Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 72, Ayat: 23-23)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله تعالى : { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَـٰلَـٰتِهِ } ذكروا في هذا الاستثناء وجوهاً أحدها : أنه استثناء من قوله : { لا أَمْلِكُ } [ الجن : 21 ] أي لا أملك لكم ضراً ولا رشداً إلا بلاغاً من الله ، وقوله : { قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى } [ الجن : 22 ] جملة معترضة وقعت في البين لتأكيد نفي الاستطاعة عنه وبيان عجزه على معنى : أنه تعالى إن أراد به سوءاً لم يقدر أحد أن يجيره منه ، وهذا قول الفراء . وثانيها : وهو قول الزجاج : أنه نصب على البدل من قوله : { مُلْتَحَدًا } [ الجن : 22 ] والمعنى : ولن أجد من دونه ملجأ إلا بلاغاً ، أي لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت به ، وأقول هذا الاستثناء منقطع لأنه تعالى لما لم يقل ولن أجد ملتحداً بل قال : { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } ، والبلاغ من الله لا يكون داخلاً تحت قوله : { مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } لأن البلاغ من الله لا يكون من دون الله ، بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه ثالثها : قال بعضهم : إلا معناه إن لا ومعناه : إن لا أبلغ بلاغاً كقولك : إلا قياماً فقعوداً ، والمعنى : إن لا أبلغ لم أجد ملتحداً ، فإن قيل : المشهور أنه يقال بلغ عنه قال عليه السلام : " " بلغوا عني ، بلغوا عني " " فلم قال ههنا : { بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ } ؟ قلنا : من ليست بصفة للتبلغ إنما هي بمنزلة من في قوله : { بَرَاءةٌ مّنَ ٱللَّهِ } [ التوبة : 1 ] بمعنى بلاغاً كائناً من الله . أما قوله تعالى : { وَرِسَـٰلَـٰتِهِ } فهو عطف على { بَلاَغاً } كأنه قال : لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات ، والمعنى إلا أن أبلغ عن الله فأقول : قال الله كذا ناسباً القول إليه وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان . قوله تعالى : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } قال الواحدي إن مكسورة الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء ولذلك حمل سيبويه قوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ } [ البقرة : 126 ] { فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ } [ الجن : 13 ] على أن المبتدأ فيها مضمر وقال صاحب « الكشاف » وقرىء : { فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } على تقدير فجزاؤه أن له نار جهنم كقولك : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } [ الأنفال : 41 ] أي فحكمه أن لله خمسه . ثم قال تعالى : { خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً } حملاً على معنى الجمع في من وفي الآية مسألتان : المسألة الأولى : استدل جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن فساق أهل الصلاة مخلدون في النار وأن هذا العموم يشملهم كشموله الكفار ، قالوا : وهذا الوعيد مشروط بشرط أن لا يكون هناك توبة ولا طاعة أعظم منها ، قالوا : وهذا العموم أقوى في الدلالة على هذا المطلوب من سائر العمومات لأن سائر العمومات ما جاء فيها قوله : { أَبَدًا } فالمخالف يحمل الخلود على المكث الطويل ، أما ههنا فقد جاء لفظ الأبد فيكون ذلك صريحاً في إسقاط الاحتمال الذي ذكره المخالف والجواب : أنا بينا في سورة البقرة وجوه الأجوبة على التمسك بهذه العمومات ، ونزيد ههنا وجوهاً أحدها : أن تخصيص العموم بالواقعة التي لأجلها ورد ذلك العموم عرف مشهور ، فإن المرأة إذا أرادت أن تخرج من الدار ساعة فقال الزوج إن خرجت فأنت طالق يفيد ذلك اليمين بتلك الساعة المعينة حتى إنها لو خرجت في يوم آخر لم تطلق ، فههنا أجرى الحديث في