Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 46, Ayat: 21-26)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى لما أورد أنواع الدلائل في إثبات التوحيد والنبوّة ، وكان أهل مكة بسبب استغراقهم في لذات الدنيا واشتغالهم بطلبها أعرضوا عنها ، ولم يلتفتوا إليها ، ولهذا السبب قال تعالى في حقهم { وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى ٱلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيّبَـٰتِكُمْ فِى حَيَـٰتِكُمُ ٱلدُّنْيَا } فلما كان الأمر كذلك بين أن قوم عاد كانوا أكثر أموالاً وقوة وجاهاً منهم ، ثم إن الله تعالى سلّط العذاب عليهم بسبب شؤم كفرهم فذكر هذه القصة ههنا ليعتبر بها أهل مكة ، فيتركوا الاغترار بما وجدوه من الدنيا ويقبلوا على طلب الدين ، فلهذا المعنى ذكر الله تعالى هذه القصة في هذا الموضع ، وهو مناسب لما تقدم لأن من أراد تقبيح طريقة عند قوم كان الطريق فيه ضرب الأمثال ، وتقديره أن من واظب على تلك الطريقة نزل به من البلاء كذا وكذا ، وقوله تعالى : { وَٱذْكُرْ أَخَا عَادٍ } أي واذكر يا محمد لقومك أهل مكة هوداً عليه السلام { إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ } أي حذرهم عذاب الله إن لم يؤمنوا ، وقوله { بِٱلأَحْقَافِ } قال أبو عبيدة الحقف الرمل المعوج ، ومنه قيل للمعوج محقوف وقال الفراء الأحقاف واحدها حقف وهو الكثيب المكسر غير العظيم وفيه اعوجاج ، قال ابن عباس الأحقاف وادٍ بين عمان ومهرة والنذر جمع نذير بمعنى المنذر { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ } من قبله { وَمِنْ خَلْفِهِ } من بعده والمعنى أن هوداً عليه السلام قد أنذرهم وقال لهم أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم العذاب . واعلم أن الرسل الذين بعثوا قبله والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره . ثم حكى تعالى عن الكفار أنهم قالوا { أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا } الإفك الصرف ، يقال أفكه عن رأيه أي صرفه ، وقيل بل المراد لتزيلنا بضرب من الكذب { عَنْ ءالِهَتِنَا } وعن عبادتها { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } معاجلة العذاب على الشرك { إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّـٰدِقِينَ } في وعدك ، فعند هذا قال هود { إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِندَ ٱللَّهِ } وإنما صلح هذا الكلام جواباً لقولهم { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } لأن قولهم { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } استعجال منهم لذلك العذاب فقال لهم هود لا علم عندي بالوقت الذي يحصل فيه ذلك العذاب ، إنما علم ذلك عند الله تعالى { وَأُبَلّغُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ } وهو التحذير عن العذاب ، وأما العلم بوقته فما أوحاه الله إليّ { وَلَـٰكِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } وهذا يحتمل وجوهاً الأول : المراد أنكم لا تعلمون أن الرسل لم يبعثوا سائلين عن غير ما أذن لهم فيه وإنما بعثوا مبلغين الثاني : أراكم قوماً تجهلون من حيث إنكم بقيتم مصرين على كفركم وجهلكم فيغلب على ظني أنه قرب الوقت الذي ينزل عليكم العذاب بسبب هذ الجهل المفرط والوقاحة التامة الثالث : { إِنّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } حيث تصرون على طلب العذاب وهب أنه لم يظهر لكم كوني صادقاً ، ولكن لم يظهر أيضاً لكم كوني كاذباً فالإقدام على الطلب الشديد لهذا العذاب جهل عظيم . ثم قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ } ذكر المبرّد في الضمير في رأوه قولين أحدهما : أنه عائد إلى غير مذكور وبينه قوله { عَارِضاً } كما قال : { مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ } [ فاطر : 45 ] ولم يذكر الأرض لكونها معلومة فكذا هٰهنا الضمير عائد إلى السحاب ، كأنه قيل : فلما رأوا السحاب عارضاً وهذا اختيار الزجاج ويكون من باب الإضمار لا على شريطة التفسير والقول الثاني : أن يكون الضمير عائداً إلى ما في قوله { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } أي فلما رأوا ما يوعدون به عارضاً ، قال أبو زيد العارض السحابة التي ترى في ناحية السماء ثم تطبق ، وقوله { مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } قال المفسرون كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياماً فساق الله إليهم سحابة سوداء فخرجت عليهم من وادٍ يقال له المغيث { فَلَمَّا رَأَوْهُ مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } استبشروا و { قَالُواْ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } والمعنى ممطر إيانا ، قيل كان هود قاعداً في قومه فجاء سحاب مكثر فقالوا { هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } فقال : { بَلْ هُوَ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ } من العذاب ثم بيّن ماهيته فقال : { رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } . ثم وصف تلك الريح فقال : { تُدَمّرُ كُلَّ شَىْءٍ } أي تهلك كل شيء من الناس والحيوان والنبات { بِأَمْرِ رَبِّهَا } والمعنى أن هذا ليس من باب تأثيرات الكواكب والقرانات ، بل هو أمر حدث ابتداء بقدرة الله تعالى لأجل تعذيبكم { فَأَصْبَحُواْ } يعني عاداً { لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَـٰكِنُهُمْ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : روي أن الريح كانت تحمل الفسطاط فترفعها في الجو حتى يرى كأنها جرادة ، وقيل أول من أبصر العذاب امرأة منهم قالت رأيت ريحاً فيها كشهب النار ، وروي أن أول ما عرفوا به أنه عذاب أليم ، أنهم رأوا ما كان في الصحراء من رجالهم ومواشيهم يطير به الريح بين السماء والأرض فدخلوا بيوتهم وغلقوا أبوابهم فعلقت الريح الأبواب وصرعتهم ، وأحال الله عليهم الأحقاف ، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين ، ثم كشفت الريح عنهم فاحتملتهم فطرحتهم في البحر ، وروي أن هوداً لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطاً إلى جنب عين تنبع فكانت الريح التي تصيبهم ريحاً لينة هادئة طيبة ، والريح التي تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطيرهم إلى السماء وتضربهم على الأرض ، وأثر المعجزة إنما ظهر في تلك الريح من هذا الوجه ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " ما أمر الله خازن الرياح أن يرسل على عاد إلا مثل مقدار الخاتم " ثم إن ذلك القدر أهلكهم بكليتهم ، والمقصود من هذا الكلام إظهار كمال قدرة الله تعالى ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا رأى الريح فزع وقال : " " اللّهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها ومن شر ما أرسلت به " " المسألة الثالثة : قرأ عاصم وحمزة { لاَ يُرَىٰ } بالياء وضمها { مَسَـٰكِنُهُمْ } بضم النون ، قال الكسائي معناه لا يرى شيء إلا مساكنهم ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والكسائي { لاَّ تَرَىٰ } على الخطاب أي لا ترى أنت أيها المخاطب ، وفي بعض الروايات عن عاصم { لاَّ تَرَىٰ } بالتاء { مَسَـٰكِنِهِمْ } بضم النون وهي قراءة الحسن والتأويل لا ترى من بقايا عاد أشياء إلا مساكنهم . وقال الجمهور هذه القراءة ليست بالقوية . ثم قال تعالى : { كَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ } والمقصود منه تخويف كفار مكة ، فإن قيل لما قال الله تعالى : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] فكيف يبقى التخويف حاصلاً ؟ قلنا : قوله { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } إنما أنزل في آخر الأمر فكان التخويف حاصلاً قبل نزوله . ثم إنه تعالى خوف كفار مكة ، وذكر فضل عاد بالقوة والجسم عليهم فقال : { وَلَقَدْ مَكَّنَـٰهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّـٰكُمْ فِيهِ } قال المبرّد ما في قوله { فِيمَا } بمنزلة الذي . و { إن } بمنزلة ما والتقدير : ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه ، والمعنى أنهم كانوا أشد منكم قوة وأكثر منكم أموالاً ، وقال ابن قتيبة كلمة إن زائدة . والتقدير ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ، وهذا غلط لوجوه الأول : أن الحكم بأن حرفاً من كتاب الله عبث لا يقول به عاقل والثاني : أن المقصود من هذا الكلام أنهم كانوا أقوى منكم قوة ، ثم إنهم مع زيادة القوة ما نجوا من عقاب الله فكيف يكون حالكم ، وهذا المقصود إنما يتم لو دلّت الآية على أنهم كانوا أقوى قوة من قوم مكة الثالث : أن سائر الآيات تفيد هذا المعنى ، قال تعالى : { هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ورئيا } [ مريم : 74 ] وقال : { كَانُواْ أَكْـثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي ٱلأَرْضِ } [ غافر : 82 ] . ثم قال تعالى : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَـٰراً وَأَفْئِدَةً } والمعنى أنا فتحنا عليهم أبواب النعم وأعطيناهم سمعاً فما استعملوه في سماع الدلائل ، وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في تأمل العبر ، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله تعالى ، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها ، فلا جرم ما أغنى سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من عذاب الله شيئاً . ثم بيّن تعالى أنه إنما لم يغن عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم لأجل أنهم كانوا يجحدون بآيات الله ، وقوله { إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ } بمنزلة التعليل ، ولفظ إذ قد يذكر لإفادة التعليل تقول : ضربته إذ أساء ، والمعنى ضربته لأنه أساء ، وفي هذه الآية تخويف لأهل مكة فإن قوم عاد لما اغتروا بدنياهم وأعرضوا عن قبول الدليل والحجة نزل بهم عذاب الله ، ولم تغن عنهم قوتهم ولا كثرتهم ، فأهل مكة مع عجزهم وضعفهم أولى بأن يحذروا من عذاب الله تعالى ويخافوا . ثم قال تعالى : { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } يعني أنهم كانوا يطلبون نزول العذاب وإنما كانوا يطلبونه على سبيل الاستهزاء ، والله أعلم .