Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 32-32)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
في الآية مسائل : المسألة الأولى : اعلم أن المنكرين للبعث والقيامة تعظم رغبتهم في الدنيا وتحصيل لذاتها ، فذكر الله تعالى هذه الآية تنبيهاً على خساستها وركاكتها . واعلم أن نفس هذه الحياة لا يمكن ذمها لأن هذه الحياة العاجلة لا يصح اكتساب السعادات الأخروية إلا فيها ، فلهذا السبب حصل في تفسير هذه الآية قولان : القول الأول : أن المراد منه حياة الكافر . قال ابن عباس : يريد حياة أهل الشرك والنفاق ، والسبب في وصف حياة هؤلاء بهذه الصفة أن حياة المؤمن يحصل فيها أعمال صالحة فلا تكون لعباً ولهواً . والقول الثاني : أَن هذا عام في حياة المؤمن والكافر ، والمراد منه اللذات الحاصلة في هذه الحياة والطيبات المطلوبة في هذه الحياة ، وإنما سماها باللعب واللهو ، لأن الإنسان حال اشتغاله باللعب واللهو يلتذ به ، ثم عند انقراضه وانقضائه لا يبقى منه إلا الندامة ، فكذلك هذه الحياة لا يبقى عند انقراضها إلا الحسرة والندامة . واعلم أن تسمية هذه الحياة باللعب واللهو فيه وجوه : الأول : أن مدة اللهو واللعب قليلة سريعة الإنقضاء والزوال ، ومدة هذه الحياة كذلك . الثاني : أن اللعب واللهو لا بدّ وأن ينساقا في أكثر الأمر إلى شيء من المكاره ولذات الدنيا كذلك . الثالث : أن اللعب واللهو ، إنما يحصل عند الاغترار بظواهر الأمور ، وأما عند التأمل التام والكشف عن حقائق الأمور ، لا يبقى اللعب واللهو أصلاً ، وكذلك اللهو واللعب ، فإنهما لا يصلحان إلا للصبيان والجهال المغفلين ، أما العقلاء والحصفاء ، فقلما يحصل لهم خوض في اللعب واللهو ، فكذلك الالتذاذ بطيبات الدنيا والانتفاع بخيراتها لا يحصل ، إلا للمغفلين الجاهلين بحقائق الأمور ، وأما الحكماء المحققون ، فإنهم يعلمون أن كل هذه الخيرات غرور ، وليس لها في نفس الأمر حقيقة معتبرة . الرابع : أن اللعب واللهو ليس لهما عاقبة محمودة ، فثبت بمجموع هذه الوجوه أن اللذات والأحوال الدنيوية لعب ولهو وليس لهما حقيقة معتبرة . ولما بين تعالى ذلك قال بعده { وَلَلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } وصف الآخرة بكونها خيراً ، ويدل على أن الأمر كذلك حصول التفات بين أحوال الدنيا وأحوال الآخرة في أمور أحدها : أن خيرات الدنيا خسيسة وخيرات الآخرة شريفة بيان أن الأمر كذلك وجوه : الأول : أن خيرات الدنيا ليست إلا قضاء الشهوتين ، وهو في نهاية الخساسة ، بدليل أن الحيوانات الخسيسة تشارك الإنسان فيه ، بل ربما كان أمر تلك الحيوانات فيها أكمل من أمر الإنسان ، فإن الجمل أكثر أكلاً ، والديك والعصفور أكثر وقاعاً ، والذئب أقوى على الفساد والتمزيق ، والعقرب أقوى على الايلام ، ومما يدل على خساستها أنها لو كانت شريفة لكان الإكثار منها يوجب زيادة الشرف ، فكان يجب أن يكون الإنسان الذي وقف كل عمره على الأكل والوقاع أشرف الناس ، وأعلاهم درجة ، ومعلوم بالبديهة أنه ليس الأمر كذلك بل مثل هذا الإنسان يكون ممقوتاً مستقذراً مستحقراً يوصف بأنه بهيمة أو كلب أو أخس ، ومما يدل على ذلك أن الناس لا يفتخرون بهذه الأحوال بل يخفونها ، ولذلك كان العقلاء عند الاشتغال بالوقاع يختفون ولا يقدمون على هذه الأفعال بمحضر من الناس وذلك يدل على أن هذه الأفعال لا توجب الشرف بل النقص ، ومما يدل على ذلك أيضاً أن الناس إذا شتم بعضهم بعضاً لا يذكرون فيه إلا الألفاظ الدالة على الوقاع ، ولولا أن تلك اللذة من جنس النقصانات ، وإلا لما كان الأمر كذلك ، ومما يدل عليه أن هذه اللذات ترجع حقيقتها إلى دفع الآلام ، ولذلك فإن كل من كان أشد جوعاً وأقوى حاجة كان التذاذه بهذه الأشياء أكمل له وأقوى ، وإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه لا حقيقة لهذه اللذات في نفس الأمر . ومما يدل عليه أيضاً أن هذه اللذات سريعة الاستحالة سريعة الزوال سريعة الانقضاء . فثبت بهذه الوجوه الكثيرة خساسة هذه اللذات . وأما السعادات الروحانية فإنها سعادات شريفة عالية باقية مقدسة ، ولذلك فإن جميع الخلق إذا تخيلوا في الإنسان كثرة العلم وشدة الانقباض عن اللذات الجسمانية ، فإنهم بالطبع يعظمونه ويخدمونه ويعدون أنفسهم عبيداً لذلك الإنسان وأشقياء بالنسبة إليه ، وذلك يدل على شهادة الفطرة الأصلية بخساسة اللذات الجسمانية ، وكمال مرتبة اللذات الروحانية . الوجه الثاني : في بيان أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا ، وهو أن نقول : هب أن هذين النوعين تشاركا في الفضل والمنقبة ، إلا أن الوصول إلى الخيرات الموعودة في غد القيامة معلوم قطعاً . وأما الوصول إلى الخيرات الموعودة في غد الدنيا فغير معلوم بل ولا مظنون ، فكم من سلطان قاهر في بكرة اليوم صار تحت التراب في آخر ذلك اليوم ، وكم من أمير كبير أصبح في الملك والإمارة ، ثم أمسى أسيراً حقيراً ، وهذا التفاوت أيضاً يوجب المباينة بين النوعين . الوجه الثالث : هب أنه وجد الإنسان بعد هذا اليوم يوماً آخر في الدنيا ، إلا أنه لا يدري هل يمكنه الانتفاع بما جمعه من الأموال والطيبات واللذات أم لا ؟ أما كل ما جمعه من موجبات السعادات ، فإنه يعلم قطعاً أنه ينتفع به في الدار الآخرة . الوجه الرابع : هب أنه ينتفع بها إلا أن انتفاعه بخيرات الدنيا لا يكون خالياً عن شوائب المكروهات ، وممازجة المحرمات المخوفات . ولذلك قيل : من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق . فقيل : وما هو يا رسول الله ؟ قال : " " سرور يوم بتمامه " . " الوجه الخامس : هب أنه ينتفع بتلك الأموال والطيبات في الغد ، إلا أن تلك المنافع منقرضة ذاهبة باطلة ، وكلما كانت تلك المنافع أقوى وألذ وأكمل وأفضل كانت الأحزان الحاصلة عند انقراضها وانقضائها أقوى وأكمل كما قال الشاعر المتنبي : @ أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا @@ فثبت بما ذكرنا أن سعادات الدنيا وخيراتها موصوفة بهذه العيوب العظيمة ، والنقصانات الكاملة وسعادات الآخرة مبرأة عنها ، فوجب القطع بأن الآخرة أكمل وأفضل وأبقى وأتقى وأحرى وأولى . المسألة الثانية : قرأ ابن عامر { وَلَدَارُ ٱلآخِرَةِ } بإضافة الدار إلى الآخرة ، والباقون { وَلَلدَّارُ ٱلاْخِرَةُ } على جعل الآخرة نعتاً للدار . أما وجه قراءة ابن عامر فهو أن الصفة في الحقيقة مغايرة للموصوف فصحت الإضافة من هذا الوجه ، ونظيره قولهم بارحة الأولى ، ويوم الخميس وحق اليقين ، وعند البصريين لا تجوز هذه الإضافة ، قالوا لأن الصفة نفس الموصوف ، وإضافة الشيء إلى نفسه ممتنعة . واعلم أن هذا بناء على أن الصفة نفس الموصوف وهو مشكل لأنه يعقل تصور الموصوف منفكاً عن الصفة ، ولو كان الموصوف عين الصفة لكان ذلك محالاً ، ولقولهم وجه دقيق يمكن تقريره ، إلا أنه لا يليق بهذا المكان ، ثم إن البصريين ذكروا في تصحيح قراءة ابن عامر وجهاً آخر ، فقالوا لم يجعل الآخرة صفة للدار ، لكنه جعلها صفة للساعة ، فكأنه قال : ولدار الساعة الآخرة . فإن قيل : فعلى هذا التقدير الذي ذكرتم تكون قد أقيمت الآخرة التي هي الصفة مقام الموصوف الذي هو الساعة وذلك قبيح . قلنا لا يقبح ذلك إذا كانت الصفة قد استعملت استعمال الأسماء ولفظ الآخرة قد استعمل الأسماء ، والدليل عليه : قوله { وَلَلأخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلاْولَىٰ } [ الضحى : 4 ] وأما قراءة العامة فهي ظاهرة لأنها تقتضي جعل الآخرة صفة للدار وذلك هو الحقيقة ومتى أمكن إجراء الكلام على حقيقته فلا حاجة إلى العدول عنه والله أعلم . المسألة الثالثة : اختلفوا في المراد بالدار الآخرة على وجوه . قال ابن عباس : هي الجنة ، وإنها خير لمن اتقى الكفر والمعاصي . وقال الحسن : المراد نفس الآخرة خير . وقال الأصم : التمسك بعمل الآخرة خير . وقال آخرون : نعيم الآخرة من نعيم الدنيا ، من حيث إنها باقية دائمة مصونة عن الشوائب آمنة من الانقضاء والانقراض . ثم قال تعالى : { لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } فبيّـن أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان من المتقين من المعاصي والكبائر . فأما الكافر والفاسق فلاٰ لأن الدنيا بالنسبة إليه خير من الآخرة على ما قال عليه السلام : " " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " . " ثم قال : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } قرأ نافع وابن عامر { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } بالتاء ههنا وفي سورة الأعراف ويوسف ويس . وقرأ حفص عن عاصم في { يس } بالياء والباقي بالتاء . وقرأ عاصم في رواية يحيى في يوسف بالتاء والباقي بالياء . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية الأعشى والبرجمي جميع ذلك بالياء . قال الواحدي : من قرأ بالياء معناه : أفلا يعقلون الذين يتقون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار ؟ فيعملون لما ينالون به الدرجة الرفيعة والنعيم الدائم فلا يفترون في طلب ما يوصل إلى ذلك ، ومن قرأ بالتاء ، فالمعنى : قل لهم أفلا تعقلون أيها المخاطبون أن ذلك خير ؟ والله أعلم .