Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 54-54)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فيه مسائل : المسألة الأولى : قرأ ابن عامر ونافع { يَرْتَدِدْ } بدالين ، والباقون بدال واحدة مشددة ، والأول : لإظهار التضعيف ، والثاني : للإدغام . قال الزجاج : إظهار الدالين هو الأصل لأن الثاني من المضاعف إذا سكن ظهر التضعيف ، نحو قوله { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ } [ آل عمران : 140 ] ويجوز في اللغة : إن يمسكم . المسألة الثانية : روى صاحب « الكشاف » أنه كان أهل الردة إحدى عشرة فرقة : ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : بنو مدلج : ورئيسهم ذو الحمار ، وهو الأسود العنسي ، وكان كاهناً ادعى النبوّة في اليمن واستولى على بلادها ، وأخرج عمال رسول الله ، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وسادات اليمن ، فأهلكه الله على يد فيروز الديلمي بيته فقتله ، وأخبر رسول الله بقتله ليلة قتل ، فسر المسلمون ، وقبض رسول الله من الغد وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول . وبنو حنيفة قوم مسيلمة ، ادعى النبوّة وكتب إلى رسول الله : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك ، فأجابه الرسول : من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب : أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، فحاربه أبو بكر بجنود المسلمين ، وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة ، وكان يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام ، أراد في جاهليتي وفي إسلامي . وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد : ادعى النبوّة ، فبعث إليه رسول الله خالداً ، فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه . وسبع في عهد أبي بكر : فزارة قوم عيينة بن حصن ، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري ، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل ، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة ، وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر التي ادعت النبوّة وزوجت نفسها من مسيلمة الكذاب ، وكندة قوم الأشعث بن قيس ، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد ، وكفى الله أمرهم على يد أبي بكر . وفرقة واحدة في عهد عمر : غسان قوم جبلة بن الأيهم ، وذلك أن جبلة أسلم على يد عمر ، وكان يطوف ذات يوم جاراً رداءه ، فوطىء رجل طرف ردائه فغضب فلطمه ، فتظلم إلى عمر فقضى له بالقصاص عليه ، إلا أن يعفو عنه ، فقال : أنا أشتريها بألف ، فأبى الرجل ، فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف ، فأبى الرجل إلا القصاص ، فاستنظر عمر فأنظره عمر فهرب إلى الروم وارتد . المسألة الثالثة : معنى الآية : يا أيها الذين آمنوا من يتول منكم الكفار فيرتد عن دينه فليعلم أن الله تعالى يأتي بأقوام آخرين ينصرون هذا الدين على أبلغ الوجوه . وقال الحسن رحمه الله : علم الله أن قوماً يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيّهم ، فأخبرهم أنه سيأتي بقوم يحبهم ويحبونه ، وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية إخباراً عن الغيب ، وقد وقع المخبر على وفقه فيكون معجزاً . المسألة الرابعة : اختلفوا في أن أولئك القوم من هم ؟ فقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة والضحاك وابن جريح : هم أبو بكر وأصحابه لأنهم هم الذين قاتلوا أهل الردة . وقالت عائشة رضي الله عنها : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب ، واشتهر النفاق ، ونزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها . وقال السدي : نزلت الآية في الأنصار لأنهم هم الذين نصروا الرسول وأعانوه على إظهار الدين . وقال مجاهد : نزلت في أهل اليمن . وروي مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية أشار إلى أبي موسى الأشعري وقال : " " هم قوم هذا " " وقال آخرون : هم الفرس لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن هذه الآية " " ضرب بيده على عاتق سلمان " " وقال : هذا وذووه ، ثم قال : " " لو كان الدين معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس " . " وقال قوم : إنها نزلت في علي عليه السلام ، ويدل عليه وجهان : الأول : أنه عليه السلام لما دفع الراية إلى علي عليه السلام يوم خيبر قال : " " لأدفعن الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " " وهذا هو الصفة المذكورة في الآية . والوجه الثاني : أنه تعالى ذكر بعد هذه الآية قوله { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلوٰةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [ المائدة : 55 ] وهذه الآية في حق علي ، فكان الأولى جعل ما قبلها أيضاً في حقه ، فهذه جملة الأقوال في هذه الآية . ولنا في هذه الآية مقامات : المقام الأول : أن هذه الآية من أدل الدلائل على فساد مذهب الإمامية من الروافض ، وتقرير مذهبهم أن الذين أقرنا بخلافة أبي بكر وإمامته كلهم كفروا وصاروا مرتدين ، لأنهم أنكروا النص الجلي على إمامة علي عليه السلام فنقول : لو كان كذلك لجاء الله تعالى بقوم يحاربهم ويقهرهم ويردهم إلى الدين الحق بدليل قوله { من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم } إلى آخر الآيه وكلمة [ من ] في معرض الشرط للعموم ، فهي تدل على أن كل من صار مرتداً عن دين الإسلام فإن الله يأتي بقوم يقهرهم ويردهم ويبطل شوكتهم ، فلو كان الذين نصبوا أبا بكر للخلافة كذلك لوجب بحكم الآية أن يأتي الله بقوم يقهرهم ويبطل مذهبهم ، ولما لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضد فإن الروافض هم المقهورون الممنوعون عن إظهار مقالاتهم الباطلة أبداً منذ كانوا علمنا فساد مقالتهم ومذهبهم ، وهذا كلام ظاهر لمن أنصف . المقام الثاني : أنا ندعي أن هذه الآية يجب أن يقال : إنها نزلت في حق أبي بكر رضي الله عنه والدليل عليه وجهان : الأول : أن هذه الآية مختصة بمحاربة المرتدين ، وأبو بكر هو الذي تولى محاربة المرتدين على ما شرحنا ، ولا يمكن أن يكون المراد هو الرسول عليه السلام لأنه لم يتفق له محاربة المرتدين ، ولأنه تعالى قال { فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ } وهذا للاستقبال لا للحال ، فوجب أن يكون هؤلاء القوم غير موجودين في وقت نزول هذا الخطاب . فإن قيل : هذا لازم عليكم لأن أبا بكر رضي الله عنه كان موجوداً في ذلك الوقت . قلنا : الجواب من وجهين : الأول : أن القوم الذين قاتل بهم أبو بكر أهل الردة ما كانوا موجودين في الحال ، والثاني : أن معنى الآية أن الله تعالى قال : فسوف يأتي الله بقوم قادرين متمكنين من هذا الحراب ، وأبو بكر وإن كان موجوداً في ذلك الوقت إلا أنه ما كان مستقلاً في ذلك الوقت بالحراب والأمر والنهي ، فزال السؤال ، فثبت أنه لا يمكن أن يكون المراد هو الرسول عليه الصلاة والسلام ، ولا يمكن أيضاً أن يكون المراد هو علي عليه السلام ، لأن علياً لم يتفق له قتال مع أهل الردة ، فكيف تحمل هذه الآية عليه . فإن قالوا : بل كان قتاله مع أهل الردة لأن كل من نازعه في الإمامة كان مرتداً . قلنا : هذا باطل من وجهين : الأول : أن اسم المرتد إنما يتناول من كان تاركاً للشرائع الإسلامية ، والقوم الذين نازعوا علياً ما كانوا كذلك في الظاهر ، وما كان أحد يقول : إنه إنما يحاربهم لأجل أنهم خرجوا عن الإسلام ، وعلي عليه السلام لم يسمهم ألبتة بالمرتدين ، فهذا الذي يقوله هؤلاء الروافض لعنهم الله بهت على جميع المسلمين وعلى علي أيضاً . الثاني : أنه لو كان كل من نازعه في الإمامة كان مرتداً لزم في أبي بكر وفي قومه أن يكونوا مرتدين ، ولو كان كذلك لوجب بحكم ظاهر الآية أن يأتي الله بقوم يقهرونهم ويردونهم إلى الدين الصحيح ، ولما لم يوجد ذلك ألبتة علمنا أن منازعة علي في الإمامة لا تكون ردة ، وإذا لم تكن ردة لم يمكن حمل الآية على علي ، لأنها نازلة فيمن يحارب المرتدين ، ولا يمكن أيضاً أن يقال : إنها نازلة في أهل اليمن أو في أهل فارس ، لأنه لم يتفق لهم محاربة مع المرتدين ، وبتقدير أن يقال : اتفقت لهم هذه المحاربة ولكنهم كانوا رعية وأتباعاً وأذنابا ، وكان الرئيس المطاع الأمر في تلك الواقعة هو أبو بكر ، ومعلوم أن حمل الآية على من كان أصلاً في هذه العبادة ورئيساً مطاعاً فيها أولى من حملها على الرعية والأتباع والأذناب ، فظهر بما ذكرنا من الدليل الظاهر أن هذه الآية مختصة بأبي بكر . والوجه الثاني في بيان أن هذه الآية مختصة بأبي بكر : هو أنا نقول : هب أن علياً كان قد حارب المرتدين ، ولكن محاربة أبي بكر مع المرتدين كانت أعلى حالاً وأكثر موقعاً في الإسلام من محاربة علي مع من خالفه في الإمامة ، وذلك لأنه علم بالتواتر أنه صلى الله عليه وسلم لما توفي اضطربت الأعراب وتمردوا ، وأن أبا بكر هو الذي قهر مسيلمة وطليحة ، وهو الذي حارب الطوائف السبعة المرتدين ، وهو الذي حارب مانعي الزكاة ، ولما فعل ذلك استقر الإسلام وعظمت شوكته وانبسطت دولته . أما لما انتهى الأمر إلى علي عليه السلام فكان الإسلام قد انبسط في الشرق والغرب ، وصار ملوك الدنيا مقهورين ، وصار الإسلام مستولياً على جميع الأديان والملل ، فثبت أن محاربة أبي بكر رضي الله عنه أعظم تأثيراً في نصرة الإسلام وتقويته من محاربة علي عليه السلام ، ومعلوم أن المقصود من هذه الآية تعظيم قوم يسعون في تقوية الدين ونصرة الإسلام ، ولما كان أبو بكر هو المتولي لذلك وجب أن يكون هو المراد بالآية . المقام الثالث في هذه الآية : وهو أنا ندعي دلالة هذه الآية على صحة إمامة أبي بكر ، وذلك لأنه لما ثبت بما ذكرنا أن هذه الآية مختصة به فنقول : إنه تعالى وصف الذين أرادهم بهذه الآية بصفات : أولها : أنه يحبهم ويحبونه . فلما ثبت أن المراد بهذه الآية هو إبو بكر ثبت أن قوله { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } وصف لأبي بكر ، ومن وصفه الله تعالى بذلك يمتنع أن يكون ظالماً ، وذلك يدل على أنه كان محقاً في إمامته ، وثانيها : قوله { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ } وهو صفة أبي بكر أيضاً الدليل الذي ذكرناه ، ويؤكده ما روي في الخبر المستفيض أنه عليه الصلاة والسلام قال : " " ارحم أمتي بأمتي أبو بكر " " فكان موصوفاً بالرحمة والشفقة على المؤمنين وبالشدة مع الكفار ، ألا ترى أن في أول الأمر حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة وكان في غاية الضعف كيف كان يذب عن الرسول عليه الصلاة والسلام ، وكيف كان يلازمه ويخدمه ، وما كان يبالي بأحد من جبابرة الكفار وشياطينهم ، وفي آخر الأمر أعني وقت خلافته كيف لم يلتفت إلى قول أحد ، وأصر على أنه لا بدّ من المحاربة مع مانعي الزكاة حتى آل الأمر إلى أن خرج إلى قتال القوم وحده ، حتى جاء أكابر الصحابة وتضرعوا إليه ومنعوه من الذهاب ، ثم لما بلغ بعث العسكر إليهم انهزموا وجعل الله تعالى ذلك مبدأ لدولة الإسلام ، فكان قوله { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ } لا يليق إلا به ، وثالثها : قوله { يُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ يَخَـٰفُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } فهذا مشترك فيه بين أبي بكر وعلي ، إلا أن حظ أبي بكر فيه أتم وأكمل ، وذلك لأن مجاهدة أبي بكر مع الكفار كانت في أول البعث ، وهناك الإسلام كان في غاية الضعف ، والكفر كان في غاية القوة ، وكان يجاهد الكفار بمقدار قدرته ، ويذب عن رسول الله بغاية وسعه ، وأما علي عليه السلام فإنه إنما شرع في الجهاد يوم بدر وأُحد ، وفي ذلك الوقت كان الإسلام قوياً وكانت العساكر مجتمعة ، فثبت أن جهاد أبي بكر كان أكمل من جهاد علي من وجهين : الأول : أنه كان متقدماً عليه في الزمان ، فكان إفضل لقوله تعالى : { لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَـٰتَلَ } [ الحديد : 10 ] والثاني : أن جهاد أبي بكر كان في وقت ضعف الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجهاد علي كان في وقت القوة ، ورابعها : قوله { ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } وهذا لائق بأبي بكر لأنه متأكد بقوله تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ } [ النور : 22 ] وقد بينا أن هذه الآية في أبي بكر ، ومما يدل على أن جميع هذه الصفات لأبي بكر أنا بينا بالدليل أن هذه الآية لا بدّ وأن تكون في أبي بكر ، ومتى كان الأمر كذلك كانت هذه الصفات لا بدّ وأن تكون لأبي بكر ، وإذا ثبت هذا وجب القطع بصحة إمامته ، إذ لو كانت إمامته باطلة لما كانت هذه الصفات لائقة به . فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنه كان موصوفاً بهذه الصفات حال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم بعد وفاته لما شرع في الإمامة زالت هذه الصفات وبطلت . قلنا : هذا باطل قطعاً لأنه تعالى قال : { فَسَوْفَ يَأْتِى ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } فأثبت كونهم موصوفين بهذه الصفة حال إتيان الله بهم في المستقبل ، وذلك يدل على شهادة الله له بكونه موصوفاً بهذه الصفات حال محاربته مع أهل الردة ، وذلك هو حال إمامته ، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على صحة إمامته ، أما قول الروافض لعنهم الله : إن هذه الآية في حق علي رضي الله عنه بدليل أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر : " " لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " " وكان ذلك هو علي عليه السلام ، فنقول : هذا الخبر من باب الآحاد ، وعندهم لا يجوز التمسك به في العمل ، فكيف يجوز التمسك به في العلم ، وأيضاً إن إثبات هذه الصفة لعلي لا يوجب انتفاءها عن أبي بكر ، وبتقدير أن يدل على ذلك لكنه لا يدل على انتفاء ذلك المجموع عن أبي بكر ، ومن جملة تلك الصفات كونه كراراً غير فرار ، فلما انتفى ذلك عن أبي بكر لم يحصل مجموع تلك الصفات له ، فكفى هذا في العمل بدليل الخطاب ، فأما انتفاء جميع تلك الصفات فلا دلالة في اللفظ عليه ، فهو تعالى إنما أثبت هذه الصفة المذكورة في هذه الآية حال اشتغاله بمحاربة المرتدين بعد ذلك فهب أن تلك الصفة ما كانت حاصلة في ذلك الوقت ، فلم يمنع ذلك من حصولها في الزمان المستقبل ، ولأن ما ذكرناه تمسك بظاهر القرآن ، وما ذكروه تمسك بالخبر المذكور المنقول بالآحاد ، ولأنه معارض بالأحاديث الدالة على كون أبي بكر محباً لله ولرسوله . وكون الله محباً له وراضياً عنه . قال تعالى في حق أبي بكر { وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ } [ الليل : 21 ] وقال عليه الصلاة والسلام : " " إن الله يتجلى للناس عامة ويتجلى لأبي بكر خاصة " " وقال : " " ما صب الله شيئاً في صدري إلا وصبه في صدر أبي بكر " " وكل