Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 68, Ayat: 2-4)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أن قوله : { مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ } فيه مسألتان : المسألة الأولى : روي عن ابن عباس أنه عليه السلام غاب عن خديجة إلى حراء ، فطلبته فلم تجده ، فإذا به وجهه متغير بلا غبار ، فقالت له مالك ؟ فذكر نزول جبريل عليه السلام وأنه قال له : { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ } [ العلق : 1 ] فهو أول ما نزل من القرآن ، قال : ثم نزل بي إلى قرار الأرض فتوضأ وتوضأت ، ثم صلى وصليت معه ركعتين ، وقال : هكذا الصلاة يا محمد ، فذكر عليه الصلاة والسلام ذلك لخديجة ، فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل ، وهو ابن عمها ، وكان قد خالف دين قومه ، ودخل في النصرانية ، فسألته فقال : أرسلي إليَّ محمداً ، فأرسلته فأتاه فقال له : هل أمرك جبريل عليه السلام أن تدعو إلى الله أحداً ؟ فقال : لا ، فقال : والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصراً عزيزاً ، ثم مات قبل دعاء الرسول ، ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش فقالوا : إنه لمجنون ، فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون ، وهو خمس آيات من أول هذه السورة ، ثم قال ابن عباس : وأول ما نزل قوله : { سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ } [ الأعلى : 1 ] وهذه الآية هي الثانية . المسألة الثانية : قال الزجاج : { أَنتَ } هو اسم { مَا } و { بِمَجْنُونٍ } الخبر ، وقوله : { بِنِعْمَةِ رَبّكَ } كلام وقع في البين والمعنى انتفى عنك الجنون بنعمة ربك كما يقال : أنت بحمد الله عاقل ، وأنت بحمد الله لست بمجنون ، وأنت بنعمة الله فهم ، وأنت بنعمة الله لست بفقير ، ومعناه أن تلك الصفة المحمودة إنما حصلت ، والصفة المذمومة إنما زالت بواسطة إنعام الله ولطفه وإكرامه ، وقال عطاء وابن عباس : يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة ، وهو جواب لقولهم : { يأَيُّهَا ٱلَّذِى نُزّلَ عَلَيْهِ ٱلذّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] واعلم أنه تعالى وصفه ههنا بثلاثة أنواع من الصفات . الصفة الأولى : نفي الجنون عنه ثم إنه تعالى قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها وذلك لأن قوله : { بِنِعْمَةِ رَبّكَ } يدل على أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية ، والبراءة من كل عيب ، والاتصاف بكل مكرمة وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون ، فالله تعالى نبه على هذه الدقيقة لتكون جارية مجرى الدلالة اليقينية على كونهم كاذبين في قولهم له : إنه مجنون . الصفة الثانية : قوله : { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } وفي الممنون قولان : أحدهما : وهو قول الأكثرين ، أن المعنى غير منقوص ولا مقطوع يقال : منَّه السير أي أضعفه ، والمنين الضعيف ومنَّ الشيء إذا قطعه ، ومنه قول لبيد : @ غبش كواسب ما يمن طعامها @@ يصف كلاباً ضارية ، ونظيره قوله تعالى : { عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] . والقول الثاني : وهو قول مجاهد ومقاتل والكلبي ، إنه غير مقدر عليك بسبب المنة ، قالت المعتزلة في تقرير هذا الوجه : إنه غير ممنون عليك لأنه ثواب تستوجبه على عملك ، وليس بتفضل ابتداء ، والقول الأول أشبه لأن وصفه بأنه أجر يفيد أنه لا منة فيه فالحمل على هذا الوجه يكون كالتكرير ، ثم اختلفوا في أن هذا الأجر على أي شيء حصل ؟ قال قوم معناه : إن لك على احتمال هذا الطعن والقول القبيح أجراً عظيماً دائماً ، وقال آخرون : المراد إن لك في إظهار النبوة والمعجزات ، في دعاء الخلق إلى الله ، وفي بيان الشرع لهم هذا الأجر الخالص الدائم ، فلا تمنعك نسبتها إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا المهم العظيم ، فإن لك بسببه المنزلة العالية عند الله . الصفة الثالثة : قوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : اعلم أن هذا كالتفسير لما تقدم من قوله : { بِنِعْمَةِ رَبّكَ } وتعريف لمن رماه بالجنون بأن ذلك كذب ، وخطأ وذلك لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة منه ، ومن كان موصوفاً بتلك الأخلاق والأفعال لم يجز إضافة الجنون إليه لأن أخلاق المجانين سيئة ، ولما كانت أخلاقه الحميدة كاملة لا جرم وصفها الله بأنها