Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 8-9)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أن هذا النوع الثالث من شبه منكري النبوّات فإنهم يقولون : لو بعث الله إلى الخلق رسولاً لوجب أن يكون ذلك الرسول واحداً من الملائكة فإنهم إذا كانوا من زمرة الملائكة كانت علومهم أكثر ، وقدرتهم أشد ، ومهابتهم أعظم ، وامتيازهم عن الخلق أكمل ، والشبهات والشكوك في نبوّتهم ورسالتهم أقل . والحكيم إذا أراد تحصيل مهم فكل شيء كان أشد إفضاءً إلى تحصيل ذلك المطلوب كان أولى . فلما كان وقوع الشبهات في نبوّة الملائكة أقل ، وجب لو بعث الله رسولاً إلى الخلق أن يكون ذلك الرسول من الملائكة هذا هو المراد من قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } . واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين : أما الأول : فقوله { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ ٱلأَمْرُ } ومعنى القضاء الإتمام والإلزام . وقد ذكرنا معاني القضاء في سورة البقرة . ثم هٰهنا وجوه : الأول : أن إنزال الملك على البشر آية باهرة ، فبتقدير إنزال الملك على هؤلاء اللكفار فربما لم يؤمنوا كما قال : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةَ } إلى قوله { مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } [ الأنعام : 111 ] وإذا لم يؤمنوا وجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال ، فإن سنّة الله جارية بأن عند ظهور الآية الباهرة إن لم يؤمنوا جاءهم عذاب الاستئصال ، فهٰهنا ما أنزل الله تعالى الملك إليهم لئلا يستحقوا هذا العذاب والوجه الثاني : أنهم إذا شاهدوا الملك رهقت أرواحهم من هول ما يشهدون ، وتقريره : أن الآدمي إذا رأى الملك فإما أن يراه على صورته الأصلية أو على صورة البشر . فإن كان الأول لم يبقَ الآدمي حياً ، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى جبريل عليه السلام على صورته الأصلية غشي عليه ، وإن كان الثاني فحينئذ يكون المرئي شخصاً على صورة البشر ، وذلك لا يتفاوت الحال فيه سواء كان هو في نفسه ملكاً أو بشراً . ألا ترى أن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم ، وأضياف لوط ، وكالذين تسوروا المحراب ، وكجبريل حيث تمثل لمريم بشراً سوياً . والوجه الثالث : أن إنزال الملك آية باهرة جارية مجرى الالجاء ، وإزالة الاختيار ، وذلك مخل بصحة التكليف . الوجه الرابع : أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهات المذكورة إلا أنه يقوي الشبهات من وجه آخر ، وذلك لأن أي معجزة ظهرت عليه قالوا هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك ، ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القدرة والقوة والعلم لفعلنا مثل ما فعلته أنت ، فعلمنا أن إنزال الملك وإن كان يدفع الشبهة من الوجوه المذكورة لكنه يقوي الشبهة من هذه الوجوه . وأما قوله { ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } فالفائدة في كلمة { ثُمَّ } التنبيه على أن عدم الانظار أشد من قضاء الأمر ، لأن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة . وأما الثاني : فقوله { وَلَوْ جَعَلْنَـٰهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَـٰهُ رَجُلاً } أي لجعلناه في صورة البشر . والحكمة فيه أمور : أحدها : أن الجنس إلى الجنس أميل . وثانيها : أن البشر لا يطيق رؤية الملك ، وثالثها : ان طاعات الملائكة قوية فيستحقرون طاعة البشر ، وربما لا يعذرونهم في الاقدام على المعاصي . ورابعها : أن النبوّة فضل من الله فيختص بها من يشاء من عباده ، سواء كان ملكاً أو بشراً . ثم قال : { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } قال الواحدي : يقال لبست الأمر على القوم ألبسه لبساً إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلاً ، وأصله من التستر بالثوب ، ومنه لبس الثوب لأنه يفيد ستر النفس والمعنى أنا إذا جعلنا الملك في صورة البشر فهم يظنون كون ذلك الملك بشراً فيعود سؤالهم أنا لا نرضى برسالة هذا الشخص . وتحقيق الكلام أن الله لو فعل ذلك لصار فعل الله نظيراً لفعلهم في التلبيس ، وإنما كان ذلك تلبيساً لأن الناس يظنون أنه بشر مع أنه ليس كذلك ، وإنما كان فعلهم تلبيساً لأنهم يقولون للقومهم إنه بشر مثلكم والبشر لا يكون رسولاً من عند الله تعالى .