Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 89, Ayat: 6-14)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

واعلم أن في جواب القسم وجهين الأول : أن جواب القسم هو قوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } وما بين الموضعين معترض بينهما الثاني : قال صاحب « الكشاف » : المقسم عليه محذوف وهو لنعذبن الكافرين ، يدل عليه قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ } إلى قوله { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } وهذا أولى من الوجه الأول لأنه لما لم يتعين المقسم عليه ذهب الوهم إلى كل مذهب ، فكان أدخل في التخويف ، فلما جاء بعده بيان عذاب الكافرين دل على أن المقسم عليه أولاً هو ذلك . أما قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ } ففيه مسألتان : المسألة الأولى : ألم تر ، ألم تعلم لأن ذلك مما لا يصح أن يراه الرسول وإنما أطلق لفظ الرؤية ههنا على العلم ، وذلك لأن أخبار عاد وثمود وفرعون كانت منقولة بالتواتر ! أما عاد وثمود فقد كانا في بلاد العرب وأما فرعون فقد كانوا يسمعونه من أهل الكتاب ، وبلاد فرعون أيضاً متصلة بأرض العرب وخبر التواتر يفيد العلم الضروري ، والعلم الضروري جار مجرى الرؤية في القوة والجلاء والبعد عن الشبهة ، فلذلك قال : { أَلَمْ تَرَ } بمعنى ألم تعلم . المسألة الثانية : قوله : { أَلَمْ تَرَ } وإن كان في الظاهر خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم لكنه عام لكل من علم ذلك . والمقصود من ذكر الله تعالى حكايتهم أن يكون زجراً للكفار عن الإقامة على مثل ما أدى إلى هلاك عاد وثمود وفرعون وقومه ، وليكون بعثاً للمؤمنين على الثبات على الإيمان . أما قوله تعالى : { بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } ففيه مسائل : المسألة الأولى : أنه تعالى ذكر ههنا قصة ثلاث فرق من الكفار المتقدمين وهي عاد وثمود وقوم فرعون على سبيل الإجمال حيث قال : { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } ولم يبين كيفية ذلك العذاب ، وذكر في سورة الحاقة بيان ما أبهم في هذه السورة فقال : { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِٱلطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ } [ الحاقة : 5 - 6 ] إلى قوله { وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَٱلْمُؤْتَفِكَـٰتُ بِالْخَاطِئَةِ } [ الحاقة : 9 - 9 ] الآية . المسألة الثانية : عاد هو عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح ، ثم إنهم جعلوا لفظة عاد اسماً للقبيلة كما يقال لبني هاشم هاشم ولبني تميم تميم ، ثم قالوا للمتقدمين من هذه القبيلة عاد الأولى قال تعالى : { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ } [ النجم : 50 ] وللمتأخرين عاد الأخيرة ، وأما إرم فهو اسم لجد عاد ، وفي المراد منه في هذه الآية أقوال : أحدها : أن المتقدمين من قبيلة عاد كانوا يسمون بعاد الأولى فلذلك يسمون بإرم تسمية لهم باسم جدهم والثاني : أن إرم اسم لبلدتهم التي كانوا فيها ثم قبل تلك المدينة هي الإسكندرية وقيل دمشق والثالث : أن إرم أعلام قوم عاد كانوا يبنونها على هيئة المنارة وعلى هيئة القبور ، قال أبو الدقيش : الأروم قبور عاد ، وأنشد : @ بها أروم كهـوادي البخــث @@ ومن الناس من طعن في قول من قال : إن إرم هي الإسكندرية أو دمشق ، قال : لأن منازل عاد كانت بين عمان إلى حضرموت وهي بلاد الرمال والأحقاف ، كما قال : { وَٱذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِٱلأَحْقَافِ } [ الأحقاق : 21 ] وأما الإسكندرية ودمشق فليستا من بلاد الرمال . المسألة الثالثة : إرم لا تنصرف قبيلة كانت أو أرضاً للتعريف والتأنيث . المسألة الرابعة : في قوله : { إِرَمَ } وجهان وذلك لأنا إن جعلناه اسم القبيلة كان قوله : { إِرَمَ } عطف بيان لعاد وإيذاناً بأنهم عاد الأولى القديمة وإن جعلناه اسم البلدة أو الأعلام كان التقدير بعاد أهل إرم ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، كما في قوله : { وَٱسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] ويدل عليه قراءة ابن الزبير بعاد إرم على الإضافة . المسألة الخامسة : قرأ الحسن : { بِعَادٍ * إِرَمَ } مفتوحين وقرىء : { بِعَادٍ * إِرَمَ } بسكون الراء على التخفيف كما قرىء : { بِوَرِقِكُمْ } [ الكهف : 19 ] وقرىء : { بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } بإضافة { إِرَمَ } إلى { ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } وقرىء : { بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } بدلاً من { فعل ربك } ، والتقدير : ألم تر كيف فعل ربك بعاد جعل ذات العماد رميماً ، أما قوله : { ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } ففيه مسألتان : المسألة الأولى : في إعرابه وجهان وذلك لأنا إن جعلنا : { إِرَمَ } اسم القبيلة فالمعنى أنهم كانوا بدويين يسكنون الأخبية والخيام والخبار لا بد فيها من العماد ، والعماد بمعنى العمود . وقد يكون جمع العمد أو يكون المراد بذات العماد أنهم طوال الأجسام على تشبيه قدودهم بالأعمدة وقيل : ذات البناء الرفيع ، وإن جعلناه اسم البلد فالمعنى أنها ذات أساطين أي ذات أبنية مرفوعة على العمد وكانوا يعالجون الأعمدة فينصبونها ويبنون فوقها القصور ، قال تعالى في وصفهم : { أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءايَةً تَعْبَثُونَ } [ الشعراء : 128 ] أي علامة وبناء رفيعاً . المسألة الثانية : روي أنه كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها . فسمع بذكر الجنة فقال : ابني مثلها ، فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الأشجار والأنهار ، فلما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته ، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا ، وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوصل إلى جنة شداد فحمل ما قدر عليه مما كان هناك وبلغ خبره معاوية فاستحضره وقص عليه ، فبعث إلى كعب فسأله ، فقال : هي إرم ذات العماد ، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال ، يخرج في طلب إبل له ، ثم التفت فأبصر ابن أبي قلابة فقال : هذا والله هو ذلك الرجل . أما قوله : { ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلَـٰدِ } فالضمير في مثلها إلى ماذا يعود ؟ فيه وجوه : الأول : { لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا } أي مثل عاد في البلاد في عظم الجثة وشدة القوة ، كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع وكان يحمل الصخرة العظيمة فيلقيها على الجمع فيهلكوا الثاني : لم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا ، وقرأ ابن الزبير { لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا } أي لم يخلق الله مثلها الثالث : أن الكناية عائدة إلى العماد أي لم يخلق مثل تلك الأساطين في البلاد ، وعلى هذا فالعماد جمع عمد ، والمقصود من هذه الحكاية زجر الكفار فإنه تعالى بين أنه أهلكهم بما كفروا وكذبوا الرسل ، مع الذي اختصوا به من هذه الوجوه ، فلأن تكونوا خائفين من مثل ذلك أيها الكفار إذا أقمتم على كفركم مع ضعفكم كان أولى . أما قوله تعالى : { وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ } فقال الليث : الجواب قطعك الشيء كما يجاب الجيب يقال جاب يجوب جوباً . وزاد الفراء يجيب جيباً ويقال : جبت البلاد جوباً أي جلت فيها وقطعتها ، قال ابن عباس : كانوا يجوبون البلاد فيجعلون منها بيوتاً وأحواضاً وما أرادوا من الأبنية ، كما قال : { وَتَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً } [ الأعراف : 74 ] قيل : أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود ، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة ، وقوله : { بِٱلْوَادِ } قال مقاتل : بوادي القرى . وأما قوله تعالى : { وَفِرْعَوْنَ ذِي ٱلأَوْتَادِ } فالاستقصاء فيه مذكور في سورة ص ، ونقول : الآن فيه وجوه أحدها : أنه سمي ذا الأوتاد لكثرة جنوده ومضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا وثانيها : أنه كان يعذب الناس ويشدهم بها إلى أن يموتوا ، روى عن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد وجعل على صدرها رحا واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إلى السماء وقالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ، ففرج الله عن بيتها في الجنة فرأته وثالثها : ذي الأوتاد ، أي ذي الملك والرجال ، كما قال الشاعر : @ فـي ظـل ملـك راسـخ الأوتـاد @@ ورابعها : روى قتادة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن تلك الأوتاد كانت ملاعب يلعبون تحتها لأجله ، واعلم أن الكلام محتمل لكل ذلك ، فبين الله تعالى لرسوله أن كل ذلك مما تعظم به الشدة والقول والكثرة لم يمنع من ورود هلاك عظيم بهم ، ولذلك قال تعالى : { ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلَـٰدِ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : يحتمل أنه يرجع الضمير إلى فرعون خاصة لأنه يليه ، ويحتمل أن يرجع إلى جميع من تقدم ذكرهم ، وهذا هو الأقرب . المسألة الثانية : أحسن الوجوه في إعرابه أن يكون في محل النصب على الذم ، ويجوز أن يكون مرفوعاً على الإخبار ، أي هم الذين طغوا أو مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون . المسألة الثالثة : { طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلَـٰدِ } أي عملوا المعاصي وتجبروا على أنبياء الله والمؤمنين ثم فسر طغيانهم بقوله تعالى : { فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ } ضد الصلاح فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر ، فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم ، فمن عمل بغير أمر الله وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد ثم قال تعالى : { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } واعلم أنه يقال : صب عليه السوط وغشاه وقنعه ، وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحله بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة ، كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به . قال القاضي : وشبهه بصب السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه ، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : إن عند الله أسواطاً كثيرة فأخذهم بسوط منها ، فإن قيل : أليس أن قوله تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بما كسبوا مَّا تَرَكَ عَلى ظهرها من دَابَّةٍ } [ فاطر : 45 ] يقتضي تأخير العذاب إلى الآخرة فكيف الجمع بين هاتين الآيتين ؟ قلنا : هذه الآية تقتضي تأخير تمام الجزاء إلى الآخرة والواقع في الدنيا شيء من ذلك ومقدمة من مقدماته . ثم قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } تقدم عند قوله : { كَانَتْ مِرْصَاداً } [ النبأ : 21 ] ونقول : المرصاد المكان الذي يترقب فيه الراصد مفعال من رصده كالميقات من وقته ، وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه ، وعن بعض العرب أنه قيل له : أين ربك ؟ فقال : بالمرصاد ، وللمفسرين فيه وجوه أحدها : قال الحسن : يرصد أعمال بني آدم وثانيها : قال الفراء : إليه المصير ، وهذان الوجهان عامان للمؤمنين والكافرين ، ومن المفسرين من يخص هذه الآية إما بوعيد الكفار ، أو بوعيد العصاة ، أما الأول فقال الزجاج : يرصد من كفر به وعدل عن طاعته بالعذاب ، وأما الثاني فقال الضحاك : يرصد لأهل الظلم والمعصية ، وهذه الوجوه متقاربة .