Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 79, Ayat: 27-28)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم اعلم أنه تعالى لما ختم هذه القصة رجع إلى مخاطبة منكري البعث ، فقال : { أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَاءُ } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : في المقصود من هذا الاستدلال وجهان الأول : أنه استدلال على منكري البعث فقال : { أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَاءُ } فنبههم على أمر يعلم بالمشاهدة . وذلك لأن خلقة الإنسان على صغره وضعفه ، إذا أضيف إلى خلق السماء على عظمها وعظم أحوالها يسير ، فبين تعالى أن خلق السماء أعظم ، وإذا كان كذلك فخلقهم على وجه الإعادة أولى أن يكون مقدوراً لله تعالى فكيف ينكرون ذلك ؟ ونظيره قوله : { أَوَلَـيْسَ ٱلَذِي خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } [ يس : 81 ] وقوله : { لَخَلْقُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ } [ غافر : 57 ] والمعنى أخلقكم بعد الموت أشد أم خلق السماء أي عندكم ، وفي تقديركم ، فإن كلا الأمرين بالنسبة إلى قدرة الله واحد والثاني : أن المقصود من هذا الاستدلال بيان كونهم مخلوقين ، وهذا القول ضعيف لوجهين أحدهما : أن من أنكر كون الإنسان مخلوقاً فبأن ينكره في السماء كان أولى وثانيهما : أن أول السورة كان في بيان مسألة الحشر والنشر ، فحمل هذا الكلام عليه أولى . المسألة الثانية : قال الكسائي والفراء والزجاج : هذا الكلام تم عند قوله : { أَمِ ٱلسَّمَاء } . ثم قوله تعالى : { بَنَـٰهَا } ابتداء كلام آخر ، وعند أبي حاتم الوقف على قوله : { بَنَـٰهَا } قال : لأنه من صلة السماء ، والتقدير : أم السماء التي بناها ، فحذف التي ، ومثل هذا الحذف جائز ، قال القفال : يقال : الرجل جاءك عاقل ، أي الرجل الذي جاءك عاقل إذا ثبت أن هذا جائز في اللغة فنقول : الدليل على أن قوله : { بَنَـٰهَا } صلة لما قبله أنه لو لم يكن صلة لكان صفة ، فقوله : { بَنَـٰهَا } صفة ، ثم قوله : { رَفَعَ سَمْكَهَا } صفة ، فقد توالت صفتان لا تعلق لإحداهما بالأخرى ، فكان يجب إدخال العاطف فيما بينهما ، كما في قوله : { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا } [ النازعات : 29 ] فلما لم يكن كذلك علمنا أن قوله : { بَنَـٰهَا } صلة للسماء ، ثم قال : { رَفَعَ سَمْكَهَا } ابتداء بذكر صفته ، وللفراء أن يحتج على قوله بأنه لو كان قوله : { بَنَـٰهَا } صلة للسماء لكان التقدير : أم السماء التي بناها ، وهذا يقتضي وجود سماء ما بناها الله ، وذلك باطل . المسألة الثالثة : الذي يدل على أنه تعالى هو الذي بنى السماء وجوه أحدها : أن السماء جسم ، وكل جسم محدث ، لأن الجسم لو كان أزلياً لكان في الأزل إما أن يكون متحركاً أو ساكناً ، والقسمان باطلان ، فالقول بكون الجسم أزلياً باطل . أما الحصر فلأنه إما أن يكون مستقراً حيث هو فيكون ساكناً ، أو لا يكون مستقراً حيث هو فيكون متحركاً ، وإنما قلنا : إنه يستحيل أن يكون متحركاً ، لأن ماهية الحركة تقتضي المسبوقية بالغير ، وماهية الأزل تنافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال ، وإنما قلنا : إنه يستحيل أن يكون ساكناً ، لأن السكون وصف ثبوتي وهو ممكن الزوال ، وكل ممكن الزوال مفتقر إلى الفاعل المختار ، وكل