Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 48, Ayat: 1-3)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وفيه مسائل : المسألة الأولى : في الفتح وجوه : أحدها : فتح مكة وهو ظاهر وثانيها : فتح الروم وغيرها وثالثها : المراد من الفتح صلح الحديبية ورابعها : فتح الإسلام بالحجة والبرهان ، والسيف والسنان وخامسها : المراد منه الحكم كقوله { رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقّ } [ الأعراف : 89 ] وقوله { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِٱلْحَقّ } [ سبأ : 26 ] والمختار من الكل وجوه : أحدها : فتح مكة ، والثاني : فتح الحديبية ، والثالث : فتح الإسلام بالآية والبيان والحجة والبرهان . والأول مناسب لآخر ما قبلها من وجوه أحدها : أنه تعالى لما قال : { هَاأَنتُمْ هَـؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } . إلى أن قال : { وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } [ محمد : 38 ] بيّن تعالى أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم ثانيها : لما قال : { وَٱللَّهُ مَعَكُمْ } وقال : { وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ } [ محمد : 35 ] بيّن برهانه بفتح مكة ، فإنهم كانوا هم الأعلون ثالثها : لما قال تعالى : { فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى ٱلسَّلْمِ } [ محمد : 35 ] وكان معناه لا تسألوا الصلح من عندكم ، بل اصبروا فإنهم يسألون الصلح ويجتهدون فيه كما كان يوم الحديبية وهو المراد بالفتح في أحد الوجوه ، وكما كان فتح مكة حيث أتى صناديد قريش مستأمنين ومؤمنين ومسلمين ، فإن قيل : إن كان المراد فتح مكة ، فمكة لم تكن قد فتحت ، فكيف قال تعالى : { فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } بلفظ الماضي ؟ نقول : الجواب عنه من وجهين : أحدهما : فتحنا في حكمنا وتقديرنا ثانيهما : ما قدره الله تعالى فهو كائن ، فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمر لا دافع له ، واقع لا رافع له . المسألة الثانية : قوله { لّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ } ينبىء عن كون الفتح سبباً للمغفرة ، والفتح لا يصلح سبباً للمغفرة ، فما الجواب عنه ؟ نقول : الجواب عنه من وجوه : الأول : ما قيل إن الفتح لم يجعله سبباً للمغفرة وحدها ، بل هو سبب لاجتماع الأمور المذكورة وهي : المغفرة ، وإتمام النعمة والهداية والنصرة ، كأنه تعالى قال : ليغفر لك الله ويتم نعمته ويهديك وينصرك ، ولا شك أن الاجتماع لم يثبت إلا بالفتح ، فإن النعمة به تمت ، والنصرة بعده قد عمت الثاني : هو أن فتح مكة كان سبباً لتطهير بيت الله تعالى من رجس الأوثان ، وتطهير بيته صار سبباً لتطهير عبده الثالث : هو أن بالفتح يحصل الحج ، ثم بالحج تحصل المغفرة ، ألا ترى إلى دعاء النبي عليه الصلاة والسلام حيث قال في الحج : " " اللّهم اجعله حجاً مبروراً ، وسعياً مشكوراً ، وذنباً مغفوراً " " الرابع : المراد منه التعريف تقديره إنا فتحنا لك ليعرف أنك مغفور ، معصوم ، فإن الناس كانوا علموا بعد عام الفيل أن مكة لا يأخذها عدو الله المسخوط عليه ، وإنما يدخلها ويأخذها حبيب الله المغفور له . المسألة الثالثة : لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم ذنب ، فماذا يغفر له ؟ قلنا الجواب عنه قد تقدم مراراً من وجوه أحدها : المراد ذنب المؤمنين ثانيها : المراد ترك الأفضل ثالثها : الصغائر فإنها جائزة على الأنبياء بالسهو والعمد ، وهو يصونهم عن العجب رابعها : المراد العصمة ، وقد بينا وجهه في سورة القتال . المسألة الرابعة : ما معنى قوله { وَمَا تَأَخَّرَ } ؟ نقول فيه وجوه أحدها : أنه وعد النبي عليه السلام بأنه لا يذنب بعد النبوة ثانيها : ما تقدم على الفتح ، وما تأخر عن الفتح ثالثها : العموم يقال اضرب من لقيت ومن لا تلقاه ، مع أن من لا يلقى لا يمكن ضربه إشارة إلى العموم رابعها : من قبل النبوة ومن بعدها ، وعلى هذا فما قبل النبوة بالعفو وما بعدها بالعصمة ، وفيه وجوه أُخر ساقطة ، منها قول بعضهم : ما تقدم من أمر مارية ، وما تأخر من أمر زينب ، وهو أبعد الوجوه وأسقطها لعدم التئام الكلام ، وقوله تعالى : { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } يحتمل وجوهاً : أحدها : هو أن التكاليف عند الفتح تمت حيث وجب الحج ، وهو آخر التكاليف ، والتكاليف نعم ثانيها : يتم نعمته عليك بإخلاء الأرض لك عن معانديك ، فإن يوم الفتح لم يبق للنبي عليه الصلاة والسلام عدو ذو اعتبار ، فإن بعضهم كانوا أهلكوا يوم بدر والباقون آمنوا واستأمنوا يوم الفتح ثالثها : ويتم نعمته عليك في الدنيا باستجابة دعائك في طلب الفتح ، وفي الآخرة بقول شفاعتك في الذنوب ولو كانت في غاية القبح ، وقوله تعالى : { وَيَهْدِيَكَ صِرٰطاً