Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 86, Ayat: 11-17)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما فرغ من دليل التوحيد ، والمعاد أقسم قسماً آخر ، أما قوله : { وَٱلسَّمَاء ذَاتِ ٱلرَّجْعِ } فنقول : قال الزجاج الرجع المطر لأنه يجيء ويتكرر . واعلم أن كلام الزجاج وسائر أئمة اللغة صريح في أن الرجع ليس اسماً موضوعاً للمطر بل سمي رجعاً على سبيل المجاز ، ولحسن هذا المجاز وجوه أحدها : قال القفال : كأنه من ترجيع الصوت وهو إعادته ووصل الحروف به ، فكذا المطر لكونه عائداً مرة بعد أخرى سمي رجعاً وثانيها : أن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض وثالثها : أنهم أرادوا التفاؤل فسموه رجعاً ليرجع ورابعها : أن المطر يرجع في كل عام ، إذا عرفت هذا فنقول للمفسرين أقوال : أحدها : قال ابن عباس : { وَٱلسَّمَاء ذَاتِ ٱلرَّجْعِ } أي ذات المطر يرجع لمطر بعد مطر وثانيها : رجع السماء إعطاء الخير الذي يكون من جهتها حالاً بعد حال على مرور الأزمان ترجعه رجعاً ، أي تعطيه مرة بعد مرة وثالثها : قال ابن زيد : هو أنها ترد وترجع شمسها وقمرها بعد مغيبهما ، والقول هو الأول ، أما قوله تعالى : { وَٱلأَرْضِ ذَاتِ ٱلصَّدْعِ } فاعلم أن الصدع هو الشق ومنه قوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] أي يتفرقون وللمفسرين أقوال قال ابن عباس : تنشق عن النبات والأشجار ، وقال مجاهد : هو الجبلان بينهما شق وطريق نافذ . كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً } [ الأنبياء : 31 ] وقال الليث : الصدع نبات الأرض ، لأنه يصدع الأرض فتنصدع به ، وعلى هذا سمي النبات صدعاً لأنه صادع للأرض ، واعلم أنه سبحانه كما جعل ، كيفية خلقة الحيوان دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد ، ذكر في هذا القسم كيفية خلقة النبات ، فالسماء ذات الرجع كالأب ، والأرض ذات الصدع كالأم وكلاهما من النعم العظام لأن نعم الدنيا موقوفة على ما ينزل من السماء من المطر متكرراً ، وعلى ما ينبت من الأرض كذلك ، ثم إنه تعالى أردف هذا القسم بالمقسم عليه فقال : { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : في هذا الضمير قولان : الأول : ما قال القفال وهو : أن المعنى أن ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم في اليوم الذي تبلى فيه سرائركم قول فصل وحق . والثاني : أنه عائد إلى القرآن أي القرآن فاصل بين الحق والباطل كما قيل : له فرقان ، والأول أولى لأن عود الضمير إلى المذكور السالف أولى . المسألة الثانية : { قَوْلَ فَصْلٌ } أي حكم ينفصل به الحق عن الباطل ، ومنه فصل الخصومات وهو قطعها بالحكم ، ويقال : هذا فصل أي قاطع للمراء والنزاع ، وقال بعض المفسرين : معناه أنه جد حق لقوله : { وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ } أي باللعب ، والمعنى أن القرآن أنزل بالجد ، ولم ينزل باللعب ، ثم قال : { وَمَا هوَ بِٱلْهَزْلِ } والمعنى أن البيان الفصل قد يذكر على سبيل الجد والاهتمام بشأنه وقد يكون على غير سبيل الجد وهذا الموضع من ذلك ، ثم قال : { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً } وذلك الكيد على وجوه . منها بإلقاء الشبهات كقولهم : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا } [ الأنعام : 29 ] { مَن يُحىِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ } [ يۤس : 78 ] { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وٰحِداً } [ ص : 5 ] { لَوْلاَ نُزّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانُ عَلَىٰ رَجُلٍ مّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] { فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] ومنها بالطعن فيه بكونه ساحراً وشاعراً ومجنوناً ، ومنها بقصد قتله على ما قاله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ } [ الأنفال : 30 ] ثم قال : { وَأَكِيدُ كَيْداً } . واعلم أن الكيد في حق الله تعالى محمول على وجوه : أحدها : دفعه تعالى كيد الكفرة عن محمد عليه الصلاة والسلام ويقابل ذلك الكيد بنصرته وإعلاء دينه تسمية لأحد المتقابلين باسم كقوله تعالى : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] وقال الشاعر : @ ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا @@ وكقوله تعالى : { نَسُواْ ٱللَّهَ فَأَنسَـٰهُمْ أَنفُسَهُمْ } [ الحشر : 19 ] { يُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] وثانيها : أن كيده تعالى بهم هو إمهاله إياهم على كفرهم حتى يأخذهم على غرة ، ثم قال : { فَمَهّلِ ٱلْكَـٰفِرِينَ } أي لا تدع بهلاكهم ولا تستعجل ، ثم إنه تعالى لما أمره بإمهالهم بين أن ذلك الإمهال المأمور به قليل ، فقال : { أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } فكرر وخالف بين اللفظين لزيادة التسكين من الرسول عليه الصلاة والسلام والتصبر وههنا مسائل : المسألة الأولى : قال أبو عبيدة : إن تكبير رويد رود ، وأنشد : @ يمشي ولا تكلم البطحاء مشيته كأنه ثمل يمشي على ورد @@ أي على مهلة ورفق وتؤدة ، وذكر أبو علي في باب أسماء الأفعال رويداً زيداً يريد أرود زيداً ، ومعناه أمهله وارفق به ، قال النحويون : رويد في كلام العرب على ثلاثة أوجه أحدها : أن يكون اسماً للأمر كقولك : رويد زيداً تريد أرود زيد أي خله ودعه وأرفق به ولا تنصرف رويد في هذا الوجه لأنها غير متمكنة والثاني : أن يكون بمنزلة سائر المصادر فيضاف إلى ما بعده كما تضاف المصادر تقول : رويد زيد ، كما تقول : ضرب زيد قال تعالى : { فَضَرْبَ ٱلرّقَابِ } [ محمد : 4 ] ، والثالث : أن يكون نعتاً منصوباً كقولك : ساروا سيراً رويداً ، ويقولون أيضاً : ساروا رويداً ، يحذفون المنعوت ويقيمون رويداً مقامه كما يفعلون بسائر النعوت المتمكنة ، ومن ذلك قول العرب : ضعه رويداً أي وضعاً رويداً ، وتقول للرجل : يعالج الشيء الشيء رويداً ، أي علاجاً رويداً ، ويجوز في هذا الوجه أمران أحدهما : أن يكون رويداً حالاً والثاني : أن يكون نعتاً فإن أظهرت المنعوت لم يجز أن يكون للحال ، والذي في الآية هو ما ذكرنا في الوجه الثالث ، لأنه يجوز أن يكون نعتاً للمصدر كأنه قيل : إمهالاً رويداً ، ويجوز أن يكون للحال أي أمهلهم غير مستعجل . المسألة الثانية : منهم من قال : أمهلهم رويداً إلى يوم القيامة وإنما صغر ذلك من حيث علم أن كل ما هو آت قريب ، ومنهم من قال : أمهلهم رويداً إلى يوم بدر والأول أولى ، لأن الذي جرى يوم بدر وفي سائر الغزوات لا يعم الكل ، وإذا حمل على أمر الآخرة عم الكل ، ولا يمتنع مع ذلك أن يدخل في جملته أمر الدنيا ، مما نالهم يوم بدر وغيره ، وكل ذلك زجر وتحذير للقوم ، وكما أنه تحذير لهم فهو ترغيب في خلاف طريقهم في الطاعات ، والله سبحانه وتعالى أعلم . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .