Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 59, Ayat: 1-2)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ * هو ٱلَّذِي أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مِن دِيَـٰرِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ } صالح بنو النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي المنعوت في التوراة بالنصر ، فلما هزم المسلمون يوم أحد تابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكباً إلى مكة وحالفوا أبا سفيان عند الكعبة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة الأنصاري ، فقتل كعباً غيلة ، وكان أخاه من الرضاعة ، ثم صحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب وهو على حمار مخطوم بليف ، فقال لهم : أخرجوا من المدينة ، فقالوا : الموت أحب إلينا من ذلك فتنادوا بالحرب ، وقيل : استمهلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ، فبعث إليهم عبد الله بن أبي وقال : لا تخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ، ولئن خرجتم لنخرجن معكم ، فحصنوا الأزقة فحاصرهم إحدى وعشرون ليلة ، فلما قذف الله في قلوبهم الرعب ، وآيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح ، فأبى إلا الجلاء ، على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من متاعهم ، فجلوا إلى الشأم إلى أريحاء وأزرعات إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق ، وآل حيي بن أخطب ، فإنهم لحقوا بخيبر ، ولحقت طائفة بالحيرة . وههنا سؤالات . السؤال الأول : ما معنى هذه اللام في قوله : { لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ } الجواب : إنها هي اللام في قولك : جئت لوقت كذا ، والمعنى : أخرج الذين كفروا عند أول الحشر . السؤال الثاني : ما معنى أول الحشر ؟ الجواب : أن الحشر هو إخراج الجمع من مكان إلى مكان ، وإما أنه لم سمي هذا الحشر بأول الحشر فبيانه من وجوه : أحدها : وهو قول ابن عباس والأكثرين إن هذا أول حشر أهل الكتاب ، أي أول مرة حشروا وأخرجوا من جزيرة العرب لم يصبهم هذا الذل قبل ذلك ، لأنهم كانوا أهل منعة وعز وثانيها : أنه تعالى جعل إخراجهم من المدينة حشراً ، وجعله أول الحشر من حيث يحشر الناس للساعة إلى ناحية الشام ، ثم تدركهم الساعة هناك وثالثها : أن هذا أول حشرهم ، وأما آخر حشرهم فهو إجلاء عمر إياهم من خيبر إلى الشام ورابعها : معناه أخرجهم من ديارهم لأول ما يحشرهم لقتالهم ، لأنه أول قتال قاتلهم رسول الله وخامسها : قال قتادة هذا أول الحشر ، والحشر الثاني نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا ، وذكروا أن تلك النار ترى بالليل ولا ترى بالنهار . قوله تعالى : { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } . قال ابن عباس : إن المسلمين ظنوا أنهم لعزتهم وقوتهم لا يحتاجون إلى أن يخرجوا من ديارهم ، وإنما ذكر الله تعالى ذلك تعظيماً لهذه النعمة ، فإن النعمة إذا وردت على المرء والظن بخلافه تكون أعظم ، فالمسلمون ما ظنوا أنهم يصلون إلى مرادهم في خروج هؤلاء اليهود ، فيتخلصون من ضرر مكايدهم ، فلما تيسر لهم ذلك كان توقع هذه النعمة أعظم . قوله تعالى : { وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مّنَ ٱللَّهِ } . قالوا كانت حصونهم منيعة فظنوا أنها تمنعهم من رسول الله ، وفي الآية تشريف عظيم لرسول الله ، فإنها تدل على أن معاملتهم مع رسول الله هي بعينها نفس المعاملة مع الله ، فإن قيل : ما الفرق بين قولك : ظنوا أن حصونهم تمنعهم أو مانعتهم وبين النظم الذي جاء عليه ، قلنا : في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها ومنعها إياهم ، وفي تصيير ضميرهم إسماً ، وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالون بأحد يطمع في منازعتهم ، وهذه المعاني لا تحصل في قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم . قوله تعالى : { فَأَتَـٰهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } في الآية مسائل : المسألة الأولى : في الآية وجهان الأول : أن يكون الضمير في قوله : { فَأَتَـٰهُمُ } عائد إلى اليهود ، أي فأتاهم عذاب الله وأخذهم من حيث لم يحتسبوا والثاني : أن يكون عائداً إلى المؤمنين أي فأتاهم نصر الله وتقويته من حيث لم يحتسبوا ، ومعنى : لم يحتسبوا ، أي لم يظنوا ولم يخطر ببالهم ، وذلك بسبب أمرين أحدهما : قتل رئيسهم كعب بن الأشرف على يد أخيه غيلة ، وذلك مما أضعف قوتهم ، وفتت عضدهم ، وقل من شوكتهم والثاني : بما قذف في قلوبهم من الرعب . المسألة الثانية : قوله : { فَـأَتَـٰهُمُ ٱللَّهُ } لا يمكن إجراؤه على ظاهره باتفاق جمهور العقلاء ، فدل على أن باب التأويل مفتوح ، وأن صرف الآيات عن ظواهرها بمقتضى الدلائل العقلية جائز . المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف : قرىء { فَـأَتَـٰهُمُ ٱللَّهُ } أي فآتاهم الهلاك ، واعلم أن هذه القراءة لا تدفع ما بيناه من وجوه التأويل ، لأن هذه القراءة لا تدفع القراءة الأولى ، فإنها ثابتة بالتواتر ، ومتى كانت ثابتة بالتواتر لا يمكن دفعها ، بل لا بد فيها من التأويل . قوله تعالى : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ } قال أهل اللغة : الرعب ، الخوف الذي يستوعب الصدر ، أي يملؤه ، وقذفه إثباته فيه ، وفيه قالوا في صفة الأسد : مقذف ، كأنما قذف باللحم قذفاً لاكتنازه وتداخل أجزائه ، واعلم أن هذه الآية تدل على قولنا من أن الأمور كلها لله ، وذلك لأن الآية دلت على أن وقوع ذلك الرعب في قلوبهم كان من الله ودلت على أن ذلك الرعب صار سبباً في إقدامهم على بعض الأفعال ، وبالجملة فالفعل لا يحصل إلا عند حصول داعية متأكدة في القلب ، وحصول تلك الداعية لا يكون إلا من الله ، فكانت الأفعال بأسرها مسندة إلى الله بهذا الطريق . قوله تعالى : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ } فيه مسائل : المسألة الأولى : قال أبو علي : قرأ أبو عمرو وحده : { يُخْرِبُونَ } مشددة ، وقرأ الباقون : { يُخْرِبُونَ } خفيفة ، وكان أبو عمرو يقول : الإخراب أن يترك الشيء خراباً والتخريب الهدم ، وبنو النضير خربوا وما أخربوا قال المبرد : ولا أعلم لهذا وجهاً ، ويخربون هو الأصل خرب المنزل ، فإنما هو تكثير ، لأنه ذكر بيوتاً تصلح للقليل والكثير ، وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في الكلام ، فيجري كل واحد مجرى الآخر ، نحو فرحته وأفرحته ، وحسنه الله وأحسنه ، وقال الأعمش : @ وأخربت من أرض قوم دياراً @@ وقال الفراء : { يُخْرِبُونَ } بالتشديد يهدمون ، وبالتخفيف يخربون منها ويتركونها . المسألة الثانية : ذكر المفسرون في بيان أنهم كيف كانوا يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين وجوهاً أحدها : أنهم لما أيقنوا بالجلاء ، حسدوا المسلمين أن يسكنوا مساكنهم ومنازلهم ، فجعلوا يخربونها من داخل ، والمسلمون من خارج وثانيها : قال مقاتل : إن المنافقين دسوا إليهم أن لا يخرجوا ، ودربوا على الأزقة وحصنوها ، فنقضوا بيوتهم وجعلوها كالحصون على أبواب الأزقة ، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب وثالثها : أن المسلمين إذا ظهروا على درب من دروبهم خربوه ، وكان اليهود يتأخرون إلى ما وراء بيوتهم ، وينقبونها من أدبارها ورابعها : أن المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد ، واليهود لما أيقنوا بالجلاء ، وكانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه أو الباب فيهدمون بيوتهم ، وينزعونها ويحملونها على الإبل ، فإن قيل : ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين ؟ قلنا قال الزجاج : لما عرضوهم لذلك وكانوا السبب فيه فكأنهم أمروهم به وكلفوه إياهم . قوله تعالى : { فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَـٰرِ } . اعلم أنا قد تمسكنا بهذه الآية في كتاب « المحصول من أصول الفقه » على أن القياس حجة فلا نذكره ههنا ، إلا أنه لا بد ههنا من بيان الوجه الذي أمر الله فيه بالاعتبار ، وفيه احتمالات أحدها : أنهم اعتمدوا على حصونهم ، وعلى قوتهم وشوكتهم ، فأباد الله شوكتهم وأزال قوتهم ، ثم قال : { فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَـٰرِ } ولا تعتمدوا على شيء غير الله ، فليس للزاهد أن يتعمد على زهده ، فإن زهده لا يكون أكثر من زهد بلعام ، وليس للعالم أن يعتمد على علمه ، أنظر إلى ابن الراوندي مع كثرة ممارسته كيف صار ، بل لا اعتماد لأحد في شيء إلا على فضل الله ورحمته وثانيها : قال القاضي : المراد أن يعرف الإنسان عاقبة الغدر والكفر والطعن في النبوة ، فإن أولئك اليهود وقعوا بشؤم الغدر ، والكفر في البلاء والجلاء ، والمؤمنين أيضاً يعتبرون به فيعدلون عن المعاصي . فإن قيل : هذا الاعتبار إنما يصح لو قلنا : إنهم غدروا وكفروا فعذبوا ، وكان السبب في ذلك العذاب هو الكفر والغدر ، إلا أن هذا القول فاسد طرداً وعكساً أما الطرد فلأنه رب شخص غدر وكفر ، وما عذب في الدنيا وأما العكس فلأن أمثال هذه المحن ، بل أشد منها وقعت للرسول عليه السلام ولأصحابه ، ولم يدل ذلك على سوء أديانهم وأفعالهم ، وإذا فسدت هذه العلة فقد بطل هذا الاعتبار ، وأيضاً فالحكم الثالث في الأصل هو أنهم : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِى ٱلْمُؤْمِنِينَ } وإذا عللنا ذلك بالكفر والغدر يلزم في كل من غدر وكفر أن يخرب بيته بيده وبأيدي المسلمين ، ومعلوم أن هذا لا يصلح ، فعلمنا أن هذا الاعتبار غير صحيح والجواب : أن الحكم الثابت في الأصل له ثلاث مراتب أولها : كونه تخريباً للبيت بأيديهم وأيدي المؤمنين وثانيها : وهو أعم من الأول ، كونه عذاباً في الدنيا وثالثها : وهو أعم من الثاني ، كونه مطلق العذاب ، والغدر والكفر إنما يناسبان العذاب من حيث هو عذاب ، فأما خصوص كونه تخريباً أو قتلاً في الدنيا أو في الآخرة فذاك عديم الأثر ، فيرجع حاصل القياس إلى أن الذين غدروا وكفروا وكذبوا عذبوا من غير اعتبار أن ذلك العذاب كان في الدنيا أو في الآخرة ، والغدر والكفر يناسبان العذاب ، فعلمنا أن الكفر والغدر هما السببان في العذاب ، فأينما حصلا حصل العذاب من غير بيان أن ذلك العذاب في الدنيا أو في الآخرة ، ومتى قررنا القياس والاعتبار على هذا الوجه زالت المطاعن والنقوض وتم القياس على الوجه الصحيح . المسألة الثانية : الاعتبار مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ، ولهذا سميت العبرة عبرة لأنها تنتقل من العين إلى الخد ، وسمي المعبر معبراً لأن به تحصل المجاوزة ، وسمي العلم المخصوص بالتعبير ، لأن صاحبه ينتقل من المتخيل إلى المعقول ، وسميت الألفاظ عبارات ، لأنها تنقل المعاني من لسان القائل إلى عقل المستمع ، ويقال : السعيد من اعتبر بغيره ، لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه ، ولهذا قال المفسرون : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها ، وفي قوله : { يا أولي الأبصار } وجهان الأول : قال ابن عباس : يريد يا أهل اللب والعقل والبصائر والثاني : قال الفراء : { يا أولي الأبصار } يا من عاين تلك الواقعة المذكورة .