مُّسْتَقِيماً } يحتمل وجوهاً أظهرها : يديمك على الصراط المستقيم حتى لا يبقى من يلتفت إلى قوله من المضلين ، أو ممن يقدر على الإكراه على الكفر ، وهذا يوافق قوله تعالى : { وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلإسْلاَمَ دِيناً } [ المائدة : 3 ] حيث أهلكت المجادلين فيه ، وحملتهم على الإيمان وثانيها : أن يقال جعل الفتح سبباً للهداية إلى الصراط المستقيم ، لأنه سهل على المؤمنين الجهاد لعلمهم بالفوائد العاجلة بالفتح والآجلة بالوعد ، والجهاد سلوك سبيل الله ، ولهذا يقال للغازي في سبيل الله مجاهد وثالثها : ما ذكرنا أن المراد التعريف ، أي ليعرف أنك على صراط مستقيم ، من حيث إن الفتح لا يكون إلا على يد من يكون على صراط الله بدليل حكاية الفيل ، وقوله { وَيَنصُرَكَ ٱللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } ظاهر ، لأن بالفتح ظهر النصر واشتهر الأمر ، وفيه مسألتان إحداهما لفظية والأخرى معنوية : أما المسألة اللفظية : فهي أن الله وصف النصر بكونه عزيزاً ، والعزيز من له النصر والجواب : من وجهين أحدهما : ما قاله الزمخشري أنه يحتمل وجوهاً ثلاثة الأول : معناه نصر إذ عز ، كقوله { فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ الحاقة : 21 ] أي ذات رضى الثاني : وصف النصر بما يوصف به المنصور إسناداً مجازياً يقال له كلام صادق ، كما يقال له متكلم صادق الثالث : المراد نصراً عزيزاً صاحبه الوجه الثاني من الجواب أن نقول : إنما يلزمنا ما ذكره الزمخشري من التقديرات إذا قلنا : العزة من الغلبة ، والعزيز الغالب وأما إذا قلنا : العزيز هو النفيس القليل النظير ، أو المحتاج إليه القليل الوجود ، يقال عز الشيء إذا قل وجوده مع أنه محتاج إليه ، فالنصر كان محتاجاً إليه ومثله لم يوجد وهو أخذ بيت الله من الكفار المتمكنين فيه من غير عدد . أما المسألة المعنوية : وهي أن الله تعالى لما قال : { لّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ } أبرز الفاعل وهو الله ، ثم عطف عليه بقوله { وَيُتِمَّ } وبقوله { وَيَهْدِيَكَ } ولم يذكر لفظ الله على الوجه الحسن في الكلام ، وهو أن الأفعال الكثيرة إذا صدرت من فاعل يظهر اسمه في الفعل الأول ، ولا يظهر فيما بعده تقول : جاء زيد وتكلم ، وقام وراح ، ولا تقول : جاء زيد ، وقعد زيد اختصاراً للكلام بالاقتصار على الأول ، وههنا لم يقل وينصرك نصراً ، بل أعاد لفظ الله ، فنقول هذا إرشاد إلى طريق النصر ، ولهذا قلما ذكر الله النصر من غير إضافة ، فقال تعالى : { بِنَصْرِ ٱللَّهِ يَنصُرُ } [ الروم : 5 ] ولم يقل بالنصر ينصر ، وقال : { هُوَ ٱلَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } [ الأنفال : 62 ] ولم يقل بالنصر ، وقال : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ } [ النصر : 1 ] وقال : { نَصْرٌ مّن ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } [ الصف : 13 ] ولم يقل نصر وفتح ، وقال : { وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } [ الأنفال : 10 ] وهذا أدل الآيات على مطلوبنا ، وتحقيقه هو أن النصر بالصبر ، والصبر بالله ، قال تعالى : { وَٱصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِٱللَّهِ } [ النحل : 127 ] وذلك لأن الصبر سكون القلب واطمئنانه ، وذلك بذكر الله ، كما قال تعالى : { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] فلما قال ههنا وينصرك الله ، أظهر لفظ الله ذكراً للتعليم أن بذكر الله يحصل اطمئنان القلوب ، وبه يحصل الصبر ، وبه يتحقق النصر ، وههنا مسألة أخرى وهو أن الله تعالى قال : { إِنَّا فَتَحْنَا } ثم قال : { لّيَغْفِرَ لَكَ ٱللَّهُ } ولم يقل إنا فتحنا لنغفر لك تعظيماً لأمر الفتح ، وذلك لأن المغفرة وإن كانت عظيمة لكنها عامة لقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً } [ الزمر : 53 ] وقال : { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 48 ] ولئن قلنا بأن المراد من المغفرة في حق النبي عليه السلام العصمة ، فذلك لم يختص بنبينا ، بل غيره من الرسل كان معصوماً ، وإتمام النعمة كذلك ، قال الله تعالى : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } [ المائدة : 3 ] وقال : { يَـٰبَنِي إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 47 ] وكذلك الهداية قال الله تعالى : { يَهْدِي مَن يَشَاء } [ القصص : 56 ] فعمم ، وكذلك النصر قال الله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ } [ الصافات : 171 ، 172 ] وأما الفتح فلم يكن لأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم ، فعظمه بقوله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً } وفيه التعظيم من وجهين أحدهما : إنا وثانيهما : لك أي لأجلك على وجه المنة .