Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 64-64)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } . اعلم أن في الآية مسائل : المسألة الأولى : في هذا الموضع إشكال وهو أن الله تعالى حكى عن اليهود أنهم قالوا ذلك ، ولا شك في أن الله تعالى صادق في كل ما أخبر عنه ، ونرى اليهود مطبقين متفقين على أنا لا نقول ذلك ولا نعتقده ألبتة ، وأيضاً المذهب الذي يحكى عن العقلاء لا بدّ وأن يكون معلوم البطلان بضرورة العقل ، والقول بأن يد الله مغلولة قول باطل ببديهة العقل ، لأن قولنا الله اسم لموجود قديم ، وقادر على خلق العالم وإيجاده وتكوينه ، وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة وقدرته مقيدة وقاصرة ، وإلا فكيف يمكنه مع القدرة الناقصة حفظ العالم وتدبيره . إذا ثبت هذا فنقول : حصل الاشكال الشديد في كيفية تصحيح هذا النقل وهذه الرواية فنقول : عندنا فيه وجوه : الأول : لعلّ القوم إنما قالوا هذا على سبيل الإلزام ، فإنهم لما سمعوا قوله تعالى : { مَّن ذَا ٱلَّذِى يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } [ البقرة : 245 ] قالوا : لو احتاج إلى القرض لكان فقيراً عاجزاً ، فلما حكموا بأن الإلۤه الذي يستقرض شيئاً من عباده فقير مغلول اليدين ، لا جرم حكى الله عنهم هذا الكلام الثاني : لعلّ القوم لما رأوا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في غاية الشدة والفقر والحاجة قالوا على سبيل السخرية والاستهزاء : إن إلۤه محمد فقير مغلول اليد ، فلما قالوا ذلك حكى الله عنهم هذا الكلام الثالث : قال المفسرون : اليهود كانوا أكثر الناس مالاً وثروة ، فلما بعث الله محمداً وكذبوا به ضيق الله عليهم المعيشة فعند ذلك قالت اليهود : يد الله مغلولة ، أي مقبوضة عن العطاء على جهة الصفة بالبخل ، والجاهل إذا وقع في البلاء والشدة والمحنة يقول مثل هذه الألفاظ . الرابع : لعلّه كان فيهم من كان على مذهب الفلسفة ، وهو أنه تعالى مموجب لذاته ، وأن حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نهج واحد وسنن واحد ، وأنه تعالى غير قادر على إحداث الحوادث على غير الوجوه التي عليها تقع ، فعبروا عن عدم الاقتدار على التغيير والتبديل بغل اليد . الخامس : قال بعضهم : المراد هو قول اليهود : إن الله لا يعذبنا إلا بقدر الأيام التي عبدنا العجل فيها ، إلا أنهم عبروا عن كونه تعالى غير معذب لهم إلا في هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة ، واستوجبوا اللعن بسبب فساد العبارة وعدم رعاية الأدب ، وهذا قول الحسن فثبت أن هذه الحكاية صحيحة على كل هذه الوجوه والله أعلم . المسألة الثانية : غل اليد وبسطها مجاز مشهور عن البخل والجود ، ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] قالوا : والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال لا سيما لدفع المال ولإنفاقه ، فأطلقوا اسم السبب على المسبب ، وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل . فقيل للجواد : فياض الكف مبسوط اليد ، وبسط البنان تره الأنامل . ويقال للبخيل : كز الأصابع مقبوض الكف جعد الأنامل . فإن قيل : فلما كان قوله { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } المراد منه البخل وجب أن يكون قوله { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } المراد منه أيضاً البخل لتصح المطابقة ، والبخل من الصفات المذمومة التي نهى الله تعالى عنها ، فكيف يجوز أن يدعو عليهم بذلك ؟ قلنا : قوله { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } عبارة عن عدم المكنة من البذل والإعطاء ، ثم إن عدم المكنة من الاعطاء تارة يكون لأجل البخل وتارة يكون لأجل الفقر ، وتارة يكون لأجل العجز ، فكذلك قوله { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } دعاء عليهم بعدم القدرة والمكنة سواء حصل ذلك بسبب العجز أو الفقر أو البخل ، وعلى هذا التقدير فإنه يزول الاشكال . المسألة الثالثة : قوله { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } فيه وجهان : الأول : أنه دعاء عليهم ، والمعنى أنه تعالى يعلمنا أن ندعو عليهم بهذا الدعاء كما علمنا الاسثناء في قوله { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَاء ٱللَّهُ ءامِنِينَ } [ الفتح : 27 ] وكما علمنا الدعاء عللى المنافقين في قوله { فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضًا } [ البقرة : 10 ] وعلى أبي لهب في قوله { تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ } [ المسد : 1 ] الثاني : أنه إخبار . قال الحسن : غلت أيديهم في نار جهنم على الحقيقة ، أي شدت إلى أعناقهم جزاءً لهم على هذا القول . فإن قيل : فإذا كان هذا الغل إنما حكم به جزاءً لهم على هذا القول ، فكان ينبغي أن يقال : فغلت أيديهم . قلنا : حذف العطف وإن كان مضمراً إلا أنه حذف لفائدة ، وهي أنه لما حذف كان قوله { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } كالكلام المبتدأ به ، وكون الكلام مبتدأ به يزيده قوة ووثاقة لأن الابتداء بالشيء يدل على شدة الاهتمام به وقوة الاعتناء بتقريره ، ونظير هذا الموضع في حذف فاء التعقيب قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا } [ البقرة : 67 ] ولم يقل : فقالوا أتتخذنا هزواً . وأما قوله { وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } قال الحسن عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار . ثم قال تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } . واعلم أن الكلام في هذه الآية من المهمات ، فإن الآيات الكثيرة من القرآن ناطقة بإثبات اليد ، فتارة المذكور هو اليد من غير بيان العدد . قال تعالى : { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] وتارة بإثبات اليدين لله تعالى : منها هذه الآية ، ومنها قوله تعالى لإبليس الملعون { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } [ ص : 75 ] وتارة بإثبات الأيدي . قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعـٰماً } [ يۤس : 71 ] . إذا عرفت هذا فنقول اختلفت الأمة في تفسير يد الله تعالى ، فقالت المجسمة : إنها عضو جسماني كما في حق كل أحد ، واحتجوا عليه بقوله تعالى : { ألَهُمْ أرجل يمشون بها أم لهم أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } [ الأعراف : 195 ] وجه الاستدلال أنه تعالى قدح في إلۤهية الأصنام لأجل أنها ليس لها شيء من هذه الأعضاء ، فلو لم تحصل لله هذه الأعضاء لزم القدح في كونه إلۤهاً ، ولما بطل ذلك وجب إثبات هذه الأعضاء له قالوا وأيضاً اسم اليد موضوع لهذا العضو ، فحمله على شيء آخر ترك للغة ، وإنه لا يجوز . واعلم أن الكلام في إبطال هذا القول مبني على أنه تعالى ليس بجسم ، والدليل عليه أن الجسم لا ينفك عن الحركة والسكون ، وهما محدثان ، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث ، ولأن كل جسم فهو متناه في المقدار ، وكل ما كان متناهياً في المقدار فهو محدث ، ولأن كل جسم فهو مؤلف من الأجزاء ، وكل ما كان كذلك كان قابلاً للتركيب والانحلال ، وكل ما كان كذلك افتقر إلى ما يركّبه ويؤلفه ، وكل ما كان كذلك فهو محدث ، فثبت بهذه الوجوه أنه يمتنع كونه تعالى جسماً ، فيمتنع أن تكون يده عضواً جسمانياً . وأما جمهور الموحدين فلهم في لفظ اليد قولان : الأول : قول من يقول : القرآن لما دلّ على إثبات اليد لله تعالى آمنا به ، والعقل لما دل على أنه يمتنع أن تكون يد الله عبارة عن جسم مخصوص وعضو مركب من الأجزاء والأبعاض آمنا به ، فأما أن اليد ما هي وما حقيقتها فقد فوضنا معرفتها إلى الله تعالى ، وهذا هو طريقة السلف . وأما المتكلمون فقالوا : اليد تذكر في اللغة على وجوه : أحدها : الجارحة وهو معلوم ، وثانيها : النعمة ، تقول : لفلان عندي يد أشكره عليها ، وثالثها : القوة قال تعالى { أُوْلِى ٱلأَيْدِى وَٱلأَبْصَـٰرِ } [ صۤ : 45 ] فسروه بذوي القوى والعقول ، وحكى سيبويه أنهم قالوا : لا يد لك بهذا ، والمعنى سلب كمال القدرة ورابعها : الملك ، يقال : هذه الضيعة في يد فلان ، أي في ملكه . قال تعالى : { ٱلَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ ٱلنّكَاحِ } [ البقرة : 237 ] أي يملك ذلك ، وخامسها : شدة العناية والاختصاص . قال تعالى : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ } [ صۤ : 75 ] والمراد تخصيص آدم عليه السلام بهذا التشريف ، فإنه تعالى هو الخالق لجميع المخلوقات . ويقال : يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمن له شيئاً . إذا عرفت هذا فنقول : اليد في حق الله يمتنع أن تكون بمعنى الجارحة ، وأما سائر المعاني فكلها حاصلة . وههنا قول آخر ، وهو أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله زعم في بعض أقواله أن اليد صفة قائمة بذات الله تعالى ، وهي صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء قال : والذي يدل عليه أنه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيديه علة لكرامة آدم واصطفائه ، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لامتنع كونه علة للاصطفاء ، لأن ذلك حاصل في جميع المخلوقات ، فلا بدّ من إثبات صفة أخرى وراء القدرة يقع بها الخلق والتكوين على سبيل الاصطفاء ، وأكثر العلماء زعموا أن اليد في حق الله تعالى عبارة عن القدرة وعن النعمة . فإن قيل : إن فسرتم اليد في حق الله تعالى بالقدرة فهذا مشكل لأن قدرة الله تعالى واحدة ونص القرآن ناطق بإثبات اليدين تارة ، وبإثبات الأيدي أخرى ، وإن فسرتموها بالنعمة فنص القرآن ناطق بإثبات اليدين ، ونعم الله غير محدودة كما قال تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] [ النحل : 18 ] . والجواب : إن اخترنا تفسير اليد بالقدرة كان الجواب عن الاشكال المذكور أن القوم جعلوا قولهم { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } كناية عن البخل ، فأجيبوا على وفق كلامهم ، فقيل { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } أي ليس الأمر على ما وصفتموه به من البخل ، بل هو جواد على سبيل الكمال . فإن من أعطى بيده أعطى على أكمل الوجوه ، وأما إن اخترنا تفسير اليد بالنعمة كان الجواب عن الاشكال المذكور من وجهين : الأول : أنه نسبة بحسب الجنس ، ثم يدخل تحت كل واحد من الجنسين أنواع لا نهاية لها ، فقيل : نعمتاه نعمة الدين ونعمة الدنيا ، أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن ، أو نعمة النفع ونعمة الدفع ، أو نعمة الشدة ونعمة الرخاء . الثاني : أن المراد بالنسبة المبالغة في وصف النعمة ، ألا ترى أن قولهم لبيك معناه إقامة على طاعتك بعد إقامة ، وكذلك سعديك معناه مساعدة بعد مساعدة ، وليس المراد منه طاعتين ولا مساعدتين . فكذلك الآية : المعنى فيها أن النعمة متظاهرة متتابعة ليست كما ادعى من أنها مقبوضة ممتنعة . ثم قال تعالى : { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } أي يرزق ويخلق كيف يشاء ، إن شاء قتر ، وإن شاء وسع . وقال { وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى ٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء } [ الشورى : 27 ] وقال { يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَنْ يَشَاء وَيَقَدِرُ } [ الرعد : 26 ] وقال { قل الّلهم مالك الملك } إلى قوله { وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ } [ آل عمران : 26 ] . واعلم أن هذه الآية رد على المعتزلة ، وذلك لأنهم قالوا : يجب على الله تعالى إعطاء الثواب للمطيع ، ويجب عليه أن لا يعاقبه ، ويجب عليه أن لا يدخل العاصي الجنة ، ويجب عليه عند بعضهم أن يعاقبه ، فهذا المنع والحجر والقيد يجري مجرى الغل ، فهم في الحقيقة قائلون بأن يد الله مغلولة وأما أهل السنة فهم القائلون بأن الملك ملكه ، وليس لأحد عليه استحقاق ، ولا لأحد عليه اعتراض كما قال { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [ المائدة : 17 ] فقوله سبحانه : { بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء } لا يستقيم إلا على المذهب والمقالة ، والحمد لله على الدين