Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 8, Ayat: 70-71)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أن الرسول لما أخذ الفداء من الأسارى وشق عليهم أخذ أموالهم منهم ، ذكر الله هذه الآية استمالة لهم فقال : { رَّحِيمٌ يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم مّنَ ٱلاْسْرَىٰ } قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في العباس ، وعقيل بن أبي طالب ، ونوفل بن الحرث ، كان العباس أسيراً يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس ، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر فلم تبلغه التوبة حتى أسر ، فقال العباس : كنت مسلماً إلا أنهم أكرهوني ، فقال عليه السلام : " " إن يكن ما تذكره حقاً فالله يجزيك " " فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا . قال العباس : فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب علي ، فقال : « أما شيء خرجت لتستعين به علينا فلا » قال : وكلفني الرسول فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية ، وفداء نوفل بن الحرث ، فقال العباس : تركتني يا محمد أتكفف قريشاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : لا أدري ما يصيبني ، فإن حدث بي حادث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل » فقال العباس : وما يدريك ؟ قال : « أخبرني به ربي » قال العباس : فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله ، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ، ولقد دفعته إليها في سواد الليل ، ولقد كنت مرتاباً في أمرك ، فأما إذ أخبرتني بذلك فلا ريب . قال العباس : فأبدلني الله خيراً من ذلك ، لي الآن عشرون عبداً ، وإن أدناهم ليضرب في عشرين ألفاً ، وأعطاني زمزم ، وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة ، وأنا أنتظر المغفرة من ربي . وروي أنه قدم على رسول الله مال البحرين ثمانون ألفاً ، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه ، وأمر العباس أن يأخذ منه ، فأخذ ما قدر على حمله ، وكان يقول : هذا خير مما أخذ مني ، وأنا أرجو المغفرة . واختلف المفسرون في أن الآية نازلة في العباس خاصة ، أو في جملة الأسارى . قال قوم : إنها في العباس خاصة ، وقال آخرون : إنها نزلت في الكل ، وهذا أولى ، لأن ظاهر الآية يقتضي العموم من ستة أوجه : أحدها : قوله : { قُل لّمَن فِى أَيْدِيكُم } وثانيها : قوله : { مّنَ ٱلاْسْرَىٰ } وثالثها : قوله : { فِي قُلُوبِكُمْ } ورابعها : قوله : { يُؤْتِكُمْ خَيْراً } وخامسها : قوله : { مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ } وسادسها : قوله : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } فلما دلت هذه الألفاظ الستة على العموم ، فما الموجب للتخصيص ؟ أقصى ما في الباب أن يقال : سبب نزول الآية هو العباس ، إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . أما قوله : { إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } ففيه مسألتان : المسألة الأولى : يجب أن يكون المراد من هذا الخير : الإيمان والعزم على طاعة الله وطاعة رسوله في جميع التكاليف ، والتوبة عن الكفر وعن جميع المعاصي ، ويدخل فيه العزم على نصرة الرسول ، والتوبة عن محاربته . المسألة الثانية : احتج هشام بن الحكم على قوله : إنه تعالى لا يعلم الشيء إلا عند حدوثه بهذه الآية ، لأن قوله : { إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } فعل كذا وكذا شرط وجزاء ، والشرط هو حصول هذا العلم ، والشرط والجزاء لا يصح وجودهما إلا في المستقبل ، وذلك يوجب حدوث علم الله تعالى . والجواب : أن ظاهر اللفظ وإن كان يقتضي ما ذكره هشام ، إلا أنه لما دل الدليل على أن علم الله يمتنع أن يكون محدثاً وجب أن يقال : ذكر العلم وأراد به المعلوم من حيث إنه يدل حصول العلم على حصول المعلوم . أما قوله : { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ففيه مسألتان : المسألة الأولى : قال صاحب « الكشاف » : قرأ الحسن { مّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ } على البناء للفاعل . المسألة الثانية : للمفسرين في هذا الخير أقوال : القول الأول : المراد : الخلف مما أخذ منهم في الدنيا . قال القاضي : لأنه تعالى عطف عليه أمر الآخرة بقوله : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } فما تقدم يجب أن يكون المراد منه منافع الدنيا . ولقائل أن يقول : إن قوله : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } المراد منه إزالة العقاب ، وعلى هذا التقدير : لم يبعد أن يكون المراد من هذا الخير المذكور أيضاً الثواب والتفضل في الآخرة . والقول الثاني : المراد من هذا الخير ثواب الآخرة ، فإن قوله : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } المراد منه في الآخرة ، فالخير الذي تقدمه يجب أيضاً أن يكون في الدنيا . والقول الثالث : أنه محمول على الكل . فإن قيل : إذا حملتم الخير على خيرات الدنيا ، فهل تقولون إن كل من أخلص من الأسارى قد آتاه الله خيراً مما أخذ منه ؟ قلنا : هكذا يجب أن يكون بحكم الآية ، إلا أنا لا نعلم من المخلص بقلبه . حتى يتوجه علينا فيه السؤال ، ولا نعلم أيضاً من الذي آتاه الله علماً ، وقد علمنا أن قليل الدنيا مع الإيمان أعظم من كثير الدنيا مع الكفر . ثم قال : { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وهو تأكيد لما مضى ذكره من قوله : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } والمعنى : كيف لا يفي بوعده المغفرة وأنه غفور رحيم ؟ أما قوله : { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ } ففيه مسائل : المسألة الأولى : في تفسير هذه الخيانة وجوه : الأول : أن المراد منه الخيانة في الدين وهو الكفر ، يعني إن كفروا بك فقد خانوا الله من قبل . الثاني : أن المراد من الخيانة منع ما ضمنوا من الفداء . الثالث : روي أنه عليه السلام لما أطلقهم من الأسر عهد معهم أن لا يعودوا إلى محاربته وإلى معاهدة المشركين ، وهذا هو العادة فيمن يطلق من الحبس والأسر ، فقال تعالى : { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ } أي نكث هذا العهد فقد خانوا الله من قبل ، والمراد أنهم كانوا يقولون { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ } [ يونس : 22 ] { وَلَئِنِ صَـٰلِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ } [ الأعراف : 189 ] ثم إذا وصلوا إلى النعمة وتخلصوا من البلية نكثوا العهد ونقضوا الميثاق ، ولا يمنع دخول الكل فيه ، وإن كان الأظهر هو هذا الأخير . ثم قال تعالى : { فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } قال الأزهري : يقال أمكنني الأمر يمكنني فهو ممكن ومفعول الإمكان محذوف ، والمعنى : فأمكن المؤمنين منهم ، والمعنى أنهم خانوا الله بما أقدموا عليه من محاربة الرسول يوم بدر فأمكن الله منهم قتلاً وأسراً ، وذلك نهاية الإمكان والطفر . فنبه الله بذلك على أنهم قد ذاقوا وبال ما فعلوه ثم ، فإن عادوا كان التمكين منهم ثابتاً حاصلاً ، وفيه بشارة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يتمكن من كل من يخونه وينقض عهده . ثم قال : { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } أي ببواطنهم وضمائرهم { حَكِيمٌ } يجازيهم بأعمالهم .