Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 56, Ayat: 24-24)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وفي نصبه وجهان أحدهما : أنه مفعول له وهو ظاهر تقديره فعل بهم هذا ليقع جزاء وليجزون بأعمالهم ، وعلى هذا فيه لطيفة : وهي أن نقول : المعنى أن هذا كله جزاء عملكم وأما الزيادة فلا يدركها أحد منكم وثانيهما : أنه مصدر لأن الدليل على أن كل ما يفعله الله فهو جزاء فكأنه قال : تجزون جزاء ، وقوله : { بِمَا كَانُوا } قد ذكرنا فائدته في سورة الطور وهي أنه تعالى قال في حق المؤمنين : { جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الواقعة : 24 ] وفي حق الكافرين : { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ التحريم : 7 ] إشارة إلى أن العذاب عين جزاء ما فعلوا فلا زيادة عليهم ، والثواب : { جَزَاء مّمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 ] فلا يعطيهم الله عين عملهم ، بل يعطيهم بسبب عملهم ما يعطيهم ، والكافر يعطيه عين ما فعل ، فيكون فيه معنى قوله تعالى : { مَن جَاء بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِٱلسَّيّئَةِ فَلاَ يَجْزِي إِلاَّ مِثْلَهَا } [ الأنعام : 160 ] وفيه مسائل : المسألة الأولى : أصولية ذكرها الإمام فخر الدين رحمه الله في مواضع كثيرة ، ونحن نذكر بعضها فالأولى : قالت المعتزلة : هذا يدل على أن يقال : الثواب على الله واجب ، لأن الجزاء لا يجوز المطالبة به ، وقد أجاب عنه الإمام فخر الدين رحمه الله بأجوبة كثيرة ، وأظن به أنه لم يذكر ما أقوله فيه وهو ما ذكروه . ولو صح لما كان في الوعد بهذه الأشياء فائدة ، وذلك لأن العقل إذا حكم بأن ترك الجزاء قبيح وعلم بالعقل أن القبيح من الله لا يوجد علم أن الله يعطي هذه الأشياء لأنها أجزية ، وإيصال الجزاء واجب ، وأما إذا قلنا : بمذهبنا تكون الآيات مفيدة مبشرة ، لأن البشارة لا تكون إلا بالخير عن أمر غير معلوم ، لا يقال : الجزاء كان واجباً على الله وأما الخبر بهذه الأشياء فلا يذكرها مبشراً ، لأنا نقول : إذا وجب نفس الجزاء فما أعطانا الله تعالى من النعم في الدنيا جزاء فثواب الآخرة لا يكون إلا تفضلاً منه ، غاية ما في الباب أنه تعالى كمل النعمة بقوله : هذا جزاؤكم ، أي جعلته لكم جزاء ، ولم يكن متعيناً ولا واجباً ، كما أن الكريم إذا أعطى من جاء بشيء يسير شيئاً كثيراً ، فيظن أنه يودعه إيداعاً أو يأمره بحمله إلى موضع ، فيقول له : هذا لك فيفرح ، ثم إنه يقول : هذا إنعام عظيم يوجب على خدمة كثيرة ، فيقول له هذا جزاء ما أتيت به ، ولا أطلب منك على هذا خدمة ، فإن أتيت بخدمة فلها ثواب جديد ، فيكون هذا غاية الفضل ، وعند هذا نقول : هذا كله إذا كان الآتي غير العبد ، وأما إذا فعل العبد ما أوجب عليه سيده لا يستحق عليه أجراً ، ولا سيما إذا أتى بما أمر به على نوع اختلال ، فما ظنك بحالنا مع الله عز وجل ، مع أن السيد لا يملك من عبده إلا البنية ، والله تعالى يملك منا أنفسنا وأجسامنا ، ثم إنك إذا تفكرت في مذهب أهل السنة تجدهم قد حققوا معنى العبودية غاية التحقيق ، واعترفوا أنهم عبيد لا يملكون شيئاً ولا يجب للعبد على السيد دين ، والمعتزلة لم يحققوا العبودية ، وجعلوا بينهم وبين الله معاملة توجب مطالبة ، ونرجوا أن يحقق الله تعالى معنا المالكية غاية التحقيق ، ويدفع حاجاتنا الأصلية ويطهر أعمالنا ، كما أن السيد يدفع حاجة عبده بإطعامه وكسوته ، ويطهر صومه بزكاة فطره ، وإذا جنى جناية لم يمكن المجنى عليه منه ، بل يختار فداءه ويخلص رقبته من الجناية ، كذلك يدفع الله حاجاتنا في الآخرة ، وأهم الحاجات أن يرحمنا ويعفو عنا ، ويتغمدنا بالمغفرة والرضوان ، حيث