Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 122-122)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في الآية مسائل : المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر في الآية الأولى أن المشركين يجادلون المؤمنين في دين الله ذكر مثلاً يدل على حال المؤمن المهتدي ، وعلى حال الكافر الضال ، فبين أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتاً ، فجعل حياً بعد ذلك وأعطى نوراً يهتدى به في مصالحه ، وأن الكافر بمنزلة من هو في ظلمات منغمس فيها لا خلاص له منها ، فيكون متحيراً على الدوام . ثم قال تعالى : { كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَـٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وعند هذا عادت مسألة الجبر والقدر فقال أصحابنا : ذلك المزين هو الله تعالى ، ودليله ما سبق ذكره من أن الفعل يتوقف على حصول الداعي وحصوله لا بد وأن يكون بخلق الله تعالى ، والداعي عبارة عن علم أو اعتقاد أو ظن باشتمال ذلك الفعل على نفع زائد وصلاح راجح ، فهذا الداعي لا معنى له إلا هذا التزيين ، فإذا كان موجد هذا الداعي هو الله تعالى كان المزين لا محالة هو الله تعالى ، وقالت المعتزلة : ذلك المزين هو الشيطان ، وحكوا عن الحسن أنه قال : زينه لهم والله الشيطان . واعلم أن هذا في غاية الضعف لوجوه : الأول : الدليل القاطع الذي ذكرناه . والثاني : أن هذا المثل مذكور ليميز الله حال المسلم من الكافر فيدخل فيه الشيطان فإن كان إقدام ذلك الشيطان على ذلك الكفر لشيطان آخر ، لزم الذهاب إلى مزين آخر غير النهاية وإلا فلا بد من مزين آخر سوى الشيطان . الثالث : أنه تعالى صرح بأن ذلك المزين ليس إلا هو فيما قبل هذه الآية وما بعدها ، أما قبلها فقوله : { وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } [ الأنعام : 108 ] وأما بعد هذه الآية فقوله : { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَـٰبِرَ مُجْرِمِيهَا } [ الأنعام : 123 ] . المسألة الثانية : قوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ } قرأ نافع { مَيْتًا } مشدداً ، والباقون مخففاً قال أهل اللغة : الميت مخففاً تخفيف ميت ، ومعناهما واحد ثقل أو خفف . المسألة الثالثة : قال أهل المعاني : قد وصف الكفار بأنهم أموات في قوله : { أَمْوٰتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [ النحل : 21 ] وأيضاً في قوله : { لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } [ يۤس : 70 ] وفي قوله : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ ٱلْمَوْتَىٰ } [ النمل : 80 ] وفي قوله : { وَمَا يَسْتَوِى ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ … وَمَا يَسْتَوِى ٱلأَحْيَاءُ وَلاَ ٱلأَمْوَاتُ } [ فاطر : 19 و22 ] فلما جعل الكفر موتاً والكافر ميتاً ، جعل الهدى حياة والمهتدي حياً ، وإنما جعل الكفر موتاً لأنه جهل ، والجهل يوجب الحيرة والوقفة ، فهو كالموت الذي يوجب السكون ، وأيضاً الميت لا يهتدي إلى شيء ، والجاهل كذلك ، والهدى علم وبصر ، والعلم والبصر سبب لحصول الرشد والفوز بالنجاة ، وقوله : { وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ٱلنَّاسِ } عطف على قوله { فَأَحْيَيْنَـٰهُ } فوجب أن يكون هذا النور مغايراً لتلك الحياة والذي يخطر بالبال والعلم عند الله تعالى أن الأرواح البشرية لها أربع مراتب في المعرفة . فأولها : كونها مستعدة لقبول هذه المعارف وذلك الاستعداد الأصلي يختلف في الأرواح ، فربما كانت الروح موصوفة باستعداد كامل قوي شريف ، وربما كان ذلك الاستعداد قليلاً ضعيفاً ، ويكون صاحبه بليداً ناقصاً . والمرتبة الثانية : أن يحصل لها العلوم الكلية الأولية ، وهي المسماة بالعقل . والمرتبة الثالثة : أن يحاول ذلك الإنسان تركيب تلك البديهيات : ويتوصل بتركيبها إلى تعرف المجهولات الكسبية ، إلا أن تلك المعارف ربما لا تكون حاضرة بالفعل ، ولكنها تكون بحيث متى شاء صاحبها استرجاعها واستحضارها ، يقدر عليه . والمرتبة الرابعة : أن تكون تلك المعارف القدسية والجلايا الروحانية حاضرة بالفعل ، ويكون جوهر ذلك الروح مشرقاً بتلك المعارف مستضيئاً بها مستكملاً بظهورها فيه . إذا عرفت هذا فنقول : المرتبة الأولى : وهي حصول الاستعداد فقط ، هي المسماة بالموت . والمرتبة الثانية : وهي أن تحصل العلوم البديهية الكلية فيه فهي المشار إليها بقوله : { فَأَحْيَيْنَـٰهُ } . والمرتبة الثالثة : وهي تركيب البديهيات حتى يتوصل بتركيباتها إلى تعرف المجهولات النظرية ، فهي المراد من قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا } . والمرتبة الرابعة : وهي قوله : { يَمْشِي بِهِ فِى ٱلنَّاسِ } إشارة إلى كونه مستحضراً لتلك الجلايا القدسية ناظراً إليها ، وعند هذا تتم درجات سعادات النفس الإنسانية ، ويمكن أن يقال أيضاً الحياة عبارة عن الاستعداد القائم بجوهر الروح ، والنور عبارة عن إيصال نور الوحي والتنزيل به . فإنه لا بد في الإبصار من أمرين : من سلامة الحاسة ، ومن طلوع الشمس ، فكذلك البصيرة لا بد فيها من أمرين : من سلامة حاسة العقل ، ومن طلوع نور الوحي والتنزيل ، فلهذا السبب قال المفسرون : المراد بهذا النور ، القرآن . ومنهم من قال : هو نور الدين ، ومنهم من قال : هو نور الحكمة ، والأقوال بأسرها متقاربة ، والتحقيق ما ذكرناه . وأما مثل الكافر { فَهُوَ كَمَنْ فِي ٱلظُّلُمَـٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا } وفي قوله : { لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا } دقيقة عقلية ، وهي أن الشيء إذا دام حصوله مع الشيء صار كالأمر الذاتي والصفة اللازمة له . فإذا دام كون الكافر في ظلمات الجهل والأخلاق الذميمة صارت تلك الظلمات كالصفة الذاتية اللازمة له يعسر إزالتها عنه ، نعوذ بالله من هذه الحالة . وأيضاً الواقف في الظلمات يبقى متحيراً لا يهتدي إلى وجه صلاحه فيستولي عليه الخوف والفزع ، والعجز والوقوف . المسألة الرابعة : اختلفوا في أن هذين المثلين المذكورين هل هما مخصوصان بإنسانين معينين أو عامان في كل مؤمن وكافر . فيه قولان : الأول : أنه خاص بإنسانين على التعيين ، ثم فيه وجوه : الأول : قال ابن عباس : إن أبا جهل رمى النبي صلى الله عليه وسلم بفرث وحمزة يومئذ لم يؤمن ، فأخبر حمزة بذلك عند قدومه من صيد له والقوس بيده ، فعمد إلى أبي جهل وتوخاه بالقوس ، وجعل يضرب رأسه ، فقال له أبو جهل : أما ترى ما جاء به ؟ سفه عقولنا ، وسب آلهتنا ، فقال حمزة : أنتم أسفه الناس ، تعبدون الحجارة من دون الله ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، فنزلت هذه الآية . والرواية الثانية : قال مقاتل : نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل وذلك أنه قال : زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف ، حتى إذا صرنا كفرسى رهان ، قالوا منا نبي يوحى إليه . والله لا نؤمن به ، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت هذه الآية . والرواية الثالثة : قال عكرمة والكلبي : نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل . والرواية الرابعة : قال الضحاك : نزلت في عمر بن الخطاب وأبي جهل . والقول الثاني : إن هذه الآية عامة في حق جميع المؤمنين والكافرين ، وهذا هو الحق ، لأن المعنى إذا كان حاصلاً في الكل ، كان التخصيص محض التحكم ، وأيضاً قد ذكرنا أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة ، فالقول بأن سبب نزول هذه الآية المعينة ، كذا وكذا مشكل ، إلا إذا قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن مراد الله تعالى من هذه الآية العامة ، فلان بعينه . المسألة الخامسة : هذه الآية من أقوى الدلائل أيضاً على أن الكفر والإيمان من الله تعالى ، لأن قوله : { فَأَحْيَيْنَـٰهُ } وقوله : { وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ٱلنَّاسِ } قد بينا أنه كناية عن المعرفة والهدى ، وذلك يدل على أن كل هذه الأمور إنما تحصل من الله تعالى وبإذنه ، والدلائل العقلية ساعدت على صحته ، وهو دليل الداعي على ما لخصناه ، وأيضاً أن عاقلاً لا يختار الجهل والكفر لنفسه ، فمن المحال أن يختار الإنسان جعل نفسه جاهلاً كافراً ، فلما قصد تحصيل الإيمان والمعرفة ، ولم يحصل ذلك ، وإنما حصل ضده وهو الكفر والجهل ، علمنا أن ذلك حصل بإيجاد غيره . فإن قالوا إنما اختاره لاعتقاده في ذلك الجهل أنه علم . قلنا : فحاصل هذا الكلام أنه إنما اختار هذا الجهل لسابقة جهل آخر ، فإن كان الكلام في ذلك الجهل السابق كما في المسبوق لزم الذهاب إلى غير النهاية ، وإلا فوجب الانتهاء إلى جهل يحصل فيه لإيجاده وتكوينه ، وهو المطلوب .