ما كان كذلك فهو محدث ، فكل سكون محدث فيمتنع أن يكون أزلياً ، وإنما قلنا : إن السكون وصف ثبوتي ، لأنه يتبدل كون الجسم متحركاً بكونه ساكناً مع بقاء ذاته ، فأحدهما لابد وأن يكون أمراً ثبوتياً ، فإن كان الثبوتي هو السكون فقد حصل المقصود ، وأن كان الثبوتي هو الحركة وجب أيضاً أن يكون السكون ثبوتياً ، لأن الحركة عبارة عن الحصول في المكان بعد أن كان في غيره ، والسكون عبارة عن الحصول في المكان بعد أن كان فيه بعينه ، فالتفاوت بين الحركة والسكون ليس في الماهية ، بل في المسبوقية بالغير وعدم المسبوقية بالغير ، وذلك وصف عارضي خارجي عن الماهية ، وإذا كان كذلك فإذا ثبت أن تلك الماهية أمر وجودي في إحدى الصورتين وجب أن تكون كذلك في سورة أخرى ، وإنما قلنا : إن سكون السماء جائز الزوال ، لأنه لو كان واجباً لذاته لامتنع زواله ، فكان يجب أن لا تتحرك السماء لكنا نراها الآن متحركة ، فعلمنا أنها لو كانت ساكنة في الأزل ، لكان ذلك السكون جائز الزوال ، وإنما قلنا : إن ذلك السكون لما كان ممكناً لذاته ، افتقر إلى الفاعل المختار لأنه لما كان ممكناً لذاته ، فلا بد له من مؤثر ، وذلك المؤثر لا يجوز أن يكون موجباً ، لأن ذلك الموجب إن كان واجباً ، وكان غنياً في إيجابه لذلك المعلول عن شرط لزم من دوامه دوام ذلك الأثر ، فكان يجب أن لا يزول للسكون وإن كان واجباً ومفتقراً في إيجابه لذلك المعلول إلى شرط واجب لذاته ، لزم من دوام العلة ودوام الشرط دوام المعلول ، أما إن كان الموجب غير واجب لذاته ، أو كان شرط إيجابه غير واجب لذاته كان الكلام فيه كالكلام في الأول ، فيلزم التسلسل ، وهو محال أو الإنتهاء إلى موجب واجب لذاته ، وإلى شرط واجب لذاته ، وحينئذ يعود الإلزام الأول ، فثبت أن ذلك المؤثر لا بد وأن يكون فاعلاً مختاراً ، فإذاً كل سكون ، فهول فعل فاعل مختار ، وكل ما كان كذلك فهو محدث ، لأن المختار إنما يفعل بواسطة القصد ، والقصد إلى تكوين الكائن ، وتحصيل الحاصل محال ، فثبت أن كل سكون فهو محدث ، فثبت أنه يمتنع أن يكون الجسم في الأزل لا متحركاً ولا ساكناً ، فهو إذاً غير موجود في الأزل ، فهو محدث ، وإذا كان محدثاً افتقر في ذاته ، وفي تركيب أجزائه إلى موجد ، وذلك هو الله تعالى ، فثبت بالعقل أن باني السماء هو الله تعالى . الحجة الثانية : كل ما سوى الواجب فهو ممكن وكل ممكن محدث وكل محدث فعل صانع ، إنما قلنا : كل ما سوى الواجب ممكن ، لأنا لو فرضنا موجودين واجبين لذاتيهما لاشتركا في الوجود ولتباينا بالتعيين ، فيكون كل منهما مركباً مما به المشاركة ، ومما به الممايزة ، وكل مركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره ممكن لذاته ، فكل واحد من الواجبين بالذات ممكن بالذات هذا خلف ، ثم ينقل الكلام إلى ذينك الجزأين ، فإن كانا واجبين ، كان كل واحد من تلك الأجزاء مركباً ويلزم التسلسل ، وإن لم يكونا واجبين كان المفتقر إليهما أولى بعدم الوجود فثبت أن ماعدا الواجب ممكن وكل ممكن فله مؤثر وكل ما افتقر إلى المؤثر محدث ، لأن الافتقار إلى المؤثر لا يمكن أن يتحقق حال البقاء لاستحالة إيجاد الموجد ، فلا بد وأن يكون إما حال الحدوث أو حال العدم ، وعلى التقديرين فالحدوث لازم فثبت أن ما سوى الواجب محدث وكل محدث فلا بد له من محدث ، فلا بد للسماء من بان . الحجة الثالثة : صريح العقل يشهد بأن جرم السماء لا يمتنع أن يكون أكبر مما هو الآن بمقدار خردلة ، ولا يمتنع أن يكون أصغر بمقدار خردلة ، فاختصاص هذا المقدار بالوقوع دون الأزيد والأنقص ، لا بد وأن يكون بمخصص ، فثبت أنه لا بد للسماء من بان : فإن قيل لم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى خلق شيئاً وأعطاه قدرة يتمكن ذلك المخلوق بتلك القدرة من خلق الأجسام فيكون خالق السماء وبانيها هو ذلك الشيء ؟ الجواب : من العلماء من قال : المعلوم بالعقل أنه لا بد للسماء من محدث وأنه لا بد من الانتهاء آخر الأمر إلى قديم والإله قديم واجب الوجود لذاته واحد وهو الله سبحانه وتعالى ، فأما نفي الواسطة فإنما يعلم بالسمع فقوله في هذه الآية : { بَنَـٰهَا } يدل على أن باني السماء هو الله لا غيره ، ومنهم من قال بل العقل يدل على بطلانه لأنه لما ثبت أن كل ما عداه محدث ثبت أنه قادر لا موجب ، والذي كان مقدوراً له إنما صح كونه مقدوراً له بكونه ممكناً ، فإنك لو رفعت الإمكان بقي الوجوب أو الامتناع وهما يحيلان المقدورية ، وإذا كان ما لأجله صح في البعض أن يكون مقدوراً لله وهو الإمكان والإمكان عام في الممكنات وجب أن يحصل في كل الممكنات صحة أن تكون مقدورة لله تعالى ، وإذا ثبت ذلك ونسبة قدرته إلى الكل على السوية وجب أن يكون قادراً على الكل ، وإذا ثبت أن الله قادر على الممكنات فلو قدرنا قادراً آخر قدر على بعض الممكنات ، لزم وقوع مقدور واحد بين قادرين من جهة واحدة ، وذلك محال ، لأنه إما أن يقع بأحدهما دون الآخر وهو محال ، لأنهما لما كانا مستقلين بالاقتضاء فليس وقوعه بهذا أولى من وقوعه بذاك أو بهما معاً ، وهو أيضاً محال لأنه يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما ، فيكون محتاجاً إليهما معاً وغنياً عنهما معاً وهو محال ، فثبت بهذا أنه لا يمكن وقوع ممكن آخر بسبب آخر سوى قدرة الله تعالى ، وهذا الكلام جيد ، لكن على قول من لا يثبت في الوجود مؤثراً سوى الواحد ، فهذا جملة ما في هذا الباب . واعلم أنه تعالى لما بين في السماء أنه بناها ، بين بعد ذلك أنه كيف بناها ، وشرح تلك الكيفية من وجوه : أولها : ما يتعلق بالمكان ، فقال تعالى : { رَفَعَ سَمْكَهَا } . واعلم أن امتداد الشيء إذا أخذ من أعلاه إلى أسفله سمي عمقاً ، وإذا أخذ من أسفله إلى أعلاه سمي سمكاً ، فالمراد برفع سمكها شدة علوها حتى ذكروا أن ما بين الأرض وبينها مسيرة خمسمائة عام ، وقد بين أصحاب الهيئة مقادير الأجرام الفلكية وأبعاد ما بين كل واحد منها وبين الأرض . وقال آخرون : بل المراد : رفع سمكها من غير عمد . وذلك مما لا يصح إلا من الله تعالى . الصفة الثانية : قوله تعالى : { فَسَوَّاهَا } وفيه وجهان الأول : المراد تسوية تأليفها ، وقيل : بل المراد نفي الشقوق عنها ، كقوله : { مَّا تَرَىٰ فِى خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَـٰوُتٍ } [ الملك : 3 ] والقائلون بالقول الأول قالوا : { فَسَوَّاهَا } عام فلا يجوز تخصيصه بالتسوية في بعض الأشياء ، ثم قال هذا يدل على كون السماء كرة ، لأنه لو لم يكن كرة لكان بعض جوانبه سطحاً ، والبعض زاوية ، والبعض خطاً ، ولكان بعض أجزائه أقرب إلينا ، والبعض أبعد ، فلا تكون التسوية الحقيقة حاصلة ، فوجب أن يكون كرة حتى تكون التسوية الحقيقة حاصلة ، ثم قالوا لما ثبت أنها محدثة مفتقرة إلى فاعل مختار ، فأي ضرر في الدين ينشأ من كونها كرة ؟ .