Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 28-28)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وفي الآية مسائل : المسألة الأولى : اعلم أن هذه هي الشبهة الثالثة التي وقعت في قلوب القوم ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما أمر علياً أن يقرأ على مشركي مكة ، أول سورة براءة وينبذ إليهم عهدهم وأن الله برىء من المشركين ورسوله ، قال أناس يا أهل مكة ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل وفقد الحمولات ، فنزلت هذه الآية لدفع هذه الشبهة ، وأجاب الله تعالى عنها بقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أي فقراً وحاجة { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } فهذا وجه النظم وهو حسن موافق . المسألة الثانية : قال الأكثرون لفظ المشركين يتناول عبدة الأوثان . وقال قوم : بل يتناول جميع الكفار وقد سبقت هذه المسألة ، وصححنا هذا القول بالدلائل الكثيرة ، والذي يفيد ههنا التمسك بقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } [ النساء : 116 ] ومعلوم أنه باطل . المسألة الثالثة : قال صاحب « الكشاف » : النجس مصدر نجس نجساً وقذر قذراً ، ومعناه ذو نجس . وقال الليث : النجس الشيء القذر من الناس ومن كل شيء ، ورجل نجس ، وقوم أنجاس ، ولغة أخرى رجل نجس وقوم نجس وفلان نجس ورجل نجس وامرأة نجس . واختلفوا في تفسير كون المشرك نجساً نقل صاحب « الكشاف » عن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير ، وعن الحسن من صافح مشركاً توضأ ، وهذا هو قول الهادي من أئمة الزيدية ، وأما الفقهاء فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم . واعلم أن ظاهر القرآن يدل على كونهم أنجاساً فلا يرجع عنه إلا بدليل منفصل ، ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا أن الاختلاف فيه حاصل . واحتج القاضي على طهارتهم بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من أوانيهم ، وأيضاً لو كان جسمه نجساً لم يبدل ذلك بسبب الإسلام . والقائلون بالقول الأول أجابوا عنه : بأن القرآن أقوى من خبر الواحد ، وأيضاً فبتقدير صحة الخبر وجب أن يعتقد أن حل الشرب من أوانيهم كان متقدماً على نزول هذه الآية وبيانه من وجهين : الأول : أن هذه السورة من آخر ما نزل من القرآن وأيضاً كانت المخالطة مع الكفار جائزة فحرمها الله تعالى ، وكانت المعاهدات معهم حاصلة فأزالها الله ، فلا يبعد أن يقال أيضاً الشرب من أوانيهم كان جائزاً فحرمه الله تعالى . الثاني : أن الأصل حل الشرب من أي إناء كان ، فلو قلنا : إنه حرم بحكم الآية ثم حل بحكم الخبر فقد حصل نسخان . أما إذا قلنا : إنه كان حلالاً بحكم الأصل ، والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل ، ثم جاء التحريم بحكم هذه الآية لم يحصل النسخ إلا مرة واحدة ، فوجب أن يكون هذا أولى . أما قول القاضي : لو كان الكافر نجس الجسم لما تبدلت النجاسة بالطهارة بسبب الإسلام فجوابه أنه قياس في معارضة النص الصريح ، وأيضاً أن أصحاب هذا المذهب يقولون إن الكافر إذا أسلم وجب عليه الاغتسال إزالة للنجاسة الحاصلة بحكم الكفر ، فهذا تقرير هذا القول ، وأما جمهور الفقهاء فإنهم حكموا بكون الكافر طاهراً في جسمه ، ثم اختلفوا في تأويل هذه الآية على وجوه : الأول : قال ابن عباس وقتادة : معناه أنهم لا يغتسلون من الجنابة ولا يتوضؤن من الحدث . الثاني : المراد أنهم بمنزلة الشيء النجس في وجوب النفرة عنه ، الثالث : أن كفرهم الذي هو صفة لهم بمنزلة النجاسة الملتصقة بالشيء . واعلم أن كل هذه الوجوه عدول عن الظاهر بغير دليل . المسألة الرابعة : قال أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم : أعضاء المحدث نجسة نجاسة حكمية وبنوا عليه أن الماء المستعمل في الوضوء والجنابة نجس . ثم روى أبو يوسف رحمه الله تعالى أنه نجس نجاسة خفيفة ، وروى الحسن بن زياد : أنه نجس نجاسة غليظة ، وروى محمد بن الحسن أن ذلك الماء طاهر . واعلم أن قوله تعالى : { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } يدل على فساد هذا القول ، لأن كلمة « إنما » للحصر ، وهذا يقتضي أن لا نجس إلا المشرك ، فالقول بأن أعضاء المحدث نجسة مخالف لهذا النص ، والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس وفي أن المؤمن ليس بنجس ، ثم إن قوماً ما قلبوا القضية وقالوا المشرك طاهر والمؤمن حال كونه محدثاً أو جنباً نجس ، وزعموا أن المياه التي استعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة : والمياه التي يستعملها أكابر الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة ، وهذا من العجائب ، ومما يؤكد القول بطهارة أعضاء المسلم قوله عليه السلام : " " المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً " " فصار هذا الخبر مطابقاً للقرآن ، ثم الاعتبارات الحكمية