عظيمة ولهذا قال : { قُلْ مَا أَسْـئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ ٱلْمُتَكَلّفِينَ } [ صۤ : 86 ] أي لست متكلفاً فيما يظهر لكم من أخلاقي لأن المتكلف لا يدوم أمره طويلاً بل يرجع إلى الطبع ، وقال آخرون : إنما وصف خلقه بأنه عظيم وذلك لأنه تعالى قال له : { أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] وهذا الهدى الذي أمر الله تعالى محمداً بالاقتداء به ليس هو معرفة الله لأن ذلك تقليد وهو غير لائق بالرسول ، وليس هو الشرائع لأن شريعته مخالفة لشرائعهم فتعين أن يكون المراد منه أمره عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بكل واحد من الأنبياء المتقدمين فيما اختص به من الخلق الكريم ، فكأن كل واحد منهم كان مختصاً بنوع واحد ، فلما أمر محمد عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بالكل فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقاً فيهم ، ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحد من الأنبياء قبله ، لا جرم وصف الله خلقه بأنه عظيم ، وفيه دقيقة أخرى وهي قوله : { لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } وكلمة على للاستعلاء ، فدل اللفظ على أنه مستعمل على هذه الأخلاق ومستول عليها ، وأنه بالنسبة إلى هذه الأخلاق الجميلة كالمولى بالنسبة إلى العبد وكالأمير بالنسبة إلى المأمور . المسألة الثانية : الخلق ملكة نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة . واعلم أن الإتيان بالأفعال الجميلة غير وسهولة الإتيان بها غير ، فالحالة التي باعتبارها تحصل تلك السهولة هي الخلق ويدخل في حسن الخلق التحرز من الشح والبخل والغضب ، والتشديد في المعاملات والتحبب إلى الناس بالقول والفعل ، وترك التقاطع والهجران والتساهل في العقود كالبيع وغيره والتسمح بما يلزم من حقوق من له نسب أو كان صهراً له وحصل له حق آخر . وروي عن ابن عباس أنه قال معناه : وإنك لعلى دين عظيم ، وروي أن الله تعالى قال له : « لم أخلق ديناً أحب إلي ولا أرضى عندي من هذا الدين الذي اصطفيته لك ولأمتك » يعني الإسلام ، واعلم أن هذا القول ضعيف ، وذلك لأن الإنسان له قوتان ، قوة نظرية وقوة عملية ، والدين يرجع إلى كمال القوة النظرية ، والخلق يرجع إلى كمال القوة العملية ، فلا يمكن حمل أحدهما على الآخر ، ويمكن أيضاً أن يجاب عن هذا السؤال من وجهين : الوجه الأول : أن الخلق في اللغة هو العادة سواء كان ذلك في إدراك أو في فعل الوجه الثاني : أنا بينا أن الخلق هو الأمر الذي باعتباره يكون الإتيان بالأفعال الجميلة سهلاً ، فلما كانت الروح القدسية التي له شديدة الاستعداد للمعارف الإلهية الحقة وعديمة الاستعداد لقبول العقائد الباطلة ، كانت تلك السهولة حاصلة في قبول المعارف الحقة ، فلا يبعد تسمية تلك السهول بالخلق . المسألة الثالثة : قال سعيد بن هشام : قلت لعائشة : « أخبريني عن خلق رسول الله ، قالت ألست قرأ القرآن ؟ قلت : بلى قالت : فإنه كان خلق النبي عليه الصلاة والسلام » وسئلت مرة أخرى فقالت : كان خلقه القرآن ، ثم قرأت : { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [ المؤمنون : 1 ] إلى عشرة آيات ، وهذا إشارة إلى أن نفسه المقدسة كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيب ، وإلى كل ما يتعلق بها ، وكانت شديدة النفرة عن اللذات البدنية والسعادة الدنيوية بالطبع ومقتضى الفطرة ، اللهم ارزقنا شيئاً من هذه الحالة . وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : « ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك » فلهذا قال تعالى : { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } وقال أنس : « خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، فما قال لي في شي فعلته لم فعلت ، ولا في شيء لم أفعله هلا فعلت » وأقول : إن الله تعالى وصف ما يرجع إلى قوته النظرية بأنه عظيم ، فقال : { وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [ النساء : 113 ] ووصف ما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم فقال : { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } فلم يبق للإنسان بعد هاتين القوتين شيء ، فدل مجموع هاتين الآيتين على أن روحه فيما بين الأرواح البشرية كانت عظيمة عالية الدرجة ، كأنها لقوتها وشدة كمالها كانت من جنس أرواح الملائكة . واعلم أنه تعالى لما وصفه بأنه على خلق عظيم قال :