Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 57, Ayat: 27-27)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ ءاثَـٰرِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَءاتَيْنَـٰهُ ٱلإنجِيلَ } . وفيه مسألتان : المسألة الأولى : معنى قفاه أتبعه بعد أن مضى ، والمراد أنه تعالى أرسل بعضهم بعد بعض إلى أن انتهى إلى أيام عيسى عليه السلام فأرسله الله تعالى بعدهم وآتاه الإنجيل . المسألة الثانية : قال ابن جني قرأ الحسن : { وآتيناه الأنجيل } بفتح الهمزة ، ثم قال : هذا مثال لا نظير له ، لأن أفعيل وهو عندهم من نجلت الشيء إذا استخرجته ، لأنه يستخرج به الأحكام ، والتوراة فوعلة من ورى الزند يرى إذا أخرج النار ، ومثله الفرقان وهو فعلان من فرقت بين الشيئين ، فعلى هذا لا يجوز فتح الهمزة لأنه لا نظير له ، وغالب الظن أنه ما قرأه إلا عن سماع وله وجهان أحدهما : أنه شاذ كما حكى بعضهم في البرطيل وثانيهما : أنه ظن الإنجيل أعجمياً فحرف مثاله تنبيهاً على كونه أعجمياً . قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ٱبتَدَعُوهَا } وفيه مسائل : المسألة الأولى : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن فعل العبد خلق لله تعالى وكسب للعبد ، قالوا : لأنه تعالى حكم بأن هذه الأشياء مجعولة لله تعالى ، وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية ، قال القاضي : المراد بذلك أنه تعالى لطف بهم حتى قويت دواعيهم إلى الرهبانية ، التي هي تحمل الكلفة الزائدة على ما يجب من الخلوة واللباس الخشن والجواب : أن هذا ترك للظاهر من غير دليل ، على أنا وإن سلمنا ذلك فهو يحصل مقصودنا أيضاً ، وذلك لأن حال الاستواء يمتنع حصول الرجحان وإلا فقد حصل الرجحان عند الاستواء والجمع بينهما متناقض ، وإذا كان الحصول عند الاستواء ممتنعاً ، كان عند المرجوحية أولى أن يصير ممتنعاً ، وإذا امتنع المرجوح وجب الراجح ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض . المسألة الثانية : قال مقاتل : المراد من الرأفة والرحمة هو أنهم كانوا متوادين بعضهم مع بعض ، كما وصف الله أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام بذلك في قوله : { رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] . المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف : قرىء رآفة على فعالة . المسألة الرابعة : الرهبانية معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف فعلان من رهب ، كخشيان من خشي ، وقرىء : ورهبانية بالضم كأنها نسبة إلى الرهبان ، وهو جمع راهب كراكب وركبان ، والمراد من الرهبانية ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين ، مخلصين أنفسهم للعبادة ومتحملين كلفاً زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلوة واللباس الخشن ، والاعتزال عن النساء والتعبد في الغيران والكهوف ، عن ابن عباس أن في أيام الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام غير الملوك التوراة والإنجيل ، فساح قوم في الأرض ولبسوا الصوف ، وروى ابن مسعود أنه عليه السلام ، قال : " " يا ابن مسعود : أما علمت أن بني إسرائيل تفرقوا سبعين فرقة ، كلها في النار إلا ثلاث فرق ، فرقة آمنت بعيسى عليه السلام ، وقاتلوا أعداء الله في نصرته حتى قتلوا ، وفرقة لم يكن لها طاقة بالقتال ، فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وفرقة لم يكن لها طاقة بالأمرين ، فلبس العباء ، وخرجوا إلى القفار والفيافي وهو قوله : { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً } إلى آخر الآية " " المسألة الخامسة : لم يعن الله تعالى بابتدعوها طريقة الذم ، بل المراد أنهم أحدثوها من عند أنفسهم ونذروها ، ولذلك قال تعالى بعده : { مَا كَتَبْنَـٰهَا عَلَيْهِمْ } . المسألة السادسة : { رهبانية } منصوبة بفعل مضمر ، يفسره الظاهر ، تقديره : ابتدعوا رهبانية ابتدعوها ، وقال أبو علي الفارسي : الرهبانية لا يستقيم حملها على { جَعَلْنَا } ، لأن ما يبتدعونه هم لا يجوز أن يكون مجعولاً لله تعالى ، وأقول : هذا الكلام إنما يتم لو ثبت امتناع مقدور بين قادرين ، ومن أين يليق بأبي على أن يخوض في أمثال هذه الأشياء . ثم قال تعالى : { مَا كَتَبْنَـٰهَا عَلَيْهِمْ } أي لم نفرضها نحن عليهم . أما قوله : { إِلاَّ ٱبْتِغَاء رِضْوٰنِ ٱللَّهِ } ففيه قولان : أحدهما : أنه استثناء منقطع . أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله الثاني : أنه استثناء متصل ، والمعنى أنا ما تعبدناهم بها إلا على وجه ابتغاء مرضاة الله تعالى ، والمراد أنها ليست واجبة ، فإن المقصود من فعل الواجب ، دفع العقاب وتحصيل رضا الله ، أما المندوب فليس المقصود من فعله دفع العقاب ، بل المقصود منه ليس إلا تحصيل مرضاة الله تعالى . أما قوله تعالى : { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَـئَاتَيْنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ } ففيه أقوال : أحدها : أن هؤلاء الذين ابتدعوا هذه الرهبانية ما رعوها حق رعايتها ، بل ضموا إليها التثليث والاتحاد ، وأقام أناس منهم على دين عيسى حتى أدركوا محمداً عليه الصلاة والسلام فآمنوا به فهو قوله : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون } ، وثانيها : أنا ما كتبنا عليهم تلك الرهبانية إلا ليتوسلوا بها إلى مرضاة الله تعالى ، ثم إنهم أتوا بتلك الأفعال ، لكن لا لهذا الوجه ، بل لوجه آخر ، وهو طلب الدنيا والرياء والسمعة وثالثها : أنا لما كتبناها عليهم تركوها ، فيكون ذلك ذماً لهم من حيث إنهم تركوا الواجب ورابعها : أن الذين لم يرعوها حق رعايتها هم الذين أدركوا محمداً عليه الصلاة والسلام ، ولم يؤمنوا به ، وقوله : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } أي الذين آمنوا بمحمد وكثير منهم فاسقون يعني الذين لم يؤمنوا به ، ويدل على هذا ما روي أنه عليه السلام قال : " " من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها ، ومن لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون " " وخامسها : أن الصالحين من قوم عيسى عليه السلام ابتدعوا الرهبانية وانقرضوا عليها ، ثم جاء بعدهم قوم اقتدوا بهم في اللسان ، وما كانوا مقتدين بهم في العمل ، فهم الذين ما رعوها حق رعايتها ، قال عطاء : لم يرعوها كما رعاها الحواريون ، ثم قال : { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـٰسِقُونَ } والمعنى أن بعضهم قام برعايتها وكثير منهم أظهر الفسق وترك تلك الطريقة ظاهراً وباطناً .