ذلك يدل على أنه كان يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله . وأما الوجه الثاني : وهو قولهم : الآية التي بعد هذه الآية دالة على إمامة علي فوجب أن تكون هذه الآية نازلة في علي ، فجوابنا : أنا لا نسلم دلالة الآية التي بعد هذه الآية على إمامة علي وسنذكر الكلام فيه إن شاء الله تعالى ، فهذا ما في هذا الموضع من البحث والله أعلم . أما قوله تعالى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } فتحقيق الكلام في المحبة ذكرناه في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ } [ البقرة : 165 ] فلا فائدة في الإعادة . وفيه دقيقة وهي أنه تعالى قدم محبته لهم على محبتهم له ، وهذا حق لأنه لولا أن الله أحبهم وإلا لما وفقهم حتى صاروا محبين له . ثم قال تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ } وهو كقوله { أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] قال صاحب « الكشاف » أذلة جمع ذليل ، وأما ذلول فجمعه ذلل ، وليس المراد بكونهم أذلة هو أنهم مهانون ، بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب ، فإن من كان ذليلاً عند إنسان فإنه ألبتة لا يظهر شيئاً من التكبر والترفع ، بل لا يظهر إلا الرفق واللين فكذا ههنا ، فقوله { أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ } أي يظهرون الغلطة والترفع على الكافرين . وقيل : يعازونهم أي يغالبونهم من قولهم : عزه يعزه إذا غلبه ، كأنهم مشددون عليهم بالقهر والغلبة . فإن قيل : هلا قيل : أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين . قلنا : فيه وجهان : أحدهما : أن يضمن الذل معنى الرحمة والشفقة ، كأنه قيل : راحمين عليهم مشفقين عليهم على وجه التذلل والتواضع ، والثاني : أنه تعالى ذكر كلمة { عَلَىٰ } حتى يدل على علو منصبهم وفضلهم وشرفهم ، فيفيد أن كونهم أذلة ليس لأجل كونهم ذليلين في أنفسهم ، بل ذاك التذلل إنما كان لأجل أنهم أرادوا أن يضموا إلى علو منصبهم فضيلة التواضع . وقرىء أذلة وأعزة بالنصب على الحال . ثم قال تعالى : { يُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ } أي لنصرة دين الله { وَلاَ يَخَـٰفُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } وفيه وجهان : الأول : أن تكون هذه الواو للحال ، فإن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم ، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن من كان قوياً في الدين فإنه لا يخاف في نصرة دين الله بيده ولسانه لومة لائم . الثاني : أن تكون هذه الواو للعطف ، والمعنى أن من شأنهم أن يجاهدوا في سبيل الله لا لغرض آخر ، ومن شأنهم أنهم صلاب في نصرة الدين لا يبالون بلومة اللائمين ، واللومة المرة الواحدة من اللوم ، والتنكير فيها وفي اللائم مبالغة ، كأنه قيل : لا يخافون شيئاً قط من لوم أحد من اللائمين . ثم قال تعالى : { ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } فقوله { ذٰلِكَ } إشارة إلى ما تقدم ذكره من وصف القوم بالمحبة والذلة والعزة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة الواحدة ، فبيّن تعالى أن كل ذلك بفضله إحسانه ، وذلك صريح في أن طاعات العباد مخلوقة لله تعالى ، والمعتزلة يحملون اللفظ على فعل الالطاف ، وهو بعيد لأن فعل الألطاف عام في حق الكل ، فلا بدّ في التخصيص من فائدة زائدة . ثم قال تعالى : { وَٱللَّهُ وٰسِعٌ عَلِيمٌ } فالواسع إشارة إلى كمال القدرة ، والعليم إشارة إلى كمال العلم ، ولما أخبر الله تعالى أنه سيجيء بأقوام هذا شأنهم وصفتهم أكد ذلك بأنه كامل القدرة فلا يعجز عن هذا الموعود ، كامل العلم فيمتنع دخول الخلف في أخباره ومواعيده .