنِ } لأن التقدير إن يشأ يسكن الريح فيركدن ، أو يعصفها فيغرقن بعصفها ، وقوله { وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ } معناه إن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً عن طريق العفو عنهم ، فإن قيل فما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جعل مجزوماً مثله ، قلنا معناه إن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً على طريق العفو عنهم ، وأما من قرأ { ويعفو } فقد استأنف الكلام . ثم قال : { وَيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَـٰدِلُونَ فِى ءايَـٰتِنَا مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ } قرأ نافع وابن عامر : يعلم بالرفع على الاستئناف ، وقرأ الباقون بالنصب ، فالقراءة بالرفع على الاستئناف ، وأما بالنصب فللعطف على تعليل محذوف تقديره لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون في آياتنا والعطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ومنه قوله تعالى : { وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ } [ مريم : 21 ] وقوله تعالى : { وَخَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الجاثية : 22 ] قال صاحب « الكشاف » : ومن قرأ على جزم { وَيَعْلَمَ } فكأنه قال أو إن يشأ ، يجمع بين ثلاثة أمور : هلاك قوم ، ونجاة قوم ، وتحذير آخرين . إذا عرفت هذا فنقول معنى الآية { وِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ يُجَـٰدِلُونَ } أي ينازعون على وجه التكذيب ، أن لا مخلص لهم إذا وقفت السفن ، وإذا عصفت الرياح فيصير ذلك سبباً لاعترافهم بأن الإلٰه النافع الضار ليس إلا الله . واعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد أردفها بالتفسير عن الدنيا وتحقير شأنها ، لأن الذي يمنع من قبول الدليل إنما هو الرغبة في الدنيا بسبب الرياسة وطلب الجاه ، فإذا صغرت الدنيا في عين الرجل لم يلتفت إليها ، فحينئذ ينتفع بذكر الدلائل ، فقال : { فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شَىْء فَمَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا } وسماه متاعاً تنبيهاً على قلته وحقارته ، ولأن الحس شاهد بأن كل ما يتعلق بالدنيا فإنه يكون سريع الانقراض والانقضاء . ثم قال تعالى : { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } والمعنى أن مطالب الدنيا خسيسة منقرضة ، ونبه على خساستها بتسميتها بالممتاع ، ونبّه على انقراضها بأن جعلها من الدنيا ، وأما الآخرة فإنها خير وأبقى ، وصريح العقل يقتضي ترجيح الخير الباقي على الخسيس الفاني ، ثم بيّن أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفاً بصفات : الصفة الأولى : أن يكون من المؤمنين بدليل قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ آمَنُوا } . الصفة الثانية : أن يكون من المتوكلين على فضل الله ، بدليل قوله تعالى : { وَعَلَىٰ رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } فأما من زعم أن الطاعة توجب الثواب ، فهو متكل على عمل نفسه لا على الله ، فلا يدخل تحت الآية . الصفة الثالثة : أن يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش ، عن ابن عباس : كبير الإثم ، هو الشرك ، نقله صاحب « الكشاف » : وهو عندي بعيد ، لأن شرط الإيمان مذكور أولاً وهو يغني عن عدم الشرك ، وقيل المراد بكبائر الإثم ما يتعلق بالبدع واستخراج الشبهات ، وبالفواحش ما يتعلق بالقوة الشهوانية ، وبقوله { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } ما يتعلق بالقوة الغضبية ، وإنما خص الغضب بلفظ الغفران ، لأن الغضب على طبع النار ، واستيلاؤه شديد ومقاومته صعبة ، فلهذا السبب خصّه بهذا اللفظ ، والله أعلم . الصفة الرابعة : قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبّهِمْ } والمراد منه تمام الانقياد ، فإن قالوا أليس أنه لما جعل الإيمان شرطاً فيه فقد دخل في الإيمان إجابة الله ؟ قلنا الأقرب عندي أن يحمل هذا على الرضاء بقضاء الله من صميم القلب ، وأن لا يكون في قلبه منازعة في أمر من الأمور . ولما ذكر هذا الشرط قال : { وأقاموا الصلاةَ } والمراد منه إقامة الصلوات الواجبة ، لأن هذا هو الشرط في حصول الثواب . وأما قوله تعالى : { وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } فقيل كان إذا وقعت بينهم واقعة اجتمعوا وتشاوروا فأثنى الله عليهم ، أي لا ينفردون برأي بل ما لم يجتمعوا عليه لا يقدمون عليه ، وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم ، والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور ، ومعنى قوله { وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ } أي ذو شورى . الصفة الخامسة : قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } والمعنى أن يقتصروا في الانتصار على ما يجعله الله لهم ولا يتعدونه ، وعن النخعي أنه كان إذا قرأها قال كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم السفهاء ، فإن قيل هذه الآية مشكلة لوجهين الأول : أنه لما ذكر قبله { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } فكيف يليق أن يذكر معه ما يجري مجرى الضد له وهو قوله { وَٱلَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ } ؟ الثاني : وهو أن جميع الآيات دالة على أن العفو أحسن قال تعالى : { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } [ البقرة : 237 ] وقال : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً } [ الفرقان : 72 ] وقال : { خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ ٱلْجَـٰهِلِينَ } [ الأعراف : 199 ] وقال { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصَّـٰبِرينَ } [ النحل : 126 ] فهذه الآيات تناقض مدلول هذه الآية والجواب : أن العفو على قسمين أحدهما : أن يكون العفو سبباً لتسكين الفتنة وجناية الجاني ورجوعه عن جنايته والثاني : أن يصير العفو سبباً لمزيد جراءة الجاني ولقوة غيظه وغضبه ، والآيات في العفو محمولة على القسم الأول ، وهذه الآية محمولة على القسم الثاني ، وحينئذ يزول التناقض والله أعلم ، ألا ترى أن العفو عن المصر يكون كالإغراء له ولغيره ، فلو أن رجلاً وجد عبده فجر بجاريته وهو مصر فلو عفا عنه كان مذموماً ، وروي أن زينب أقبلت على عائشة فشتمتها فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عنها فلم تنته فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " " دونك فانتصري " " وأيضاً إنه تعالى لم يرغب في الانتصار بل بيّن أنه مشروع فقط ، ثم بيّن بعده أن شرعه مشروط برعاية المماثلة ، ثم بيّن أن العفو أولى بقوله { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ٱللَّهِ } فزال السؤال ، والله أعلم .