القويم والصراط المستقيم . ثم قال تعالى : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَـٰناً وَكُفْراً } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : المراد بالكثير علماء اليهود ، يعني ازدادوا عند نزول ما أنزل إليك من ربك من القرآن والحجج شدة في الكفر وغلواً في الانكار ، كما يقال : ما زادتك موعظتي إلا شراً . وقيل : إقامتهم على الكفر زيادة منهم في الكفر . المسألة الثانية : قال أصحابنا : دلّت الآية على أنه تعالى لا يراعي مصالح الدين والدنيا لأنه تعالى لما علم أنهم يزدادون عند إنزال تلك الآيات كفراً وضلالاً ، فلو كانت أفعاله معللة برعاية المصالح للعباد لامتنع عليه إنزال تلك الآيات ، فلما أنزلها علمنا أنه تعالى لا يراعي مصالح العباد ، ونظيره قوله { فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] . فإن قالوا : علم الله تعالى من حالهم أنهم سواء أنزلها أو لم ينزلها فإنهم يأتون بتلك الزيادة من الكفر ، فلهذا حسن منه تعالى إنزالها . قلنا : فعلى هذا التقدير لم يكن ذلك الازدياد لأجل إنزال تلك الآيات ، وهذا يقتضي أن تكون إضافة ازدياد الكفر إلى إنزال تلك الآيات باطلاً ، وذلك تكذيب لنص القرآن . ثم قال تعالى : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاء إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } . واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى بيّن أنهم إنما ينكرون نبوته بعد ظهور الدلائل على صحتها لأجل الحسد ولأجل حب الجاه والتبع والمال والسيادة . ثم إنه تعالى بيّن أنهم لما رجحوا الدنيا على الآخرة لا جرم أن الله تعالى كما حرمهم سعادة الدين ، فكذلك حرمهم سعادة الدينا ، لأن كل فريق منهم بقي مصراً على مذهبه ومقالته ، يبالغ في نصرته ويطعن في كل ما سواه من المذاهب والمقالات تعظيماً لنفسه وترويجاً لمذهبه ، فصار ذلك سبباً لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم ، وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفر بعضاً ويغزو بعضهم بعضاً ، وفي قوله { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاء } قولان : الأول : المراد منه ما بين اليهود والنصارى من العداوة لأنه جرى ذكرهم في قوله { لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ } [ المائدة : 51 ] وهو قول الحسن ومجاهد . الثاني : أن المراد وقوع العداوة بين فرق اليهود ، فإن بعضهم جبرية ، وبعضهم قدرية ، وبعضهم موحدة ، وبعضهم مشبهة ، وكذلك بين فرق النصارى : كالملكانية والنسطورية واليعقوبية . فإن قيل : فهذا المعنى حاصل بتمامه بين فرق المسلمين ، فكيف يمكن جعله عيباً على اليهود والنصارى ؟ قلنا : هذه البدع إنما حدثت بعد عصر الصحابة والتابعين ، أما في ذلك الزمان فلم يك شيء من ذلك حاصلاً ، فلا جرم حسن من الرسول ومن أصحابه جعل ذلك عيباً على اليهود والنصارى . ثم قال تعالى : { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ } . وهذا شرح نوع آخر من أنواع المحن عن اليهود ، وهو أنهم كلما هموا بأمر من الأمور رجعوا خائبين خاسرين مقهورين ملعونين كما قال تعالى : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ } [ آل عمران : 112 ] قال قتادة : لا تلقى اليهود ببلدة إلا وجدتم من أذل الناس . ثم قال تعالى : { وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأَرْضِ فَسَاداً } أي ليس يحصل في أمرهم قوة من العزة والمنعة ، إلا أنهم يسعون في الأرض فساداً ، وذلك بأن يخدعوا ضعيفاً ، ويستخرجوا نوعاً من المكر والكيد على سبيل الخفية . وقيل : إنهم لما خالفوا حكم التوراة سلّط عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فسلّط عليهم بطرس الرومي ، ثم أفسدوا فسلّط عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلّط عليهم المسلمين . ثم قال تعالى : { وَٱللَّهُ لا يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } وذلك يدل على أن الساعي في الأرض بالفساد ممقوت عند الله تعالى ثم قال تعالى :