Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 112-112)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في الآية مسائل : المسألة الأولى : قوله : { وَكَذٰلِكَ } منسوق على شيء وفي تعيين ذلك الشيء قولان : الأول : أنه منسوق على قوله : { كَذٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } [ الأنعام : 108 ] أي كما فعلنا ذلك { كَذٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً } الثاني : معناه : جعلنا لك عدواً كما جعلنا لمن قبلك من الأنبياء فيكون قوله : { كَذٰلِكَ } عطفاً على معنى ما تقدم من الكلام ، لأن ما تقدم يدل على أنه تعالى جعل له أعداء . المسألة الثانية : ظاهر قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً } أنه تعالى هو الذي جعل أولئك الأعداء أعداء للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولا شك أن تلك العداوة معصية وكفر فهذا يقتضي أن خالق الخير والشر والطاعة والمعصية والإيمان والكفر هو الله تعالى ، أجاب الجبائي عنه : بأن المراد بهذا الجعل الحكم والبيان ، فإن الرجل إذا حكم بكفر إنسان قيل : إنه كفره ، وإذا أخبر عن عدالته قيل : إنه عدله ، فكذا ههنا أنه تعالى لما بين للرسول عليه الصلاة والسلام كونهم أعداء له لا جرم قال إنه جعلهم أعداء له ، وأجاب أبو بكر الأصم عنه : بأنه تعالى لما أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى العالمين وخصه بتلك المعجزة حسدوه ، وصار ذلك الحسد سبباً للعداوة القوية ، فلهذا التأويل قال إنه تعالى جعلهم أعداء له ونظيره قول المتنبي : @ فأنت الذي صيرتهم لي حسداً @@ وأجاب الكعبي عنه : بأنه تعالى أمر الأنبياء بعدواتهم وأعلمهم كونهم أعداء لهم ، وذلك يقتضي صيرورتهم أعداء للأنبياء . لأن العداوة لا تحصل إلا من الجانبين ، فلهذا الوجه جاز أن يقال إنه تعالى جعلهم أعداء للأنبياء عليهم السلام . واعلم أن هذه الأجوبة ضعيفة جداً لما بينا أن الأفعال مستندة إلى الدواعي ، وهي حادثة من قبل الله تعالى ، ومتى كان الأمر كذلك . فقد صح مذهبنا . ثم ههنا بحث آخر : وهو أن العداوة والصداقة يمتنع أن تحصل باختيار الإنسان ، فإن الرجل قد يبلغ في عداوة غيره إلى حيث لا يقدر البتة على إزالة تلك الحالة عن قلبه ، بل قد لا يقدر على إخفاء آثار تلك العداوة ، ولو أتى بكل تكلف وحيلة لعجز عنه ، ولو كان حصول العداوة والصداقة في القلب باختيار الإنسان لوجب أن يكون الإنسان متمكناً من قلب العداوة بالصداقة وبالضد وكيف لا نقول ذلك والشعراء عرفوا أن ذلك خارج عن الوسع ؟ قال المتنبي : @ يراد من القلب نسيانكم وتأبى الطباع على الناقل @@ والعاشق الذي يشتد عشقه قد يحتال بجميع الحيل في إزالة عشقه ولا يقدر عليه ، ولو كان حصول ذلك الحب والبغض باختياره لما عجز عن إزالته . المسألة الثالثة : النصب في قوله : { شَيَـٰطِينَ } فيه وجهان : الأول : أنه منصوب على البدل من قوله : { عَدُوّا } والثاني : أن يكون قوله { عَدُوّا } منصوباً على أنه مفعول ثان ، والتقدير : وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداء الأنبياء . المسألة الرابعة : اختلفوا في معنى شياطين الإنس والجن على قولين : الأول : أن المعنى مردة