Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 43, Ayat: 15-19)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى لما قال : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ ٱلْعَزِيزُ ٱلْعَلِيمُ } [ الزخرف : 9 ] بين أنهم مع إقرارهم بذلك ، جعلوا له من عباده جزءاً والمقصود منه التنبيه على قلة عقولهم وسخافة عقولهم . وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : قرأ عاصم في رواية أبي بكر : { جُزْء } بضم الزاي والهمزة في كل القرآن وهما لغتان ، وأما حمزة فإذا وقف عليه قال جزا بفتح الزاي بلا همزة . المسألة الثانية : في المراد من قوله { وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً } قولان : الأول : وهو المشهور أن المراد أنهم أثبتوا له ولداً ، وتقرير الكلام أن ولد الرجل جزء منه ، قال عليه السلام : " " فاطمة بضعة مني " " ولأن المعقول من الوالد أن ينفصل عنه جزء من أجزائه ، ثم يتربى ذلك الجزء ويتولد منه شخص مثل ذلك الأصل ، وإذا كان كذلك فولد الرجل جزء منه وبعض منه ، فقوله { وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءا } معنى جعلوا حكموا وأثبتوا وقالوا به ، والمعنى أنهم أثبتوا له جزءاً ، وذلك الجزء هو عبد من عباده . واعلم أنه لو قال وجعلوا لعباده منه جزءاً ، أفاد ذلك أنهم أثبتوا أنه حصل جزء من أجزائه في بعض عباده وذلك هو الولد ، فكذا قوله { وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً } معناه وأثبتوا له جزءاً ، وذلك الجزء هو عبد من عباده ، والحاصل أنهم أثبتوا لله ولداً ، وذكروا في تقرير هذا القول وجوهاً أُخر ، فقالوا الجزء هو الأنثى في لغة العرب ، واحتجوا في إثبات هذه اللغة ببيتين فالأول قوله : @ إن أجزأت حرة يوماً فلا عجب قد تجزىء الحرة المذكاة أحياناً @@ وقوله : @ زوجتها من بنات الأوس مجزئة للعوسج اللدن في أبياتها غزل @@ وزعم الزجاج والأزهري وصاحب « الكشاف » : أن هذه اللغة فاسدة ، وأن هذه الأبيات مصنوعة والقول الثاني : في تفسير الآية أن المراد من قوله { وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً } إثبات الشركاء لله ، وذلك لأنهم لما أثبتوا الشركاء لله تعالى فقد زعموا أن كل العباد ليس لله ، بل بعضها لله ، وبعضها لغير الله ، فهم ما جعلوا لله من عباده كلهم ، بل جعلوا له منهم بعضاً وجزءاً منهم ، قالوا والذي يدل على أن هذا القول أولى من الأول ، أنا إذا حملنا هذه الآية على إنكار الشريك لله ، وحملنا الآية التي بعدها إلى إنكار الولد لله ، كانت الآية جامعة للرد على جميع المبطلين . ثم قال تعالى : { أَمِ ٱتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَـٰكُم بِٱلْبَنِينَ } . واعلم أنه تعالى رتب هذه المناظرة على أحسن الوجوه ، وذلك لأنه تعالى بيّن أن إثبات الولد لله محال ، وبتقدير أن يثبت الولد فجعله بنتاً أيضاً محال ، أما بيان أن إثبات الولد لله محال ، فلأن الولد لا بد وأن يكون جزءاً من الوالد ، وما كان له جزء كان مركباً ، وكل مركب ممكن ، وأيضاً ما كان كذلك فإنه يقبل الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق ، وما كان كذلك فهو عبد محدث ، فلا يكون إلهاً قديماً أزلياً . وأما المقام الثاني : وهو أن بتقدير ثبوت الولد فإنه يمتنع كونه بنتاً ، وذلك لأن الابن أفضل من البنت ، فلو قلنا إنه اتخذ لنفسه البنات وأعطى البنين لعباده ، لزم أن يكون حال العبد أكمل وأفضل من حال الله ، وذلك مدفوع في بديهة العقل ، يقال أصفيت فلاناً بكذا ، أي آثرته به إيثاراً حصل له على سبيل الصفاء من غير أن يكون له فيه مشارك ، وهو كقوله { أَفَأَصْفَـٰكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ } [ الإسراء : 40 ] ثم بيّن نقصان البنات من وجوه الأول : قوله { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـٰنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } والمعنى أن الذي بلغ حاله في النقص إلى هذا الحد كيف يجوز للعاقل إثباته لله تعالى ! وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى ، فهجر البيت الذي فيه المرأة ، فقالت : @ ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا غضبان أن لا نلد البنينا ليس لنا من أمرنا ماشينا وإنما نأخذ ما أعطينا @@ وقوله { ظِلّ } أي صار ، كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة ، قال صاحب « الكشاف » : قرىء مسود مسواد ، والتقدير وهو مسود ، فتقع هذه الجملة موقع الخبر والثاني : قوله { أَو مَن يُنَشَّأُ فِي ٱلْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي ٱلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ينشؤ بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين على ما لم يسم فاعله ، أي يربى ، والباقون ينشأ ، بضم الياء وسكون النون وفتح الشين ، قال صاحب « الكشاف » : وقرىء يناشأ ، قال ونظير المناشأة بمعنى الإنشاء ، المغالاة بمعنى الإغلاء . المسألة الثانية : المراد من قوله { أَو مَن يُنَشَّأُ فِي ٱلْحِلْيَةِ } التنبيه على نقصانها ، وهو أن الذي يربى في الحلية يكون ناقص الذات ، لأنه لولا نقصان في ذاتها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية ، ثم بيّن نقصان حالها بطريق آخر ، وهو قوله { وَهُوَ فِى ٱلْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } يعني أنها إذا احتاجت المخاصمة والمنازعة عجزت وكانت غير مبين ، وذلك لضعف لسانها وقلة عقلها وبلادة طبعها ، ويقال قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بما كان حجة عليها ، فهذه الوجوه دالة على كمال نقصها ، فكيف يجوز إضافتهن بالولدية إليه ! . المسألة الثالثة : دلت الآية على أن التحلي مباح للنساء ، وأنه حرام للرجال ، لأنه تعالى جعل ذلك من المعايب وموجبات النقصان ، وإقدام الرجل عليه يكون إلقاء لنفسه في الذل وذلك حرام ، لقوله عليه السلام : " " ليس للمؤمن أن يذل نفسه " " وإنما زينة الرجل الصبر على طاعة الله ، والتزين بزينة التقوى ، قال الشافعي : @ تدرعت يوماً للقنوع حصينة أصون بها عرضي وأجعلها ذخرا ولم أحذر الدهر الخئون وإنما قصاراه أن يرمي بي الموت والفقرا فأعددت للموت الإله وعفوه وأعددت للفقر التجلد والصبرا @@ ثم قال تعالى : { وَجَعَلُواْ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَـٰثاً } وفيه مسائل : المسألة الأولى : المراد بقوله : { جَعَلُواْ } ، أي حكموا به ، ثم قال : { أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } وهذا استفهام على سبيل الإنكار ، يعني أنهم لم يشهدوا خلقهم ، وهذا مما لا سبيل إلى معرفته بالدلائل العقلية ، وأما الدلائل النقلية فكلها مفرعة على إثبات النبوّة ، وهؤلاء الكفار منكرون للنبوة ، فلا سبيل لهم إلى إثبات هذا المطلوب بالدلائل النقلية ، فثبت أنهم ذكروا هذه الدعوى من غير أن عرفوه لا بضرورة ولا بدليل ، ثم إنه تعالى هددهم فقال : { سَتُكْتَبُ شَهَـٰدَتُهُمْ وَيُسْـئَلُونَ } وهذا يدل على أن القول بغير دليل منكر ، وأن التقليد يوجب الذم العظيم والعقاب الشديد . قال أهل التحقيق : هؤلاء الكفار كفروا في هذا القول من ثلاثة أوجه أولها : إثبات الولد لله تعالى وثانيها : أن ذلك الولد بنت وثالثها : الحكم على الملائكة بالأنوثة . المسألة الثانية : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر : عند الرحمٰن بالنون ، وهو اختيار أبي حاتم واحتج عليه بوجوه الأول : أنه يوافق قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ عِندَ رَبّكَ } [ الأعراف : 206 ] وقوله { وَمَنْ عِندَهُ } [ الأنبياء : 19 ] والثاني : أن كل الخلق عباده فلا مدح لهم فيه والثالث : أن التقدير أن الملائكة يكونون عند الرحمٰن ، لا عند هؤلاء الكفار ، فكيف عرفوا كونهم إناثاً ؟ وأما الباقون فقرأوا عباد جمع عبد وقيل جمع عابد ، كقائم وقيام ، وصائم وصيام ، ونائم ونيام ، وهي قراءة ابن عباس ، واختيار أبي عبيد ، قال لأنه تعالى رد عليهم قولهم : إنهم بنات الله ، وأخبر أنهم عبيد ، ويؤيد هذه القراءة قوله { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] . المسألة الثالثة : قرأ نافع وحده : { آأشهدوا } بهمزة ومدة بعدها خفيفة لينة وضمة ، أي أ أحضروا خلقهم ، وعن نافع غير ممدود على ما لم يسم فاعله ، والباقون : أشهدوا ، بفتح الألف ، من أ شهدوا ، أي أحضروا . المسألة الرابعة : احتج من قال بتفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية ، فقال أما قراءة عند بالنون ، فهذه العندية لا شك أنها عندية الفضل والقرب من الله تعالى بسبب الطاعة ، ولفظة { هُمْ } توجب الحصر ، والمعنى أنهم هم الموصوفون بهذه العندية لا غيرهم ، فوجب كونهم أفضل من غيرهم رعاية للفظ الدال على الحصر ، وأما من قرأ عباد جمع العبد ، فقد ذكرنا أن لفظ العباد مخصوص في القرآن بالمؤمنين فقوله { هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ } يفيد حصر العبودية فيهم ، فإذا كان اللفظ الدال على العبودية دالاً على الفضل والشرف ، كان اللفظ الدال على حصر العبودية دالاً على حصر الفضل والمنقبة والشرف فيهم وذلك يوجب كونهم أفضل من غيرهم ، والله أعلم .