منع غيره عن تملك رقابنا باختيار الفداء عنا ، وأرجو أن لا يفعل مع إخواننا المعتزلة ما يفعله المتعاملان في المحاسبة بالنقير والقطمير ، والمطالبة بما يفضل لأحدهما من القليل والكثير . المسألة الثانية : قالوا : لو كان في الآخرة رؤية لكانت جزاء ، وقد حصر الله الجزاء فيما ذكر والجواب عنه : أن نقول : لم قلتم : إنها لو كانت تكون جزاء ، بل تكون فضلاً منه فوق الجزاء ، وهب أنها تكون جزاء ، ولكن لم قلتم : إن ذكر الجزاء حصر وإنه ليس كذلك ، لأن من قال لغيره : أعطيتك كذا جزاء على عمل لا ينافي قوله : وأعطيتك شيئاً آخر فوقه أيضاً جزاء عليه ، وهب أنه حصر ، لكن لم قلتم : إن القربة لا تدل على الرؤية ، فإن قيل : قال في حق الملائكة : { وَلاَ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [ النساء : 172 ] ، ولم يلزم من قربهم الرؤية ، نقول : أجبنا أن قربهم مثل قرب من يكون عند الملك لقضاء الأشغال ، فيكون عليه التكليف والوقوف بين يديه بالباب تخرج أوامره عليه ، كما قال تعالى : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] وقرب المؤمن قرب المنعم من الملك ، وهو الذي لا يكون إلا للمكالمة والمجالسة في الدنيا ، لكن المقرب المكلف ليس كلما يروح إلى باب الملك يدخل عليه وأما المنعم لا يذهب إليه إلا ويدخل عليه فظهر الفرق . والذي يدل على أن قوله : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [ الواقعة : 11 ] فيه إشارة إلى الرؤية هو أن الله تعالى في سورة المطففين ذكر الأبرار والفجار ، ثم إنه تعالى قال في حق الفجار : { إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] وقال في الأبرار : { يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ } [ المطففين : 28 ] ولم يذكر في مقابلة المحجوبون ما يدل على مخالفة حال الأبرار حال الفجار في الحجاب والقرب ، لأن قوله : { لَفِي عِلّيّينَ } [ المطففين : 18 ] وإن كان دليلاً على القرب وعلو المنزلة لكنه في مقابلة قوله : { لَفِي سِجّينٍ } [ المطففين : 7 ] فقوله تعالى في حقهم : { يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ } مع قوله تعالى : { وَسَقَـٰهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] يدل على أن المراد منه القرب الذي يكون لجلساء الملك عند الملك ، وقوله في حق الملائكة في تلك السورة : { يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } [ المطففين : 21 ] يدل على أن المراد منه القرب الذي يكون للكتاب والحساب عند الملك لما أنه في الدنيا يحسد أحدهما الآخر ، فإن الكاتب إن كان قربه من الملك بسبب الخدمة لا يختار قرب الكتاب والحساب ، بل قرب النديم ، ثم إنه بين ذلك النوع من القرب وبين القرب الذي بسبب الكتابة ما يحمله على أن يختار غيره ، وفي سورة المطففين قوله : { لَّمَحْجُوبُونَ } يدل على أن المقربين غير محجوبين عن النظر إلى الله تعالى ، وينبغي أن لا ينظر إلى الله قولنا : جلساء الملك في ظاهر النظر الذي يقتضي في نظر القوم الجهة وإلى القرب الذي يفهم العامي منه المكان إلا بنظر العلماء الأخبار الحكماء الأخبار . المسألة الثالثة : قالوا قوله تعالى : { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يدل على أن العمل عملهم وحاصل بفعلهم ، نقول : لا نزاع في أن العلم في الحقيقة اللغوية وضع للفعل والمجنون للذي لا عقل له والعاقل للذي بلغ الكمال فيه ، وذلك ليس إلا بوضع اللغة لما يدرك بالحس ، وكل أحد يرى الحركة من الجسمين فيقول : تحرك وسكن على سبيل الحقيقة ، كما يقول : تدور الرحا ويصعد الحجر ، وإنما الكلام في القدرة التي بها الفعل في المحل المرئي ، وذلك خارج عن وضع اللغة .