Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 14-15)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

اعلم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى : { أَلاَ تُقَـٰتِلُونَ قَوْماً } ذكر عقيبه سبعة أشياء كل واحد منها يوجب إقدامهم على القتال . ثم إنه تعالى في هذه الآية أعاد الأمر بالقتال وذكر في ذلك القتال خمسة أنواع من الفوائد ، كل واحد منها يعظم موقعه إذا انفرد فكيف بها إذا اجتمعت ؟ فأولها : قوله : { يُعَذّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } وفيه مباحث : البحث الأول : أنه تعالى سمى ذلك عذاباً وهو حق فإنه تعالى يعذب الكافرين فإن شاء عجله في الدنيا وإن شاء أخره إلى الآخرة . البحث الثاني : أن المراد من هذا التعذيب القتل تارة والأسر أخرى واغتنام الأموال ثالثاً ، فيدخل فيه كل ما ذكرناه . فإن قالوا : أليس أنه تعالى قال : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] فكيف قال ههنا : { يُعَذّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } . قلنا : المراد من قوله : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } عذاب الاستئصال ، والمراد من قوله : { يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } عذاب القتل والحرب ، والفرق بين البابين أن عذاب الاستئصال قد يتعدى إلى غير المذنب وإن كان في حقه سبباً لمزيد الثواب ، أما عذاب القتل فالظاهر أنه يبقى مقصوراً على المذنب . البحث الثالث : احتج أصحابنا على قولهم بأن فعل العبد مخلوق لله تعالى بقوله : { يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } فإن المراد من هذا التعذيب القتل والأسر وظاهر النص يدل على أن ذلك القتل والأسر فعل الله تعالى ، إلا أنه تعالى يدخله في الوجود على أيدي العباد ، وهو صريح قولنا ومذهبنا أجاب الجبائي عنه فقال : لو جاز أن يقال إنه تعالى يعذب الكفار بأيدي المؤمنين لجاز أن يقال : إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين ، ولجاز أن يقال إنه يكذب أنبياءه على ألسنة الكفار ويلعن المؤمنين على ألسنتهم ، لأنه تعالى خالق لذلك ، فلما لم يجز ذلك عند المجبرة ، علم أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد وإنما نسب ما ذكرناه إلى نفسه على سبيل التوسع من حيث إنه حصل بأمره وألطافه ، كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير ، وأجاب أصحابنا عنه فقالوا : أما الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك إلا أنا لا نقوله باللسان ، كما أنا نعلم أنه تعالى هو الخالق لجميع الأجسام ثم إنا لا نقول يا خالق الأبوال والعذرات ، ويا مكون الخنافس والديدان ، فكذا ههنا وأيضاً أنا توافقنا على أن الزنا واللواط وسائر القبائح إنما حصلت بأقدار الله تعالى وتيسيره ، ثم لا يجوز أن يقال : يا مسهل الزنا واللواط ، ويا دافع الموانع عنها ، فكذا هنا ، أما قوله إن المراد إذن الأقدار فنقول هذا صرف للكلام عن ظاهره ، وذلك لا يجوز إلا لدليل قاهر ، والدليل القاهر من جانبنا ههنا ، فإن الفعل لا يصدر إلا عند الداعية الحاصلة ، وحصول تلك الداعية ليس إلا من الله تعالى . وثانيها : قوله تعالى : { وَيُخْزِهِمْ } معناه : ما ينزل بهم من الذل والهوان حيث شاهدوا أنفسهم مقهورين في أيدي المؤمنين ذليلين مهينين . قال الواحدي : قوله : { وَيُخْزِهِمْ } أي بعد قتلكم إياهم ، وهذا يدل على أن هذا الإخزاء إنما وقع بهم في الآخرة ، وهذا ضعيف لما بينا أن الإخزاء واقع في الدنيا . وثالثها : قوله تعالى : { وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } والمعنى أنه لما حصل الخزي لهم ، بسبب كونهم مقهورين فقد حصل النصر للمسلمين بسبب كونهم قاهرين . فإن قالوا : لما كان حصول ذلك الخزي مستلزماً لحصول هذا النصر ، كان إفراده بالذكر عبثاً فنقول : ليس الأمل كذلك ، لأنه من المحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة المؤمنين ، إلا أن المؤمنين يحصل لهم آفة بسبب آخر فلما قال : { وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } دل على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر . ورابعها : قوله : { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } وقد ذكرنا أن خزاعة أسلموا ، فأعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكلوا بهم ، فشفى الله صدورهم من بني بكر ، ومن المعلوم أن من طال تأذيه من خصمه ، ثم مكنه الله منه على أحسن الوجوه فإنه يعظم سروره به ، ويصير ذلك سبباً لقوة النفس ، وثبات العزيمة . وخامسها : قوله : { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } . ولقائل أن يقول : قوله : { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } معناه أنه يشفي من ألم الغيظ وهذا هو عين إذهاب الغيظ ، فكان قوله : { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } تكرار . والجواب : أنه تعالى وعدهم بحصول هذا الفتح فكانوا في زحمة الانتظار ، كما قيل الانتظار الموت الأحمر ، فشفى صدورهم من زحمة الانتظار ، وعلى هذا الوجه يظهر الفرق بين قوله : { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } وبين قوله : { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } فهذه هي المنافع الخمسة التي ذكرها الله تعالى في هذا القتال ، وكلها ترجع إلى تسكين الدواعي الناشئة من القوة الغضبية ، وهي التشفي ودرك الثأر وإزالة الغيظ ، ولم يذكر تعالى فيها وجدان الأموال والفوز بالمطاعم والمشارب وذلك لأن العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة ، فرغبهم في هذه المعاني لكونها لائقة بطباعهم ، بقي ههنا مباحث : البحث الأول : أن هذه الأوصاف مناسبة لفتح مكة ، لأن ذلك جرى في تلك الواقعة مشاكل لهذه الأحوال ، ولهذا المعنى جاز أن يقال : الآية واردة فيه . البحث الثاني : الآية دالة على المعجزة لأنه تعالى أخبر عن حصول هذه الأحوال ، وقد وقعت موافقة لهذه الأخبار فيكون ذلك إخباراً عن الغيب ، والإخبار عن الغيب معجز . البحث الثالث : هذه الآية تدل على كون الصحابة مؤمنين في علم الله تعالى إيماناً حقيقياً . لأنها تدل على أن قلوبهم كانت مملوءة من الغضب ، ومن الحمية لأجل الدين ، ومن الرغبة الشديدة في علو دين الإسلام ، وهذه الأحوال لا تحصل إلا في قلوب المؤمنين . واعلم أن وصف الله لهم بذلك لا ينفي كونهم موصوفين بالرحمة والرأفة ، فإنه تعالى قال في صفتهم { أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ } [ المائدة : 54 ] وقال أيضاً : { أَشِدَّاء عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] . ثم قال : { وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ } قال الفراء والزجاج : هذا مذكور على سبيل الاستئناف ولا يمكن أن يكون جواباً لقوله : { قَـٰتِلُوهُمْ } لأن قوله : { وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ } لا يمكن جعله جزاء لمقاتلتهم مع الكفار . قالوا ونظيره : { فَإِن يَشَإِ ٱللَّهُ يَخْتِمْ عَلَىٰ قَلْبِكَ } [ الشورى : 24 ] وتم الكلام ههنا ، ثم استأنف فقال : { وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَـٰطِلَ } [ الشورى : 24 ] ومن الناس من قال يمكن جعل هذه التوبة جزاء لتلك المقاتلة ، وبيانه من وجوه : الأول : أنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة ، فربما شق ذلك على بعضهم على ما ذهب إليه الأصم ، فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جارياً مجرى التوبة عن تلك الكراهية . الثاني : أن حصول النصرة والظفر إنعام عظيم ، والعبد إذا شاهد توالي نعم الله لم يبعد أن يصير ذلك داعياً له إلى التوبة من جميع الذنوب ، الثالث : أنه إذا حصل النصر والظفر والفتح وكثرت الأموال والنعم وكانت لذاته تطلب بالطريق الحرام ، فإن عند حصول المال والجاه يمكن تحصيلها بطريق حلال ، فيصير كثرة المال والجاه داعياً إلى التوبة من هذه الوجوه . الرابع : قال بعضهم إن النفس شديدة الميل إلى الدنيا ولذاتها ، فإذا انفتحت أبواب الدنيا على الإنسان وأراد الله به خيراً ، عرف أن لذاتها حقيرة يسيرة ، فحينئذ تصير الدنيا حقيرة في عينه ، فيصير ذلك سبباً لانقباض النفس عن الدنيا ، وهذا هو أحد الوجوه المذكورة في تفسير قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام : { هَبْ لِى مُلْكاً لاَّ يَنبَغِى لاِحَدٍ مّن بَعْدِى } [ ص : 35 ] . يعني أن بعد حصول هذا الملك لا يبقى للنفس اشتغال بطلب الدنيا ، ثم يعرف أن عند حصول هذا الملك الذي هو أعظم الممالك لا حاصل للدنيا ولا فائدة في لذاتها وشهواتها ، فحينئذ يعرض القلب عن الدنيا ولا يقيم لها وزناً ، فثبت أن حصول المقاتلة يفضي إلى المنافع الخمسة المذكورة وتلك المنافع حصولها يوجب التوبة ، فكانت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة ، وإنما قال : { عَلَىٰ مَن يَشَاءُ } لأن وجدان الدنيا وانفتاح أبوابها على الإنسان قد يصير سبباً لانقباض القلب عن الدنيا وذلك في حق من أراد به الخير ، وقد يصير سبباً لاستغراق الإنسان فيها وتهالكه عليها وانقطاعه بسببها عن سبيل الله ، فلما اختلف الأمر على الوجه الذي ذكرناه قال : { وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاء } . ثم قال : { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } أي بكل ما يعمل ويفعل في ملكه وملكوته { حَكِيمٌ } مصيب في أحكامه وأفعاله .