Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 3-3)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
واعلم أنا إن قلنا : إن المقصود من الآية المتقدمة إقامة الدليل على وجود الصانع القادر المختار . قلنا : المقصود من هذه الآية بيان كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ، فإن الآيتين المتقدمتين يدلان على كمال القدرة ، وهذه الآية تدل على كمال العلم وحينئذٍ يكمل العلم بالصفات المعتبرة في حصول الإلهية ، وإن قلنا : المقصود من الآية المتقدمة إقامة الدلالة على صحة المعاد ، فالمقصود من هذه الآية تكميل ذلك البيان ، وذلك لأن منكري المعاد إنما أنكروه لأمرين أحدهما : أنهم يعتقدون أن المؤثر في حدوث بدن الإنسان هو امتزاج الطبائع وينكرون أن يكون المؤثر فيه قادراً مختاراً . والثاني : أنهم يسلمون ذلك إلا أنهم يقولون إنه غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز المطيع من العاصي ، ولا تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو ثم إنه تعالى أثبت بالآيتين المتقدمتين كونه تعالى قادراً ومختاراً لا علة موجبة ، وأثبت بهذه الآية كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ، وحينئذٍ تبطل جميع الشبهات التي عليها مدار القول بإنكار المعاد ، وصحة الحشر والنشر فهذا هو الكلام في نظم الآية وههنا مسائل : المسألة الأولى : القائلون بأن الله تعالى مختص بالمكان تمسكوا بهذه الآية وهو قوله { وَهُوَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ } وذلك يدل على أن الإله مستقر في السماء قالوا : ويتأكد هذا أيضاً بقوله تعالى : { ءَأَمِنتُم مَّن فِى ٱلسَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ } [ الملك : 16 ] قالوا : ولا يلزمنا أن يقال فيلزم أن يكون في الأرض لقوله تعالى في هذه الآية { وَهُوَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَفِى ٱلاْرْضِ } وذلك يقتضي حصوله تعالى في المكانين معاً وهو محال لأنا نقول أجمعنا على أنه ليس بموجود في الأرض ، ولا يلزم من ترك العمل بأحد الظاهرين ترك العمل بالظاهر الآخر من غير دليل ، فوجب أن يبقى ظاهر قوله { وَهُوَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ } على ذلك الظاهر ، ولأن من القراء من وقف عند قوله { وَهُوَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ } ثم يبتدىء فيقول { وَفِى ٱلأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ } والمعنى أنه سبحانه يعلم سرائركم الموجودة في الأرض فيكون قوله { فِى ٱلأَرْضِ } صلة لقوله { سِرَّكُمْ } هذا تمام كلامهم . وأعلم أنا نقيم الدلالة أولاً على أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره ، وذلك من وجوه : الأول : أنه تعالى قال في هذه السورة { قُل لّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلاْرْضِ قُل لِلَّهِ } [ الأنعام : 12 ] فبيّـن بهذه الآية أن كل ما في السموات والأرض فهو ملك لله تعالى ومملوك له ، فلو كان الله أحد الأشياء الموجودة في السموات لزم كونه ملكاً لنفسه ، وذلك محال ، ونظير هذه الآية قوله في سورة طه { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } [ طه : 6 ] فإن قالوا قوله { قُل لّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَٰوات وٱلأَرْضِ } هذا يقتضي أن كل ما في السموات فهو لله إلا أن كلمة ما مختصة بمن لا يعقل فلا يدخل فيها ذات الله تعالى . قلنا : لا نسلم والدليل عليه قوله { وَٱلسَّمَاء وَمَا بَنَـٰهَا وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَـٰهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } [ الشمس : 5 7 ] ونظيره { وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ } [ الكافرون : 3 ] ولا شك أن المراد بكلمة ما ههنا هو الله سبحانه . والثاني : أن قوله { وَهُوَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ } إما أن يكون المراد منه أنه موجود في جميع السموات ، أو المراد أنه موجود في سماء واحدة . والثاني : ترك للظاهر والأول : على قسمين لأنه إما أن يكون الحاصل منه تعالى في أحد السموات عين ما حصل منه في سائر السموات أو غيره ، والأول : يقتضي حصول المتحيز الواحد في مكانين وهو باطل ببديهة العقل . والثاني : يقتضي كونه تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض وهو محال . والثالث : أنه لو كان موجوداً في السماوات لكان محدوداً متنايهاً وكل ما كان كذلك كان قبوله للزيادة والنقصان ممكناً ، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعين لتخصيص مخصص وتقدير مقدر وكل ما كان كذلك فهو محدث . والرابع : أنه لو كان في السموات فهل يقدر على خلق عالم آخر فوق هذه السموات أو لا يقدر ، والثاني : يوجب تعجيزه والأول : يقتضي أنه تعالى لو فعل ذلك لحصل تحت هذا العالم ، والقوم ينكرون كونه تحت العالم والخامس : أنه تعالى قال : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ } [ الحديد : 4 ] وقال : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] وقال : { وَهُوَ ٱلَّذِى فِى ٱلسَّماء إِلَـٰهٌ وَفِى ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ } [ الزخرف : 84 ] وقال { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ } [ البقرة : 115 ] وكل ذلك يبطل القول بالمكان والجهة للهِ تعالى ، فثبت بهذه الدلائل أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره فوجب التأويل وهو من وجوه : الأول : أن قوله { وَهُوَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَفِى ٱلأَرْضِ } يعني وهو الله في تدبير السموات والارض كما يقال : فلان في أمر كذا أي في تدبيره وإصلاح مهماته ، ونظيره قوله تعالى : { وَهُوَ ٱلَّذِى فِى ٱلسَّماء إِلَـٰهٌ وَفِى ٱلاْرْضِ إِلَـٰهٌ } والثاني : أن قوله { وَهُوَ ٱللَّهُ } كلام تام ، ثم ابتدأ وقال : { فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَفِى ٱلاْرْضِ يَعلمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } والمعنى إله سبحانه وتعالى يعلم في السموات سرائر الملائكة ، وفي الأرض يعلم سرائر الإنس والجن . والثالث : أن يكون الكلام على التقديم والتأخير والتقدير : وهو الله يعلم في السموات وفي الأرض سركم وجهركم ، ومما يقوي هذه التأويلات أن قولنا : وهو الله نظير قولنا هو الفاضل العالم ، وكلمة هو إنما تذكر ههنا لإفادة الحصر ، وهذه الفائدة إنما تحصل إذا جعلنا لفظ الله اسماً مشتقاً فأما لو جعلناه اسم علم شخص قائم مقام التعيين لم يصح إدخال هذه اللفظة عليه ، وإذا جعلنا قولنا : الله لفظاً مفيداً صار معناه وهو المعبود في السماء وفي الأرض ، وعلى هذا التقدير يزول السؤال والله أعلم . المسألة الثانية : المراد بالسر صفات القلوب وهي الدواعي والصوارف ، والمراد بالجهر أعمال الجوارح ، وإنما قدم ذكر السر على ذكر الجهر لأن المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي ، فالداعية التي هي من باب السر هي المؤثرة في أعمال الجوارح المسماة بالجهر ، وقد ثبت أن العلم بالعلة علة للعلم بالمعلول ، والعلة متقدمة على المعلول ، والمتقدم بالذات يجب تقديمه بحسب اللفظ . المسألة الثالثة : قوله { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } فيه سؤال : وهو أن الأفعال إما أفعال القلوب وهي المسماة بالسر ، وإما أعمال الجوارح وهي المسماة بالجهر . فالأفعال لا تخرج عن السر والجهر فكان قوله { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } يقتضي عطف الشيء على نفسه ، وأنه فاسد . والجواب : يجب حمل قوله { مَا تَكْسِبُونَ } على ما يستحقه الإنسان على فعله من ثواب وعقاب والحاصل أنه محمول على المكتسب كما يقال : هذا المال كسب فلان أي مكتسبه ، ولا يجوز حمله على نفس الكسب ، وإلا لزم عطف الشيء على نفسه على ما ذكرتموه في السؤال . المسألة الرابعة : الآية تدل عى كون الإنسان مكتسباً للفعل والكسب هو الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر ، ولهذا السبب لا يوصف فعل الله بأنه كسب لكونه تعالى منزهاً عن جلب النفع ودفع الضرر والله أعلم .