التبليغ عن الله تعالى ، ثم قال : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } يعني جبريل : { فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ } أي من يعص الله في تبليغ رسالاته وأداء وحيه فإن له نار جهنم ، وإذا كان ما ذكرنا محتملاً سقط وجه الاستدلال الوجه الثاني : وهو أن هذا الوعيد لا بد وأن يتناول هذه الصورة لأن من القبيح أن يذكر عقيب هذه الواقعة حكماً لا تعلق له بها ، فيكون هذا الوعيد وعيداً على ترك التبليغ من الله ، ولا شك أن ترك التبليغ من الله أعظم الذنوب ، والعقوبة المترتبة على أعظم الذنوب ، لا يجوز أن تكون مرتبة على جميع الذنوب ، لأن الذنوب المتفاوتة في الصغر والكبر لا يجوز أن تكون متساوية في العقوبة ، وإذا ثبت أن هذه العقوبة على هذا الذنب ، وثبت أن ما كان عقوبة على هذا الذنب لا يجوز أن يكون عقوبة على سائر الذنوب ، علمنا أن هذا الحكم مختص بهذا الذنب وغير متعد إلى سائر الذنوب الوجه الثالث : وهو أنه تعالى ذكر عمومات الوعيد في سائر آيات القرآن غير مقيدة بقيد الأبد ، وذكرها ههنا مقيدة بقيد الأبد ، فلا بد في هذا التخصيص من سبب ، ولا سبب إلا أن هذا الذنب أعظم الذنوب ، وإذا كان السبب في هذا التخصيص هذا المعنى ، علمنا أن هذا الوعيد مختص بهذا الذنب وغير متعد إلى جميع الذنوب ، وإذا ثبت أن هذا الوعيد مختص بفاعل هذا الذنب ، صارت الآية دالة على أن حال سائر المذنبين بخلاف ذلك لأن قوله : { فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً } معناه أن هذه الحالة له لا لغيره ، وهذا كقوله : { لَكُمْ دِينَكُمْ } أي لكم لا لغيركم . وإذا ثبت أن لهم هذه الحالة لا لغيرهم ، وجب في سائر المذنبين أن لا يكون لهم نار جهنم على سبيل التأبيد ، فظهر أن هذه الآية حجة لنا عليهم . وعلى تمسكهم بالآية سؤال آخر ، وهو أن قوله : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } إنما يتناول من عصى الله ورسوله بجميع أنواع المعاصي ، وذلك هو الكافر ونحن نقول : بأن الكافر يبقى في النار مؤبداً ، وإنما قلنا إن قوله : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } إنما يتناول من عصى الله بجميع أنواع المعاصي لأن قوله : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ } يصح استثناء جميع أنواع المعاصي عنه ، مثل أن يقال ومن يعص الله إلا في الكفر وإلا في الزنا ، وإلا في شرب الخمر ، ومن مذهب القائلين بالوعيد أن حكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلاً تحت اللفظ وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون قوله : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ } متناولاً لمن أتى بكل المعاصي ، والذي يكون كذلك هو الكافر ، فالآية مختصة بالكافر على هذا التقدير ، فسقط وجه الاستدلال بها . فإن قيل : كون الإنسان الواحد آتياً لجميع أنواع المعاصي محال ، لأن من المحال أن يكون قائلاً بالتجسم ، وأن يكون مع ذلك قائلاً بالتعطيل ، وإذا كان ذلك محالاً فحمل الآية عليه غير جائز قلنا : تخصيص العام بدليل العقل جائز ، فقولنا : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ } يفيد كونه آتياً بجميع أنواع المعاصي ، ترك العمل به في القدر الذي امتنع عقلاً حصوله فيبقى متناولاً للآتي بجميع الأشياء التي يمكن الجمع بينها ، ومن المعلوم أن الجمع بين الكفر وغيره ممكن فتكون الآية مختصة به . المسألة الثانية : تمسك القائلون بأن الأمر للوجوب بهذه الآية فقالوا : تارك المأمور به عاص لقوله تعالى : { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى } [ طه : 93 ] ، { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ } [ التحريم : 6 ] ، { لا أَعْصِى لَكَ أمْراً } [ الكهف : 69 ] والعاصي مستحق للعقاب لقوله : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَـٰلِدِينَ فِيهَا أَبَداً } .