Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 89, Ayat: 27-28)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
اعلم أنه تعالى لما وصف حال من اطمأن إلى الدنيا ، وصف حال من أطمأن إلى معرفته وعبوديته ، فقال : { يا أيتها النفس } وفيه مسائل : المسألة الأولى : تقدير هذا الكلام . يقول الله للمؤمن : { يا أيتها النفس } فإما أن يكلمه إكراماً له كما كلم موسى عليه السلام أو على لسان ملك ، وقال القفال : هذا وإن كان أمراً في الظاهر لكنه خبر في المعنى ، والتقدير أن النفس إذا كانت مطمئنة رجعت إلى الله ، وقال الله لها : { فَٱدْخُلِى فِى عِبَادِى * وَٱدْخُلِى جَنَّتِى } [ الفجر : 3029 ] قال : ومجيء الأمر بمعنى الخبر كثير في كلامهم ، كقولهم : إذا لم تستح فاصنع ما شئت . المسألة الثانية : الاطمئنان هو الاستقرار والثبات ، وفي كيفية هذا الاستقرار وجوه أحدها : أن تكون متيقنة بالحق ، فلا يخالجها شك ، وهو المراد من قوله : { وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى } [ البقرة : 260 ] وثانيها : النفس الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن ، ويشهد لهذا التفسير قراءة أبي بن كعب يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة ، وهذه الخاصة قد تحصل عند الموت عند سماع قوله : { أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ } [ فصلت : 30 ] وتحصل عند البعث ، وعند دخول الجنة لا محالة وثالثها : وهو تأويل مطابق للحقائق العقلية ، فنقول : القرآن والبرهان تطابقا على أن هذا الاطمئنان لا يحصل إلا بذكر الله ، أما القرآن فقوله : { أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [ الرعد : 28 ] وأما البرهان فمن وجهين الأول : أن القوة العاقلة إذا أخذت تترقى في سلسلة الأسباب والمسببات ، فكلما وصل إلى سبب يكون هو ممكناً لذاته طلب العقل له سبباً آخر ، فلم يقف العقل عنده ، بل لا يزال ينتقل من كل شيء إلى ما هو أعلى منه ، حتى ينتهي في ذلك الترقي إلى واجب الوجود لذاته مقطع الحاجات . ومنتهى الضرورات ، فلما وقفت الحاجة دونه وقف العقل عنده واطمأن إليه ، ولم ينتقل عنه إلى غيره ، فإذاً كلما كانت القوة العاقلة ناظرة إلى شيء من الممكنات ملتفة إليه استحال أن تستقر عنده ، وإذا نظرت إلى جلال واجب الوجود ، وعرفت أن الكل منه استحال أن تنتقل عنه ، فثبت أن الاطمئنان لا يحصل إلا بذكر واجب الوجود الثاني : أن حاجات العبد غير متناهية وكل ما سوى الله تعالى فهو متناهي البقاء والقوة إلا بامداد الله ، وغير المتناهي لا يصير مجبوراً بالمتناهي ، فلا بد في مقابلة حاجة العبد التي لا نهاية لها من كمال الله الذي لا نهاية له ، حتى يحصل الاستقرار ، فثبت أن كل من آثر معرفة الله لا لشيء غير الله فهو غير مطمئن ، وليست نفسه نفساً مطمئنة ، أما من آثر معرفة الله لشيء سواه فنفسه هي النفس المطمئنة ، وكل من كان كذلك كان أنسه بالله وشوقه إلى الله وبقاؤه بالله وكلامه مع الله ، فلا جرم يخاطب عند مفارقته الدنيا بقوله : { ٱرْجِعِى إِلَىٰ رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } وهذا كلام لا ينتفع الإنسان به إلا إذا كان كاملاً في القوة الفكرية الإلهية أو في التجريد والتفريد . المسألة الثالثة : اعلم أن الله تعالى ذكر مطلق النفس في القرآن فقال : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } [ الشمس : 7 ] وقال : { تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } [ المائدة : 116 ] وقال : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] وتارة وصفها بكونها أمارة بالسوء ، فقال : { إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوء } [ يوسف : 53 ] وتارة بكونها لوامة ، فقال : { بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ } [ القيامة : 2 ] وتارة بكونها مطمئنة كما في هذه الآية . واعلم أن نفس ذاتك وحقيقتك وهي التي تشير إليها بقولك : أنا حين تخبر عن نفسك بقولك فعلت ورأيت وسمعت وغضبت واشتهيت وتخيلت وتذكرت ، إلا أن المشار إليه بهذه الإشارة ليس هو هذه البنية لوجهين الأول : أن المشار إليه بقولك : أنا قد يكون معلوماً حال ما تكون هذه البنية المخصوصة غير معلومة ، والمعلوم غير ما هو غير معلوم والثاني : أن هذه البنية متبدلة الأجزاء والمشار إليه بقولك : أنا غير متبدل ، فإني أعلم بالضرورة أني أنا الذي كنت موجوداً قبل هذا اليوم بعشرين سنة ، والمتبدل غير ما هو غير متبدل ، فإذاً ليست النفس عبارة عن هذه البنية ، وتقول : قال قوم إن النفس ليست بجسم لأنا قد نعقل المشار إليه بقوله : أنا حال ما أكون غافلاً عن الجسم الذي حقيقته المختص بالحيز الذاهب في الطول والعرض والعمق . والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم ، وجواب المعارضة بالنفس مذكور في كتابنا المسمى بلباب الإشارات ، وقال آخرون : بل هو جوهر جسماني لطيف صاف بعيد عن مشابهة الأجرام العنصرية نوراني سماوي مخالف بالماهية لهذه الأجسام السفلية ، فإذا صارت مشابكة لهذا البدن الكثيف صار البدن حياً وإن فارقته صار البدن ميتاً ، وعلى التقدير الأول يكون وصفها بالمجيء والرجوع بمعنى التدبير وتركه ، وعلى التقدير الثاني يكون ذلك الوصف حقيقاً . المسألة الرابعة : من القدماء من زعم أن النفوس أزلية ، واحتجوا بهذه الآية وهي قوله : { ٱرْجِعِى إِلَىٰ رَبّكِ } فإن هذا إنما يقال : لما كان موجوداً قبل هذا البدن . واعلم أن هذا الكلام يتفرع على أن هذا الخطاب متى يوجد ؟ وفيه وجهان الأول : أنه إنما يوجد عند الموت ، وههنا تقوى حجة القائلين بتقدم الأرواح على الأجساد ، إلا أنه لا يلزم من تقدمها عليها قدمها الثاني : أنه إنما يوجد عند البعث والقيامة ، والمعنى : ارجعي إلى ثواب ربك ، فادخلي في عبادي ، أي ادخلي في الجسد الذي خرجت منه . المسألة الخامسة : المجسمة تمسكوا بقوله : { إِلَىٰ رَبّكَ } وكلمة إلى لانتهاء الغاية وجوابه : إلى حكم ربك ، أو إلى ثواب ربك أو إلى إحسان ربك والجواب : الحقيقي المفرع على القاعدة العقلية التي قررناها ، أن القوة العقلية بسيرها العقلي تترقى من موجود إلى موجود آخر ، ومن سبب إلى سبب حتى تنتهي إلى حضرة واجب الوجود ، فهناك انتهاء الغايات وانقطاع الحركات ، أما قوله تعالى : { رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } فالمعنى راضية بالثواب مرضية عنك في الأعمال التي عملتها في الدنيا ، ويدل على صحة هذا التفسير ، ما روى أن رجلاً قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات ، فقال أبو بكر : ما أحسن هذا ! فقال عليه الصلاة والسلام : " " أما إن الملك سيقولها لك " " ثم قوله تعالى :