Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 46, Ayat: 29-32)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في الآية مسائل : المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بيّن أن في الإنس من آمن وفيهم من كفر ، بيّن أيضاً أن الجن فيهم من آمن وفيهم من كفر ، وأن مؤمنهم معرض للثواب ، وكافرهم معرض للعقاب ، وفي كيفية هذه الواقعة قولان الأول : قال سعيد بن جبير : كانت الجن تستمع فلما رجموا قالوا : هذا الذي حدث في السماء إنما حدث لشيء في الأرض فذهبوا يطلبون السبب ، وكان قد اتفق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أيس من أهل مكة أن يجيبوه خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام ، فلما انصرف إلى مكة ، وكان ببطن نخل قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر ، فمرّ به نفر من أشراف جن نصيبين ، لأن إبليس بعثهم ليعرفوا السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم ، فسمعوا القرآن وعرفوا أن ذلك هو السبب والقول الثاني : أن الله تعالى أمر رسوله أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف الله إليه نفراً من الجن ليستمعوا منه القرآن وينذروا قومهم . ويتفرع على ما ذكرناه فروع الأول : نقل عن القاضي في تفسيره الجن أنه قال : إنهم كانوا يهوداً ، لأن في الجن مللاً كما في الإنس من اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام ، وأطبق المحققون على أن الجن مكلفون ، سئل ابن عباس : هل للجن ثواب ؟ فقال نعم لهم ثواب وعليهم عقاب ، يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها الفرع الثاني : قال صاحب « الكشاف » : النفر دون العشرة ويجمع على أنفار ، ثم روى محمد بن جرير الطبري عن ابن عباس : أن أولئك الجن كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين ، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم ، وعن زر ابن حبيش كانوا تسعة أحدهم ذوبعة ، وعن قتادة ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من ساوة الفرع الثالث : اختلفوا في أنه هل كان عبد الله بن مسعود مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ والروايات فيه مختلفة ومشهورة الفرع الرابع : روى القاضي في « تفسيره » عن أنس قال : « كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبال مكة إذ أقبل شيخ متوكىء على عكازة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " " مشية جني ونغمته " " فقال أجل ، فقال " " من أي الجن أنت ؟ " " فقال أنا هامة بن هيم بن لاقيس بن إبليس ، فقال " " لا أرى بينك وبين إبليس إلا أبوين فكم أتى عليك ؟ " " فقال أكلت عمر الدنيا إلا أقلها ، وكنت وقت قتل قابيل هابيل أمشي بين الآكام ، وذكر كثيراً مما مرّ به ، وذكر في جملته أن قال : قال لي عيسى بن مريم إن لقيت محمداً فأقرئه مني السلام ، وقد بلغت سلامه وآمنت بك ، فقال عليه السلام ، " " وعلى عيسى السلام ، وعليك يا هامة ما حاجتك ؟ " " فقال إن موسى عليه السلام علمني التوراة ، وعيسى علمني الإنجيل ، فعلمني القرآن ، فعلمه عشر سور ، وقبض صلى الله عليه وسلم ولم ينعه » قال عمر بن الخطاب ولا أراه إلا حياً واعلم أن تمام الكلام في قصة الجن مذكور في سورة الجن . المسألة الثانية : اختلفوا في تفسير قوله { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ ٱلْجِنّ } فقال بعضهم : لما لم يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم قراءة القرآن عليهم ، فهو تعالى ألقى في قلوبهم ميلا وداعية إلى استماع القرآن ، فلهذا السبب قال : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ ٱلْجِنّ } . ثم قال تعالى : { فَلَمَّا حَضَرُوهُ } الضمير للقرآن أو لرسول الله { قَالُواْ } أي قال بعضهم لبعض { أَنصِتُواْ } أي اسكتوا مستمعين ، يقال أنصت لكذا واستنصت له ، فلما فرغ من القراءة { وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } ينذرونهم ، وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم ، لأنهم لا يدعون غيرهم إلى استماع القرآن والتصديق به إلا وقد آمنوا ، فعنده { قَالُواْ يا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَـٰباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ } ووصفوه بوصفين الأول : كونه { مُصَدِّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي مصدقاً لكتب الأنبياء ، والمعنى أن كتب سائر الأنبياء كانت مشتملة على الدعوة إلى التوحيد والنبوّة والمعاد والأمر بتطهير الأخلاق فكذلك هذا الكتاب مشتمل على هذه المعاني الثاني : قوله { يَهْدِي إِلَى ٱلْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } . واعلم أن الوصف الأول يفيد أن هذا الكتاب يماثل سائر الكتب الإلٰهية في الدعوة إلى هذه المطالب العالية الشريفة ، والوصف الثاني يفيد أن هذه المطالب التي اشتمل القرآن عليها مطلب حقة صدق في أنفسها ، يعلم كل أحد بصريح عقله كونها كذلك ، سواء وردت الكتب الإلٰهية قبل ذلك بها أو لم ترد ، فإن قالوا كيف قالوا { مِن بَعْدِ مُوسَىٰ } ؟ قلنا قد نقلنا عن الحسن إنه قال إنهم كانوا على اليهودية ، وعن ابن عباس أن الجن ما سمعت أمر عيسى فلذلك قالوا من بعد موسى ، ثم إن الجن لما وصفوا القرآن بهذه الصفات الفاضلة قالوا { يٰقَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ } واختلفوا في أنه هل المراد بداعي الله الرسول أو الواسطة التي تبلغ عنه ؟ والأقرب أنه هو الرسول لأنه هو الذي يطلق عليه هذا الوصف . واعلم أن قوله { أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ } فيه مسألتان : المسألة الأولى : هذه الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى الجن كما كان مبعوثاً إلى الإنس قال مقاتل ، ولم يبعث الله نبياً إلى الإنس والجن قبله . المسألة الثانية : قوله { أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ } أمر بإجابته في كل ما أمر به ، فيدخل فيه الأمر بالإيمان إلا أنه أعاد ذكر الإيمان على التعيين ، لأجل أنه أهم الأقسام وأشرفها ، وقد جرت عادة القرآن بأنه يذكر اللفظ العام ، ثم يعطف عليه أشرف أنواعه كقوله { وَمَلـٰئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } [ البقرة : 98 ] وقوله { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [ الأحزاب : 7 ] ولما أمر بالإيمان به ذكر فائدة ذلك الإيمان وهي قوله { يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : قال بعضهم كلمة { مِنْ } ههنا زائدة والتقدير : يغفر لكم ذنوبكم ، وقيل بل الفائدة فيه أن كلمة { مِنْ } ههنا لابتداء الغاية ، فكان المعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب ، ثم ينتهي إلى غفران ما صدر عنكم من ترك الأولى والأكمل . المسألة الثانية : اختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا ؟ فقيل لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ، ثم يقال لهم كونوا تراباً مثل البهائم ، واحتجوا على صحة هذا المذهب بقوله تعالى : { وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأحقاف : 31 ] وهو قول أبي حنيفة ، والصحيح أنهم في حكم بني آدم فيستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، وهذا القول قول ابن أبي ليلى ومالك ، وجرت بينه وبين أبي حنيفة في هذا الباب مناظرة ، قال الضحاك يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون ، والدليل على صحة هذا القول أن كل دليل على أن البشر يستحقون الثواب على الطاعة فهو بعينه قائم في حق الجن ، والفرق بين البابين بعيد جداً . واعلم أن ذلك الجني لما أمر قومه بإجابة الرسول والإيمان به حذرهم من تلك الإجابة فقال : { وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضِ } أي لا ينجي منه مهرب ولا يسبق قضاءه سابق ، ونظيره قوله تعالى : { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } [ الجن : 12 ] ولا نجد له أيضاً ولياً ولا نصيراً ، ولا دافعاً من دون الله ثم بيّن أنهم في ضلال مبين .