طابقت القرآن ، والأخبار في هذا الباب ، لأن المسلمين أجمعوا على أن إنساناً لو حمل محدثاً في صلاته لم تبطل صلاته ، ولو كانت يده رطبة فوصلت إلى يد محدث لم تنجس يده . ولو عرق المحدث ووصلت تلك النداوة إلى ثوبه لم ينجس ذلك الثوب ، فالقرآن والخبر والإجماع تطابقت على القول بطهارة أعضاء المحدث فكيف يمكن مخالفته ، وشبهة المخالف أن الوضوء يسمى طهارة والطهارة لا تكون إلا بعد سبق النجاسة ، وهذا ضعيف لأن الطهارة قد تستعمل في إزالة الأوزار والآثام ، قال الله تعالى في صفة أهل البيت { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيــراً } [ الأحزاب : 33 ] وليست هذه الطهارة إلا عن الآثام والأوزار . وقال في صفة مريم : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ وَطَهَّرَكِ } [ آل عمران : 42 ] والمراد تطهيرها عن التهمة الفاسدة . وإذا ثبت هذا فنقول : جاءت الأخبار الصحيحة في أن الوضوء تطهير الأعضاء عن الآثام والأوزار ، فلما فسر الشارع كون الوضوء طهارة بهذا المعنى ، فما الذي حملنا على مخالفته ، والذهاب إلى شيء يبطل القرآن والأخبار والأحكام الإجماعية . المسألة الخامسة : قال الشافعي رضي الله تعالى عنه : الكفار يمنعون من المسجد الحرام خاصة ، وعند مالك : يمنعون من كل المساجد ، وعند أبي حنيفة رحمه الله : لا يمنعون من المسجد الحرام ولا من سائر المساجد ، والآية بمنطوقها تبطل قول أبي حنيفة رحمه الله ، وبمفهومها تبطل قول مالك ، أو نقول الأصل عدم المنع ، وخالفناه في المسجد الحرام لهذا النص الصريح القاطع ، فوجب أن يبقى في غيره على وفق الأصل . المسألة السادسة : اختلفوا في أن المراد من المسجد الحرام هل هو نفس المسجد أو المراد منه جميع الحرم ؟ والأقرب هو هذا الثاني . والدليل عليه قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد ، فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة لما خافوا بسبب هذا المنع من العيلة ، وإنما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواق والمواسم ، وهذا استدلال حسن من الآية ، ويتأكد هذا القول بقوله سبحانه وتعالى : { سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى } [ الإسراء : 1 ] مع أنهم أجمعوا على أنه إنما رفع الرسول عليه الصلاة والسلام من بيت أم هانىء وأيضاً يتأكد هذا بما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب " " واعلم أن أصحابنا قالوا : الحرم حرام على المشركين ولو كان الإمام بمكة ، فجاء رسول المشركين فليخرج إلى الحل لاستماع الرسالة ، وإن دخل مشرك الحرم متوارياً فمرض فيه أخرجناه مريضاً ، وإن مات ودفن ولم يعلم نبشناه وأخرجنا عظامه إذا أمكن . المسألة السابعة : لا شبهة في أن المراد بقوله : { بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } السنة التي حصل فيها النداء بالبراءة من المشركين ، وهي السنة التاسعة من الهجرة . ثم قال تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } والعيلة الفقر . يقال : عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر ، والمعنى : إن خفتم فقراً بسبب منع الكفار فسوف يغنيكم الله من فضله وفيه مسألتان : المسألة الأولى : ذكروا في تفسير هذا الفضل وجوهاً : الأول : قال مقاتل : أسلم أهل جدة وصنعاء وحنين ، وحملوا الطعام إلى مكة وكفاهم الله الحاجة إلى مبايعة الكفار . والثاني : قال الحسن : جعل الله ما يوجد من الجزية بدلاً من ذلك . وقيل : أغناهم بالفيء . الثالث : قال عكرمة : أنزل الله عليهم المطر ، وكثر خيرهم . المسألة الثانية : قوله : { فُسُوف يُغْنِيكُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } إخبار عن غيب في المستقبل على سبيل الجزم في حادثة عظيمة ، وقد وقع الأمر مطابقاً لذلك الخبر فكان معجزة . ثم قال تعالى : { إِن شَآءَ } ولسائل أن يسأل فيقول : الغرض بهذا الخبر إزالة الخوف بالعيلة ، وهذا الشرط يمنع من إفادة هذا المقصود ، وجوابه من وجوه الأول : أن لا يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب ، فيكون الإنسان أبداً متضرعاً إلى الله تعالى في طلب الخيرات ودفع الآفات . الثاني : أن المقصود من ذكر هذا الشرط تعليم رعاية الأدب ، كما في قوله : { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَاء ٱللَّهُ ءامِنِينَ } [ الفتح : 27 ] الثالث : أن المقصود التنبيه على أن حصول هذا المعنى لا يكون في كل الأوقات وفي جميع الأمور ، لأن إبراهيم عليه السلام قال في دعائه : { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ } [ البقرة : 126 ] وكلمة « من » تفيد التبعيض فقوله تعالى في هذه الآية : { إِن شَآءَ } المراد منه ذلك التبعيض . ثم قال : { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بأحوالكم ، وحكيم لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب ، والله أعلم .