Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 80, Ayat: 21-42)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

واعلم أن هذه المرتبة الثالثة مشتملة أيضاً على ثلاث مراتب ، الإماتة ، والإقبار ، والإنشار ، أما الإماتة فقد ذكرنا منافعها في هذا الكتاب ، ولا شك أنها هي الواسطة بين حال التكليف والمجازاة ، وأما الإقبار فقال الفراء : جعله الله مقبوراً ولم يجعله ممن يلقى للطير والسباع ، لأن القبر مما أكرم به المسلم قال : ولم يقل فقبره ، لأن القابر هو الدافن بيده . والمقبر هو الله تعالى ، يقال قبر الميت إذا دفنه وأقبر الميت ، إذا أمر غيره بأن يجعله في القبر ، والعرب تقول : بترت ذنب البعير ، والله أبتره وعضبت قرن الثور ، والله أعضبه ، وطردت فلاناً عني ، والله أطرده . أي صيره طريداً ، وقوله تعالى : { ثم إذا شاء أنشره } المراد منه الإحياء و البعث ، وإنما قال : إذا شاء إشعاراً بأن وقته غير معلوم لنا ، فتقديمه وتأخيره موكول إلى مشيئة الله تعالى ، وأما سائر الأحوال المذكورة قبل ذلك فإنه يعلم أوقاتها من بعض الوجوه ، إذا الموت وإن لم يعلم الإنسان وقته ففي الجملة يعلم أنه لا يتجاوز فيه إلا حداً معلوماً . { كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ } . واعلم أن قوله : { كلا } ردع للإنسان عن تكبره وترفعه ، أو عن كفره وإصراره على إنكار التوحيد ، وعلى إنكاره البعث والحشر والنشر ، وفي قوله : { لما يقض ما أمره } وجوه أحدها : قال مجاهد لا يقضي أحد جميع ما كان مفروضاً عليه أبداً ، وهو إشارة إلى أن الإنسان لا ينفك عن تقصير ألبتة ، وهذا التفسير عندي فيه نظر ، لأن قوله : { لما يقض } الضمير فيه عائد إلى المذكور السابق ، وهو الإنسان في قوله : { قتل الإنسان ما أكفره } [ عبس : 17 ] وليس المراد من الإنسان ههنا جميع الناس بل الإنسان الكافر فقوله : { لما يقض } كيف يمكن حمله على جميع الناس وثانيها : أن يكون المعنى أن الإنسان المترفع المتكبر لم يقض ما أمر به من ترك التكبر ، إذ المعنى أن ذلك الإنسان الكافر لما يقض ما أمر به من التأمل في دلائل الله ، والتدبر في عجائب خلقه وبينات حكمته وثالثها : قال الأستاذ أبو بكر بن فورك : كلا لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان وترك التكبر بل أمره بما لم يقض له به . واعلم أن عادة الله تعالى جارية في القرآن بأنه كلما ذكر الدلائل الموجودة في الأنفس ، فإنه يذكر عقيبها الدلائل الموجودة في الآفاق فجرى ههنا على تلك العادة وذكر دلائل الآفاق وبدأ بما يحتاج الإنسان إليه . فقال : { فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ } . الذي يعيش به كيف دبرنا أمره ، ولا شك أنه موضع الاعتبار ، فإن الطعام الذي يتناول الإنسان له حالتان إحداهما : متقدمة وهي الأمور التي لا بد من وجودها حتى يدخل ذلك الطعام في الوجود والثانية : متأخرة ، وهي الأمور التي لا بد منها في بدن الإنسان حتى يحصل له الانتفاع بذلك الطعام المأكول ، ولما كان النوع الأول أظهر للحسن وأبعد عن الشبهة ، لا جرم اكتفى الله تعالى بذكره ، لأن دلائل القرآن لا بد وأن تكون بحيث ينتفع بها كل الخلق ، فلا بد وأن تكون أبعد عن اللبس والشبهة ، وهذا هو المراد من قوله : { فلينظر الإنسان إلى طعامه } واعلم أن النبت إنما يحصل من القطر النازل من السماء الواقع في الأرض ، فالسماء كالذكر ، والأرض كالأنثى فذكر في بيان نزل القطر . قوله : { أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبًّا } . وفيه مسألتان : المسألة الأولى : قوله { صببنا } المراد منه الغيث ، ثم انظر في أنه كيف حدث المشتمل على هذه المياه العظيمة ، وكيف بقي معلقاً في جو السماء مع غاية ثقله ، وتأمل في أسبابه القريبة والبعيدة ، حتى يلوح لك شيء من آثار نور الله وعدله وحكمته ، وفي تدبير خلقة هذا العالم . المسألة الثانية : قرىء إنا بالكسر ، وهو على الاستئناف ، وأنا بالفتح على البدل من الطعام والتقدير فلينظر الإنسان إلى أن كيف صببنا الماء قال أبو علي الفارسي : من قرأ بكسر إنا كان ذلك تفسيراً للنظر إلى طعامه كما أن قوله : { لهم مغفرة } [ الأنفال : 74 ] تفسير للوعد ، ومن فتح فعلى معنى البدل بدل الاشتمال ، لأن هذه الأشياء تشتمل على