Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 54, Ayat: 55-55)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فيه مسائل : المسألة الأولى : { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ } ، كيف مخرجه ؟ نقول : يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون على صورة بدل كما يقول القائل : فلان في بلدة كذا في دار كذا وعلى هذا يكون مقعد من جملة الجنات موضعاً مختاراً له مزية على مافي الجنات من المواضع وعلى هذا قوله : { عِندَ مَلِيكٍ } لأنا بينا في أحد الوجوه أن المراد من قوله : { فِى جَنَّـٰتٍ وَنَهَرٍ } [ القمر : 54 ] في جنات عند نهر فقال : { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } ويحتمل أن يقال : { عِندَ مَلِيكٍ } صفة مقعد صدق تقول درهم في ذمة ملىء خير من دينار في ذمة معسر ، وقليل عند أمين أفضل من كثير عند خائن فيكون صفة وإلا لما حسن جعله مبتدأ ثانيهما : أن يكون : { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ } كالصفة لجنات ونهر أي في جنات ونهر موصوفين بأنهما في مقعد صدق ، تقول : وقفة في سبيل الله أفضل من كذا و : { عِندَ مَلِيكٍ } صفة بعد صفة . المسألة الثانية : قوله : { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ } يدل على لبث لا يدل عليه المجلس ، وذلك لأن قعد وجلس ليسا على ما يظن أنهما بمعنى واحد لا فرق بينهما بل بينهما فرق ولكن لا يظهر إلا للبارع ، والفرق هو أن القعود جلوس فيه مكث حقيقة واقتضاء ، ويدل عليه وجوه الأول : هو أن الزمن يسمى مقعداً ولا يسمى مجلساً لطول المكث حقيقة ومنه سمي قواعد البيت والقواعد من النساء قواعد ولا يقال لهن : جوالس لعدم دلالة الجلوس على المكث الطويل فذكر القواعد في الموضعين لكونه مستقراً بين الدوام والثبات على حالة واحدة ويقال للمركوب من الإبل قعود لدوام اقتعاده اقتضاء ، وإن لم يكن حقيقة فهو لصونه عن الحمل واتخاذه للركوب كأنه وجد فيه نوع قعود دائم اقتضى ذلك ولم يرد للإجلاس الثاني : النظر إلى تقاليب الحروف فإنك إذا نظرت إلى ق ع د وقلبتها تجد معنى المكث في الكل فإذا قدمت القاف رأيت قعد وقدع بمعنى ومنه تقادع الفراش بمعنى تهافت ، وإذا قدمت العين رأيت عقد وعدق بمعنى المكث في غاية الظهور وفي عدق لخفاء يقال : أعدق بيدك الدلو في البئر إذا أمره بطلبه بعد وقوعه فيها والعودقة خشبة عليها كلاب يخرج معه الدلو الواقع في البئر ، وإذا قدمت الدال رأيت دقع ودعق والمكث في الدقع ظاهر والدقعاء هي التراب الملتصق بالأرض والفقر المدقع هو الذي يلصق صاحبه بالتراب . وفي دعق أيضاً إذ الدعق مكان تطؤه الدواب بحوافرها فيكون صلباً أجزاؤه متداخل بعضها ببعض لا يتحرك شيء منها عن موضعه الوجه الثالث : الاستعمالات في القعود إذا اعتبرت ظهر ما ذكرنا قال تعالى : { لاَّ يَسْتَوِى ٱلْقَـٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى ٱلضَّرَرِ } [ النساء : 95 ] والمراد الذي لا يكون بعده اتباع وقال تعالى : { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [ آل عمران : 121 ] مع أنه تعالى قال : { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَـٰتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَـٰنٌ مَّرْصُوصٌ } [ الصف : 4 ] فأشار إلى الثبات العظيم . وقال تعالى : { إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ } [ الأنفال : 45 ] فالمقاعد إذن هي المواضع التي يكون فيها المقاتل بثبات ومكث وإطلاق مقعدة على العضو الذي عليه القعود أيضاً يدل عليه ، إذا عرفت هذا الفرق بين الجلوس والقعود حصل لك فوائد منها ههنا فإنه يدل على دوام المكث وطول اللبث ، ومنها في قوله تعالى : { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشّمَالِ قَعِيدٌ } [ ق : 17 ] فإن القعيد بمعنى الجليس والنديم ، ثم إذا عرف هذا وقيل للمفسرين الظاهرين فما الفائدة في اختيار لفظ القعيد يدل لفظ الجليس مع أن الجليس أشهر ؟ يكون جوابهم أن آخر الآيات من قوله : { حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ قۤ : 16 ] { وٰلِدَىَّ عَتِيدٌ } [ قۤ : 23 ] وقوله : { بِجَبَّارٍ عَنِيدٍ } [ هود : 59 ] يناسب القعيد ، ولا الجليس وإعجاز القرآن ليس في السجع ، وإذا نظرت إلى ما ذكر تبين لك فائدة جليلة معنوية حكمية في وضع اللفظ المناسب لأن القعيد دل على أنهما لا يفارقانه ويداومان الجلوس معه ، وهذا هو المعجز وذلك لأن الشاعر يختار اللفظ الفاسد لضرورة الشعر والسجع ويجعل المعنى تبعاً للفظ ، والله تعالى بين الحكمة على ما ينبغي وجاء باللفظ على أحسن ما ينبغي ، وفائدة أخرى في قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِى ٱلْمَجَـٰلِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَانشُزُواْ } [ المجادلة : 11 ] فإن قوله : { فَٱفْسَحُواْ } إشارة إلى الحركة ، وقوله : { فَانشُزُواْ } إشارة إلى ترك الجلوس فذكر المجلس إشارة إلى أن ذلك موضع جلوس فلا يجب ملازمته وليس بمقعد حتى لا يفارقونه . المسألة الثالثة : { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ } وجهان أحدهما : مقعد صدق ، أي صالح يقال : رجل صدق للصالح ورجل سوء للفاسد ، وقد ذكرناه في سورة : { إِنَّا فَتَحْنَا } في قوله تعالى : { وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْء } [ الفتح : 12 ] ، وثانيهما : الصدق المراد منه ضد الكذب ، وعلى هذا ففيه وجهان الأول : مقعد صدق من أخبر عنه وهو الله ورسوله الثاني : مقعد ناله من صدق فقال : بأن الله واحد وأن محمداً رسوله ، وحتمل أن يقال المراد أنه مقعد لا يوجد فيه كذب لأن الله تعالى صادق ويستحيل عليه الكذب ومن وصل إليه امتنع عليه الكذب لأن مظنة الكذب الجهل والواصل إليه ، يعلم الأشياء كما هي ويستغني بفضل الله عن أن يكذب ليستفيد بكذبه شيئاً فهو مقعد صدق وكلمة { عِندَ } قد عرفت معناها والمراد منه قرب المنزلة والشأن لا قرب المعنى والمكان ، وقوله تعالى : { مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } لأن القربة من الملوك لذيذة كلما كان الملك أشد اقتداراً كان المتقرب منه أشد التذاذاً وفيه إشارة إلى مخالفة معنى القرب منه من معنى القرب من الملوك ، فإن الملوك يقربون من يكون ممن يحبونه وممن يرهبونه ، مخافة أن يعصوا عليه وينحازوا إلى عدوه فيغلبونه ، والله تعالى قال : { مُّقْتَدِرٍ } لا يقرب أحداً إلا بفضله . والحمد لله وصلاته على سيدنا محمد خير خلقه وآله وصحبه وسلامه .