الإنس والجن ، والشيطان كل عات متمرد من الإنس والجن ، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء ومجاهد والحسن وقتادة وهؤلاء قالوا : إن من الجن شياطين ، ومن الإنس شياطين ، وإن الشيطان من الجن إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرد من الإنس ، وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليفتنه ، والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي ذر : " " هل تعوذت بالله من شر شياطين الجن والإنس ؟ " " قال قلت : وهل للإنس من شياطين ؟ قال : " " نعم هم شر من شياطين الجن " " والقول الثاني : أن الجميع من ولد إبليس إلا أنه جعل ولده قسمين ، فأرسل أحد القسمين إلى وسوسة الإنس . والقسم الثاني إلى وسوسة الجن ، فالفريقان شياطين الإنس والجن ، ومن الناس من قال : القول الأول أولى لأن المقصود من الآية الشكاية من سفاهة الكفار الذين هم الأعداء وهم الشياطين ، ومنهم من يقول : القول الثاني أولى ، لأن لفظ الآية يقتضي إضافة الشياطين إلى الإنس والجن . والإضافة تقتضي المغايرة ، وعلى هذا التقدير : فالشياطين نوع مغاير للجن وهم أولاد إبليس . المسألة الخامسة : قال الزجاج وابن الأنباري : قوله : { عَدُوّاً } بمعنى أعداء وأنشد ابن الأنباري : @ إذا أنا لم أنفع صديقي بوده فإن عدوي لن يضرهمو بغضي @@ أراد أعدائي ، فأدى الواحد عن الجمع ، وله نظائر في القرآن . ومنها قوله : { ضَيْفِ إِبْرٰهِيمَ ٱلْمُكْرَمِينَ } [ الذاريات : 24 ] جعل المكرمين وهو جمع نعتاً للضيف وهو واحد ، وثانيها : قوله : { وَٱلنَّخْلَ بَـاسِقَـٰتٍ لَّهَا طَلْعٌ } [ قۤ : 10 ] وثالثها : قوله : { أَوِ ٱلطّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرٰتِ ٱلنّسَاء } [ النور : 31 ] ورابعها : قوله : { إِنَّ ٱلإنسَـٰنَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } [ العصر : 2 ] وخامسها : قوله : { كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لّبَنِى إِسْرٰءيلَ } [ آل عمران : 93 ] أكد المفرد بما يؤكد الجمع به ، ولقائل أن يقول لا حاجة إلى هذا التكلف ، فإن التقدير : وكذلك جعلنا لكل واحد من الأنبياء عدواً واحداً ، إذ لا يجب لكل واحد من الأنبياء أكثر من عدو واحد . أما قوله تعالى : { يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } فالمراد أن أولئك الشياطين يوسوس بعضهم بعضاً . واعلم أنه لا يجب أن تكون كل معصية تصدر عن إنسان فإنها تكون بسبب وسوسة شيطان ، وإلا لزم دخول التسلسل أو الدور في هؤلاء الشياطين ، فوجب الاعتراف بانتهاء هذه القبائح والمعاصي إلى قبيح أول ، ومعصية سابقة حصلت لا بوسوسة شيطان آخر . إذا ثبت هذا الأصل فنقول : إن أولئك الشياطين كما أنهم يلقون الوساوس إلى الإنس والجن فقد يوسوس بعضهم بعضاً . وللناس فيه مذاهب . منهم من قال الأرواح إما فلكية وإما أرضية ، والأرواح الأرضية منها طيبة طاهرة خيرة آمرة بالطاعة والأفعال الحسنة ، وهم الملائكة الأرضية . ومنها خبيثة قذرة شريرة ، آمرة بالقبائح والمعاصي ، وهم الشياطين . ثم إن تلك الأرواح الطيبة كما أنها تأمر الناس بالطاعات والخيرات ، فكذلك قد يأمر بعضهم بعضاً بالطاعات . والأرواح الخبيثة كما أنها تأمر