Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 54, Ayat: 12-12)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وفيه من البلاغة ما ليس في قول القائل : وفجرنا عيون الأرض ، وهذا بيان التمييز في كثير من المواضع ، إذا قلت ضاق زيد ذرعاً ، أثبت مالا يثبته قولك ضاق ذرع زيد ، وفيه مسائل : المسألة الأولى : قال : { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً } ولم يقل ففتحنا السماء أبواباً ، لأن السماء أعظم من الأرض وهي للمبالغة ، ولهذا قال : { أَبْوٰبَ ٱلسَّمَاء } ولم يقل : أنابيب ولا منافذ ولا مجاري أو غيرها . وأما قوله تعالى : { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً } فهو أبلغ من قوله : وفجرنا عيون الأرض ، لأنه يكون حقيقة لا مبالغة فيه ، ويكفي في صحة ذلك القول أن يجعل في الأرض عيوناً ثلاثة ، ولا يصلح مع هذا في السماء إلا قول القائل : فأنزلنا من السماء ماء أو مياهاً ، ومثل هذا الذي ذكرناه في المعنى لا في المعجزة ، والحكمة قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِى ٱلأَرْضِ } [ الزمر : 21 ] حيث لا مبالغة فيه ، وكلامه لا يماثل كلام الله ولا يقرب منه ، غير أني ذكرته مثلاً : { وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } [ النحل : 60 ] . المسألة الثانية : العيون في عيون الماء حقيقة أو مجاز ؟ نقول : المشهور أن لفظ العين مشترك ، والظاهر أنها حقيقة في العين التي هي آلة الأبصار ومجاز في غيرها ، أما في عيون الماء فلأنها تشبه العين الباصرة التي يخرج منها الدمع ، أو لأن الماء الذي في العين كالنور الذي في العين غير أنها مجاز مشهور صار غالباً حتى لا يفتقر إلى القرينة عند الاستعمال إلا للتمييز بين العينين ، فكما لا يحمل اللفظ على العين الباصرة إلا بقرينة ، كذلك لا يحمل على الفوارة إلا بقرينة مثل : شربت من العين واغتسلت منها ، وغير ذلك من الأمور التي توجد في الينبوع ، ويقال : عانه يعينه إذا أصابه بالعين ، وعينه تعييناً ، حقيقته جعله بحيث تقع عليه العين ، وعاينه معاينة وعياناً ، وعين أي صار بحيث تقع عليه العين . المسألة الثالثة : قوله تعالى : { فَالْتَقَى ٱلمَاء } قرىء فالتقى الماءان ، أي النوعان ، منه ماء السماء وماء الأرض ، فتثنى أسماء الأجناس على تأويل صنف ، تجمع أيضاً ، يقال : عندي تمران وتمور وأتمار على تأويل نوعين وأنواع منه والصحيح المشهور : { فَالْتَقَى ٱلمَاء } وله معنى لطيف ، وذلك أنه تعالى لما قال : { فَفَتَحْنَا أَبْوٰبَ ٱلسَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ } [ القمر : 11 ] ذكر الماء وذكر الانهمار وهو النزول بقوة ، فلما قال : { وَفَجَّرْنَا ٱلأَرْضَ عُيُوناً } كان من الحسن البديع أن يقول : ما يفيد أن الماء نبع منها بقوة ، فقال : { فَالْتَقَى ٱلمَاء } أي من العين فار الماء بقوة حتى ارتفع والتقى بماء السماء ، ولو جرى جرياً ضعيفاً لما كان هو يلتقي مع ماء السماء بل كان ماء السماء يرد عليه ويتصل به ، ولعل المراد من قوله : { وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } [ هود : 40 ] مثل هذا . وقوله تعالى : { عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } فيه وجوه الأول : على حال قد قدرها الله تعالى كما شاء الثاني : على حال قدر أحد الماءين بقدر الآخر الثالث : على سائر المقادير ، وذلك لأن الناس اختلفوا ، فمنهم من قال : ماء السماء كان أكثر ، ومنهم من قال : ماء الأرض ، ومنهم من قال : كانا متساويين ، فقال : على أي مقدار كان ، والأول إشارة إلى عظمة أمر الطوفان ، فإن تنكير الأمر يفيد ذلك ، يقول القائل : جرى على فلان شيء لا يمكن أن يقال إشارة إلى عظمته ، وفيه احتمال آخر ، وهو أن يقال : التقى الماء ، أي اجتمع على أمر هلاكهم ، وهو كان مقدوراً مقدراً ، وفيه رد على المنجمين الذين يقولون إن الطوفان كان بسبب اجتماع الكواكب السبعة حول برج مائي ، والغرق لم يكن مقصوداً بالذات ، وإنما ذلك أمر لزم من الطوفان الواجب وقوعه ، فقال : لم يكن ذلك إلا لأمر قد قدر ، ويدل عليه أن الله تعالى أوحى إلى نوح بأنهم من المغرقين .