Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 128-128)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى لما بين حال من يتمسك بالصراط المستقيم ، بين بعده حال من يكون بالضد من ذلك لتكون قصة أهل الجنة مردفة بقصة أهل النار ، وليكون الوعيد مذكوراً بعد الوعد ، وفيه مسائل : المسألة الأولى : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } منصوب بمحذوف ، أي واذكر يوم نحشرهم ، أو يوم نحشرهم قلنا يا معشر الجن ، أو يوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن ، كان ما لا يوصف لفظاعته . المسألة الثانية : الضمير في قوله : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } إلى ماذا يعود ؟ فيه قولان : الأول : يعودإلى المعلوم ، لا إلى المذكور ، وهو الثقلان ، وجميع المكلفين الذين علم أن الله يبعثهم . والثاني : أنه عائد إلى الشياطين الذين تقدم ذكرهم في قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شَيَـٰطِينَ ٱلإِنسِ وَٱلْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] . المسألة الثالثة : في الآية محذوف والتقدير : يوم نحشرهم جميعاً فنقول : يا معشر الجن ، فيكون هذا القائل هو الله تعالى ، كما أنه الحاشر لجميعهم ، وهذا القول منه تعالى بعد الحشر لا يكون إلا تبكيتاً وبياناً لجهة أنهم وإن تمردوا في الدنيا فينتهي حالهم في الآخرة إلى الاستسلام والانقياد والاعتراف بالجرم . وقال الزجاج : التقدير فيقال لهم يا معشر الجن ، لأنه يبعد أن يتكلم الله تعالى بنفسه مع الكفار ، بدليل قوله تعالى في صفة الكفار : { وَلاَ يُكَلّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ } [ البقرة : 174 ] . أما قوله تعالى : { قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُم مّنَ ٱلإنسِ } فنقول : هذا لا بد فيه من التأويل . لأن الجن لا يقدرون على الاستكثار من نفس الإنس ، لأن القادر على الجسم وعلى الأحياء والفعل ليس إلا الله تعالى ، فوجب أن يكون المراد قد استكثرتم من الدعاء إلى الضلال مع مصادفة القبول . أما قوله : { وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ ٱلإِنسِ } فالأقرب أن فيه حذفاً ، فكما قال للجن تبكيتاً ، فكذلك قال للإنس توبيخاً لأنه حصل من الجن الدعاء ، ومن الإنس القبول ، والمشاركة حاصلة بين الفريقين ، فلما بكت تعالى كلا الفريقين حكى ههنا جواب الإنس ، وهو قولهم : ربنا استمتع بعضنا ببعض فوصفوا أنفسهم بالتوفر على منافع الدنيا ، والاستمتاع بلذاتها إلى أن بلغوا هذا المبلغ الذي عنده أيقنوا بسوء عاقبتهم . ثم ههنا قولان : الأول : أن قولهم استمتع بعضنا ببعض ، المراد منه أنه استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن ، وعلى هذا القول ففي المراد بذلك الاستمتاع قولان : القول الأول : أن معنى هذا الاستمتاع هو أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض قفر وخاف على نفسه قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه ، فيبيت آمناً في نفسه ، فهذا استمتاع الإنس بالجن ، وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أن الإنسي إذا عاذ بالجني ، كان ذلك تعظيماً منهم للجن ، وذلك الجني يقول : قد سدت الجن والإنس ، لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه ، وهذا قول الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج واحتجوا على صحته بقوله تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ ٱلإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ ٱلْجِنّ } [ الجن : 6 ] . والوجه الثاني : في تفسير هذا الاستمتاع أن الإنس كانوا يطيعون الجن وينقادون لحكمهم فصار الجن كالرؤساء ، والإنس كالأتباع والخادمين المطيعين المنقادين الذين لا يخالفون رئيسهم ومخدومهم في قليل ولا كثير ، ولا شك أن هذا الرئيس قد انتفع بهذا الخادم ، فهذا استمتاع الجن بالإنس . وأما استمتاع الإنس بالجن ، فهو أن الجن كانوا يدلونهم على أنواع الشهوات واللذات والطيبات ويسهلون تلك الأمور عليهم ، وهذا القول اختيار الزجاج . قال : وهذا أولى من الوجه المتقدم ، والدليل عليه قوله تعالى : { قَدِ ٱسْتَكْثَرْتُم مّنَ ٱلإنسِ } ومن كان يقول من الإنس أعوذ بسيد هذا الوادي ، قليل . والقول الثاني : أن قوله تعالى : { رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } هو كلام الإنس خاصة ، لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر قليل نادر لا يكاد يظهر . أما استمتاع بعض الإنس ببعض ، فهو أمر ظاهر . فوجب حمل الكلام عليه ، وأيضاً قوله تعالى : { وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ ٱلإِنْسِ رَبَّنَا ٱسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } كلام الإنس الذين هم أولياء الجن ، فوجب أن يكون المراد من استمتاع بعضهم ببعض استمتاع بعض أولئك القوم ببعض . ثم قال تعالى حكاية عنهم : { وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا ٱلَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا } فالمعنى : أن ذلك الاستمتاع كان حاصلاً إلى أجل معين ووقت محدود ، ثم جاءت الخيبة والحسرة والندامة من حيث لا تنفع ، واختلفوا في أن ذلك الأجل أي الأوقات ؟ فقال بعضهم : هو وقت الموت . وقال آخرون : هو وقت التخلية والتمكين . وقال قوم : المراد وقت المحاسبة في القيامة ، والذين قالوا بالقول الأول قالوا إنه يدل على أن كل من مات من مقتول وغيره فإنه يموت بأجله ، لأنهم أقروا أنا بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ، وفيهم المقتول وغير المقتول . ثم قال تعالى : { قَالَ ٱلنَّارُ مَثْوَاكُمْ } المثوى : المقام والمقر والمصير ، ثم لا يبعد أن يكون للإنسان مقام ومقر ثم يموت ويتخلص بالموت عن ذلك المثوى ، فبين تعالى أن ذلك المقام والمثوى مخلد مؤبد وهو قوله : { خَـٰلِدِينَ فِيهَا } . ثم قال تعالى : { إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ } وفيه وجوه : الأول : أن المراد منه استثناء أوقات المحاسبة ، لأن في تلك الأحوال ليسوا بخالدين في النار : الثاني : المراد ، الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير . وروي أنهم يدخلون وادياً فيه برد شديد فهم يطلبون الرد من ذلك البرد إلى حر الجحيم . الثالث : قال ابن عباس : استثنى الله تعالى قوماً سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وسلم . وعلى هذا القول يجب أن تكون « ما » بمعنى « من » قال الزجاج : والقول الأول أولى . لأن معنى الاستثناء إنما هو من يوم القيامة ، لأن قوله : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } هو يوم القيامة . ثم قال تعالى : { خَـٰلِدِينَ فِيهَا } منذ يبعثون { إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ } من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في محاسبتهم . الرابع : قال أبو مسلم : هذا الاستثناء غير راجع إلى الخلود ، وإنما هو راجع إلى الأجل المؤجل لهم ، فكأنهم قالوا : وبلغنا الأجل الذي أجلت لنا ، أي الذي سميته لنا إلا من أهلكته قبل الأجل المسمى كقوله تعالى : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ } [ الأنعام : 6 ] وكما فعل في قوم نوح وعاد وثمود ممن أهلكه الله تعالى قبل الأجل الذي لو آمنوا ، لبقوا إلى الوصول إليه فتلخيص الكلام أن يقولوا : استمتع بعضنا ببعض ، وبلغنا ما سميت لنا من الأجل إلا من شئت أن تخترمه فاخترمته قبل ذلك بكفره وضلاله . واعلم أن هذا الوجه وإن كان محتملاً إلا أنه ترك لظاهر ترتيب ألفاظ هذه الآية ولما أمكن إجراء الآية على ظاهرها فلا حاجة إلى هذا التكلف . ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } أي فيما يفعله من ثواب وعقاب وسائر وجوه المجازاة ، وكأنه تعالى يقول : إنما حكمت لهؤلاء الكفار بعذاب الأبد لعلمي أنهم يستحقون ذلك . والله أعلم . المسألة الرابعة : قال أبو علي الفارسي : قوله : { ٱلنَّارُ مَثْوَاكُمْ } المثوى اسم للمصدر دون المكان لأن قوله : { خَـٰلِدِينَ فِيهَا } حال واسم الموضع لا يعمل عمل الفعل فقوله : { ٱلنَّارُ مَثْوَاكُمْ } معناه : النار أهل أن تقيموا فيها خالدين .