الناس بالقبائح والمنكرات ، فكذلك قد يأمر بعضهم بعضاً بتلك القبائح والزيادة فيها . وما لم يحصل نوع من أنواع المناسبة بين النفوس البشرية ، وبين تلك الأرواح لم يحصل ذلك الانضمام ، فالنفوس البشرية ، إذا كانت طاهرة نقية عن الصفات الذميمة كانت من جنس الأرواح الطاهرة فتنضم إليها ، وإذا كانت خبيثة موصوفة بالصفات الذميمة كانت من جنس الأرواح الخبيثة فتنضم إليها . ثم إن صفات الطهارة كثيرة . وصفات الخبث والنقصان كثيرة ، وبحسب كل نوع منها طوائف من البشر وطوائف من الأرواح الأرضية بحسب تلك المجانسة والمشابهة والمشاكلة ينضم الجنس إلى جنسه ، فإن كان ذلك في أفعال الخير كان الحامل عليها ملكاً وكان تقوية ذلك الخاطر إلهاماً ، وإن كان في باب الشر كان الحامل عليها شيطاناً ، وكان تقوية ذلك الخاطر وسوسة . إذا عرفت هذا الأصل فنقول : إنه تعالى عبر عن هذه الحالة المذكورة بقوله : { يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } فيجب علينا تفسير ألفاظ ثلاثة : الأول : الوحي وهو عبارة عن الإيماء والقول السريع . والثاني : الزخرف وهو الذي يكون باطنه باطلاً ، وظاهره مزيناً ظاهراً ، يقال : فلان يزخرف كلامه إذا زينه بالباطل والكذب ، وكل شيء حسن مموه فهو مزخرف . واعلم أن تحقيق الكلام فيه أن الإنسان ما لم يعتقد في أمر من الأمور كونه مشتملاً على خير راجح ونفع زائد ، فإنه لا يرغب فيه ، ولذلك سمي الفاعل المختار مختاراً لكونه طالباً للخير والنفع ، ثم إن كان هذا الاعتقاد مطابقاً للمعتقد ، فهو الحق والصدق والإلهام وإن كان صادراً من الملك ، وإن لم يكن معتقداً مطابقاً للمعتقد ، فحينئذ يكون ظاهره مزيناً ، لأنه في اعتقاده سبب للنفع الزائد والصلاح الراجح ، ويكون باطنه فاسداً باطلاً . لأن هذا الاعتقاد غير مطابق للمعتقد فكان مزخرفاً . فهذا تحقيق هذا الكلام . والثالث : قوله { غُرُوراً } قال الواحدي : { غُرُوراً } منصوب على المصدر ، وهذا المصدر محمول على المعنى . لأن معنى إيحاء الزخرف من القول معنى الغرور ، فكأنه قال يغرون غروراً ، وتحقيق القول فيه أن المغرور هو الذي يعتقد في الشيء كونه مطابقاً للمنفعة والمصلحة مع أنه في نفسه ليس كذلك ، فالغرور إما أن يكون عبارة عن عين هذا الجهل أو عن حالة متولدة عن هذا الجهل . فظهر بما ذكرنا أن تأثير هذه الأرواح الخبيثة بعضها في بعض لا يمكن أن يعبر عنه بعبارة أكمل ولا أقوى دلالة على تمام المقصود من قوله : { يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } . ثم قال تعالى : { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } وأصحابنا يحتجون به على أن الكفر والإيمان بإرادة الله تعالى . والمعتزلة يحملونه على مشيئة الإلجاء ، وقد سبق تقرير هذه المسألة على الاستقصاء ، فلا فائدة في الإعادة . ثم قال تعالى : { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } قال ابن عباس : معناه يريد ما زين لهم إبليس وغرهم به قال القاضي : هذا القول يتضمن التحذير الشديد من الكفر والترغيب الكامل في الإيمان ، ويقتضي زوال الغم عن قلب الرسول من حيث يتصور ما أعد الله للقوم على كفرهم من أنواع العذاب وما أعد له من منازل الثواب بسبب صبره على سفاهتهم ولطفه بهم .