Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 53, Ayat: 2-3)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم قال تعالى : { ما ضل صاحبكم وما غوى } أكثر المفسرين لم يفرقوا بين الضلال والغي ، والذي قاله بعضهم عند محاولة الفرق : أن الضلال في مقابلة الهدى ، والغي في مقابلة الرشد ، قال تعالى : { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ ٱلْغَىّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } [ الأعراف : 146 ] وقال تعالى : { قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيّ } [ البقرة : 256 ] وتحقيق القول فيه أن الضلال أعم استعمالاً في الوضع ، تقول ضل بعيري ورحلي ، ولا تقول غوى ، فالمراد من الضلال أن لا يجد السالك إلى مقصده طريقاً أصلا ، والغواية أن لا يكون له طريق إلى المقصد مستقيم يدلك على هذا أنك تقول للمؤمن الذي ليس على طريق السداد إنه سفيه غير رشيد ، ولا تقول إنه ضال ، والضال كالكافر ، والغاوي كالفاسق ، فكأنه تعالى قال : { مَا ضَلَّ } أي ما كفر ، ولا أقل من ذلك فما فسق ، ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى : { فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } [ النساء : 6 ] أو نقول الضلال كالعدم ، والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة ، وقوله { صَـٰحِبُكُمْ } فيه وجهان الأول : سيدكم والآخر : مصاحبكم ، يقال صاحب البيت ورب البيت ، ويحتمل أن يكون المراد من قوله { مَا ضَلَّ } أي ما جن ، فإن المجنون ضال ، وعلى هذا فهو كقوله تعالى : { ن وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } [ القلم : 1 - 3 ] فيكون إشارة إلى أنه ما غوى ، بل هو رشيد مرشد دال على الله بإرشاد آخر ، كما قال تعالى : { قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } [ الشعراء : 109 ] وقال : { إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ } [ يونس : 72 ] وقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [ القلم : 4 ] إشارة إلى قوله ههنا { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } فإن هذا خلق عظيم ، ولنبين الترتيب فنقول : قال أولاً { مَا ضَلَّ } أي هو على الطريق { وَمَا غَوَىٰ } أي طريقه الذي هو عليه مستقيم { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } أي هو راكب متنه آخذ سمت المقصود ، وذلك لأن من يسلك طريقاً ليصل إلى مقصده فربما يبقى بلا طريق ، وربما يجد إليه طريقاً بعيداً فيه متاعب ومهالك ، وربما يجد طريقاً واسعاً آمناً ، ولكنه يميل يمنة ويسرة فيبعد عنه المقصد ، ويتأخر عليه الوصول ، فإذا سلك الجادة وركب متنها كان أسرع وصولاً ، ويمكن أن يقال { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } دليل على أنه ما ضل وما غوى ، تقديره : كيف يضل أو يغوى وهو لا ينطق عن الهوى ، وإنما يضل من يتبع الهوى ، ويدل عليه قوله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ صۤ : 26 ] فإن قيل ما ذكرت من الترتيب الأول على صيغة الماضي في قوله { مَا ضَلَّ } وصيغة المستقبل في قوله { وَمَا يَنطِقُ } في غاية الحسن ، أي ما ضل حين اعتزلكم وما تعبدون في صغره { وَمَا غَوَىٰ } حين اختلى بنفسه ورأى منامه ما رأى وما ينطق عن الهوى الآن حيث أرسل إليكم وجعل رسولاً شاهداً عليكم ، فلم يكن أولاً ضالاً ولا غاوياً ، وصار الآن منقذاً من الضلالة ومرشداً وهادياً . وأما على ما ذكرت أن تقديره كيف يضل وهو لا ينطق عن الهوى فلا توافقه الصيغة ؟ نقول بلى ، وبيانه أن الله تعالى يصون من يريد إرساله في صغره عن الكفر ، والمعايب القبيحة كالسرقة والزنا واعتياد الكذب ، فقال تعالى : { مَا ضَلَّ } في صغره ، لأنه لا ينطق عن الهوى ، وأحسن ما يقال في تفسير الهوى أنها المحبة ، لكن من النفس يقال هويته بمعنى أحببته لكن الحروف التي في هوى تدل على الدنو والنزول والسقوط ومنه الهاوية ، فالنفس إذا كانت دنيئة ، وتركت المعالي وتعلقت بالسفاسف فقد هوت فاختص الهوى بالنفس الأمارة بالسوء ، ولو قلت أهواه بقلبي لزال ما فيه من السفالة ، لكن الاستعمال بعد استبعاد استعمال القرآن حيث لم يستعمل الهوى إلا في المواضع الذي يخالف المحبة ، فإنها مستعملة في موضع المدح ، والذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى : { فَأَمَّا مَن طَغَىٰ وَءاثَرَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا } [ النازغات : 37 38 ] إلى قوله { وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } [ النازعات : 40 ] إشارة إلى علو مرتبة النفس .