كون الطعام وحدوثه ، فهو كقوله : { يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه } [ البقرة : 217 ] وقوله : { قتل أصحاب الأخدود * النار } [ البروج : 4 ، 5 ] . قوله تعالى : { ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا } . والمراد شق الأرض بالنبات ، ثم ذكر تعالى ثمانية أنواع من النبات : أولها : الحب : وهو المشار إليه بقوله : { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا } . وهو كل ما حصد من نحو الحنطة وغيرهما ، وإنما قدم ذلك لأن كالأصل في الأغذية . { وَعِنَبًا وَقَضْبًا } . وثانيها : قوله تعالى : { وعنباً } وإنما ذكره بعد الحب لأنه غذاء من وجه وفاكهة من وجه . وثالثها : قوله تعالى : { وقضباً } وفيه قولان : الأول : أنه الرطبة وهي التي إذا يبست سميت بالقت ، وأهل مكة يسمونها بالقضب وأصله من القطع ، وذلك لأنه يقضب مرة بعد أخرى ، وكذلك القضيب لأنه يقضب أي يقطع . وهذا قول ابن عباس والضحاك ومقاتل واختيار الفراء وأبي عبيدة والأصمعي . والثاني : قال المبرد : القضب هو العلف بعينه ، وأصله من أنه يقضب أي يقطع وهو قول الحسن . والرابع والخامس : قوله تعالى : { وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً } ومنافعهما قد تقدمت في هذا الكتاب . وسادسها : قوله تعالى : { وَحَدَآئِقَ غُلْبًا } الأصل في الوصف بالغلب الرقاب فالغلب الغلاظ الأعناق الواحد أغلب يقال أسد أغلب ، ثم ههنا قولان : الأول : أن يكون المراد وصف كل حديقة بأن أشجارها متكاثفة متقاربة ، وهذا قول مجاهد ومقاتل قالا : الغلب الملتفة الشجر بعضه في بعض ، يقال اغلوب العشب واغلولبت الأرض إذا التف عشبها . والثاني : أن يكون المراد وصف كل واحد من الأشجار بالغلظ والعظم ، قال عطاء عن ابن عباس : يريد الشجر العظام ، وقال الفراء : الغلب ما غلظ من النخل . { وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } . { مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } . وسابعها : قوله : { وفاكهة } وقد استدل بعضهم بأن الله تعالى لما ذكر الفاكهة معطوفة على العنب والزيتون والنخل وجب أن لا تدخل هذه الأشياء في الفاكهة ، وهذا قريب من جهة ، الظاهرة ، لأن المعطوف مغاير للمعطوف عليه . وثامنها : قوله تعالى : { وأباً } والأب هو المرعى ، قال صاحب « الكشاف » : لأنه يؤب أي يؤم وينتجع ، والأب والأم أخوان قال الشاعر : @ جذمنا قيس ونجد دارنا لنا الأب به والمكرع @@ وقيل الأب الفاكهة اليابسة لأنها تؤدب للشتاء أي تعد ، ولما ذكر الله تعالى ما يغتذى به الناس والحيوان . قال : { متاعاً لكم ولأنعامكم } . قال الفراء : خلقناه منفعة ومتعة لكم ولأنعامكم ، وقال الزجاج : هو منصوب لأنه مصدر مؤكد لقوله : { فأنبتنا } لأن إنباته هذه الأشياء إمتاع لجميع الحيوان . واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الأشياء وكان المقصود منها أموراً ثلاثة : أولها : الدلائل الدالة على التوحيد وثانيها : الدلائل الدالة على القدرة على المعاد وثالثها : أن هذا الإله الذي أحسن إلى عبيده بهذه الأنواع العظيمة من الإحسان ، لا يليق بالعاقل أن يتمرد عن طاعته وأن يتكبر على عبيده أتبع هذه الجملة بما يكون مؤكداً لهذه الأغراض وهو شرح أهوال القيامة ، فإن الإنسان إذا سمعها خاف فيدعوه ذلك الخوف إلى التأمل في الدلائل والإيمان بها والإعراض عن الكفر ، ويدعوه ذلك أيضاً إلى ترك التكبر على الناس ، وإلى إظهار التواضع إلى كل أحد ، فلا جرم ذكر القيامة : فقال : { فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ } . قال المفسرون يعني صيحة القيامة وهي النفخة الأخيرة ، قال الزجاج : أصل الصخ في اللغة الطعن والصك ، يقال صخ رأسه بحجر أي شدخه والغراب يصخ بمنقاره في دبر البعير أي يطعن ، فمعنى الصاخة الصاكة بشدة صوتها للآذان ، وذكر صاحب « الكشاف » وجهاً آخر فقال : يقال صخ لحديثه مثل أصاخ له ، فوصفت النفخة بالصاخة مجازاً لأن الناس يصخون لها أي يستمعون . ثم إنه تعالى وصف هول ذلك اليوم بقوله تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ } . { وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } . { وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ } . وفيه مسألتان : المسألة الأولى : يحتمل أن يكون المراد من الفرار ما يشعر به ظاهره وهو التباعد والاحتراز والسبب في ذلك الفرار الاحتراز عن المطالبة بالتبعات . يقول الأخ : ما واسيتني بمالك ، والأبوان يقولان قصرت في برنا ، والصاحبة تقول أطعمتني الحرام ، وفعلت وصنعت ، والبنون يقولون : ما علمتنا وما أرشدتنا ، وقيل : أول من يفر من أخيه هابيل ، ومن أبويه إبراهيم ، ومن صاحبته نوح ولوط ، ومن ابنه نوح ، ويحتمل أن يكون المراد من الفرار ليس هو التباعد ، بل المعنى أنه يوم يفر المرء من موالاة أخيه لاهتمامه بشأنه ، وهو كقوله تعالى : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } [ البقرة : 166 ] وأما الفرار من نصرته ، وهو كقوله تعالى : { يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً } [ الدخان : 41 ] وأما ترك السؤال وهو كقوله تعالى : { ولا يسأل حميم حميماً } [ المعارج : 10 ] . المسألة الثانية : المراد أن الذين كان المرء في دار الدنيا يفر إليهم ويستجير بهم ، فإنه يفر منهم في دار الآخرة ، ذكروا في فائدة الترتيب كأنه قيل : { يوم يفر المرء من أخيه } بل من أبويه فإنهما أقرب من الأخوين بل من الصاحبة والولد ، لأن تعلق القلب بهما أشد من تعلقه بالأبوين . ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الفرار أتبعه بذكر سببه فقال تعالى : { لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأَنٌ يُغْنِيهِ } . وفي قوله : { يغنيه } وجهان الأول : قال ابن قتيبة : يغنيه أي يصرفه ويصده عن قرابته وأنشد : @ سيغنيك حرب بني مالك عن الفحش والجهل في المحفل @@ أي سيشغلك ، ويقال أغن عني وجهك أي أصرفه الثاني : قال أهل المعاني : يغنيه أي ذلك الهم الذي بسبب خاصة نفسه قد ملأ صدره ، فلم يبق فيه متسع لهم آخر ، فصارت شبيهاً بالغنى في أنه حصل عنده من ذلك المملوك شيء كثير . واعلم أنه تعالى لما ذكر حال يوم القيامة في الهول ، بين أن المكلفين فيه على قسمين منهم السعداء ، ومنهم الأشقياء فوصف السعداء بقوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ } . { ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } . مسفرة مضيئة متهللة ، من أسفر الصبح إذا أضاء ، وعن ابن عباس من قيام الليل لما روى من كثرت صلاته بالليل ، حسن وجهه بالنهار ، وعن الضحاك ، من آثار الوضوء ، وقيل : من طول ما أغبرت في سبيل الله ، وعندي أنه بسبب الخلاص من علائق الدنيا والاتصال بعالم القدس ومنازل الرضوان والرحمة ضاحكة ، قال الكلبي : يعني بالفراغ من الحساب مستبشرة فرحة بما نالت من كرامة الله ورضاه ، واعلم أن قوله : مسفرة إشارة إلى الخلاص عن هذا العالم وتبعاته وأما الضاحكة والمستبشرة ، فهما محمولتان على القوة النظرية والعملية ، أو على وجدان المنفعة ووجدان التعظيم . { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } . { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } . { أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ } . قال المبرد : الغبرة ما يصيب الإنسان من الغبار ، وقوله : { ترهقها } أي تدركها عن قرب ، كقولك رهقت الجبل إذا لحقته بسرعة ، والرهق عجلة الهلاك ، والقترة سواد كالدخان ، ولا يرى أوحش من اجتماع الغبرة والسواد في الوجه ، كما ترى وجوه الزنوج إذا أغبرت ، وكأن الله تعالى جمع في وجوههم بين السواد والغبرة ، كما جمعوا بين الكفر والفجور ، والله أعلم . واعلم أن المرئجة والخوارج تمسكوا بهذه الآية ، أما المرجئة فقالوا : إن هذه الآية دلت على أن أهل القيامة قسمان : أهل الثواب ، وأهل العقاب ، ودلت على أن أهل العقاب هم الكفرة ، وثبت بالدليل أن الفساق من أهل الصلاة ليسوا بكفرة ، وإذا لم يكونوا من الكفرة كانوا من أهل الثواب ، وذلك يدل على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس له عقاب ، وأما الخوارج فإنهم قالوا : دلت سائر الدلائل على أن صاحب الكبيرة يعاقب ، ودلت هذه الآية على أن كل من يعاقب فإنه كافر ، فيلزم أن كل مذنب فإنه كافر والجواب : أكثر ما في الباب أن المذكور ههنا هو هذا الفريقان ، وذلك لا يقتضي نفي الفريق الثالث ، والله أعلم والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين .