Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 44-46)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

في الآية مسائل : المسألة الأولى : قال ابن عباس : قوله : { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ } أي بعد غزوة تبوك ، وقال الباقون : هذا لا يجوز ، لأن ما قبل هذه الآية وما بعدها وردت في قصة تبوك ، والمقصود من هذا الكلام تمييز المؤمنين عن المنافقين ، فإن المؤمنين متى أمروا بالخروج إلى الجهاد تبادروا إليه ولم يتوقفوا ، والمنافقون يتوقفون ويتبلدون ويأتون بالعلل والأعذار . وهذا المقصود حاصل سواء عبر عنه بلفظ المستقبل أو الماضي ، والمقصود أنه تعالى جعل علامة النفاق في ذلك لوقت الاستئذان ، والله أعلم . المسألة الثانية : قوله : { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ أَن يُجَـٰهِدُواْ } فيه محذوف ، والتقدير : في أن يجاهدوا . إلا أنه حسن الحذف لظهوره ، ثم ههنا قولان : القول الأول : إجراء هذا الكلام على ظاهره من غير إضمار آخر ، وعلى هذا التقدير فالمعنى أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا ، وكان الأكابر من المهاجرين والأنصار يقولون لا نستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد ، فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد أخرى ، فأي فائدة في الاستئذان ؟ وكانوا بحيث لو أمرهم الرسول بالقعود لشق عليهم ذلك ، ألا ترى أن علي بن أبي طالب لما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبقى في المدينة شق عليه ذلك ولم يرض إلى أن قال له الرسول : " " أنت مني بمنزلة هرون من موسى " . " القول الثاني : أنه لا بد ههنا من إضمار آخر ، قالوا لأن ترك استئذان الإمام في الجهاد غير جائز ، وهؤلاء ذمهم الله في ترك هذا الاستئذان ، فثبت أنه لا بد من الإضمار ، والتقدير : لا يستأذنك هؤلاء في أن لا يجاهدوا ، إلا أنه حذف حرف النفي ، ونظير قوله : { يُبَيّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] والذي دل على هذا المحذوف أن ما قبل الآية وما بعدها يدل على أن حصول هذا الذم إنما كان على الاستئذان في القعود ، والله أعلم . ثم قال تعالى : { إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : بين أن هذا الانتقال لا يصدر إلا عند عدم الإيمان بالله واليوم الآخر ثم لما كان عدم الإيمان قد يكون بسبب الشك فيه ، وقد يكون بسبب الجزم والقطع بعدمه ، بين تعالى أن عدم إيمان هؤلاء إنما كان بسبب الشك والريب ، وهذا يدل على أن الشاك المرتاب غير مؤمن بالله . وههنا سؤالان : السؤال الأول : أن العلم إذا كان استدلالياً كان وقوع الشك في الدليل يوجب وقوع الشك في المدلول ، ووقع الشك في مقدمة واحدة من مقدمات الدليل يكفي في حصول الشك في صحة الدليل ، فهذا يقتضي أن الرجل المؤمن إذا وقع له سؤال وإشكال في مقدمة من مقدمات دليله أن يصير شاكاً في المدلول ، وهذا يقتضي أن يخرج المؤمن عن إيمانه في كل لحظة ، بسبب أنه خطر بباله سؤال وإشكال ، ومعلوم أن ذلك باطل ، فثبت أن بناء الإيمان ليس على الدليل بل على التقليد . فصارت هذه الآية دالة على أن الأصل في الإيمان هو التقليد من هذا الوجه . والجواب : أن المسلم وإن عرض له الشك في صحة بعض مقدمات دليل واحد إلا أن سائر الدلائل سليمة عنده من الطعن ، فلهذا السبب بقي إيمانه دائماً مستمراً . السؤال الثاني : أليس أن أصحابكم يقولون : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ، وذلك يقتضي حصول الشك ؟ والجواب : أنا استقصينا في تحقيق هذه المسألة في سورة الأنفال ، في تفسير قوله : { أُوْلـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً } [ الأنفال : 74 ] . المسألة الثانية : قالت الكرامية : الإيمان هو مجرد الإقرار مع أنه تعالى شهد عليهم في هذه الآية بأنهم ليسوا مؤمنين . المسألة الثالثة : قوله : { وَٱرْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ } يدل على أن محل الريب هو القلب فقط ، ومتى كان محل الريب هو القلب كان محل المعرفة ، والإيمان أيضاً هو القلب ، لأن محل أحد الضدين يجب أن يكون هو محلاً للضد الآخر ، ولهذا السبب قال تعالى : { أُوْلَـئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلإيمَـٰنَ } [ المجادلة : 22 ] وإذا كان محل المعرفة والكفر القلب ، كان المثاب والمعاقب في الحقيقة هو القلب والبواقي تكون تبعاً له . المسألة الرابعة : قوله : { فَهُمْ فِى رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } معناه أن الشاك المرتاب يبقى متردداً بين النفي والإثبات ، غير حاكم بأحد القسمين ولا جازم بأحد النقيضين . وتقريره : أن الاعتقاد إما أن يكون جازماً أو لا يكون ، فالجازم إن كان غير مطابق فهو الجهل وإن كان مطابقاً ، فإن كان غير يقين فهو العلم ، وإلا فهو اعتقاد المقلد . وإن كان غير جازم ، فإن كان أحد الطرفين راجحاً فالراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم . وإن اعتدل الطرفان فهو الريب والشك ، وحينئذ يبقى الإنسان متردداً بين الطرفين . ثم قال تعالى : { وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً } قرىء { عدته } وقرىء أيضاً { عِدَّةَ } بكسر العين بغير إضافة وبإضافة ، قال ابن عباس : يريد من الزاد والماء والراحلة ، لأن سفرهم بعيد وفي زمان شديد ، وتركهم العدة دليل على أنهم أرادوا التخلف . وقال آخرون : هذا إشارة إلى أنهم كانوا مياسير قادرين على تحصيل الأهبة والعدة . ثم قال تعالى : { وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : الانبعاث : الانطلاق في الأمر ، يقال بعثت البعير فانبعث وبعثته لأمر كذا فانبعث ، وبعثه لأمر كذا أي نفذه فيه ، والتثبيط رد الإنسان على الفعل الذي هم به ، والمعنى : أنه تعالى كره خروجهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم فصرفهم عنه . فإن قيل : إن خروجهم مع الرسول إما أن يقال إنه كان مفسدة وإما أن يقال إنه كان مصلحة . فإن قلنا : إنه كان مفسدة ، فلم عاتب الرسول في إذنه إياهم في القعود ؟ وإن قلنا : إنه كان مصلحة ، فلم قال إنه تعالى كره انبعاثهم وخروجهم ؟ والجواب الصحيح : أن خروجهم مع الرسول ما كان مصلحة ، بدليل أنه تعالى صرح بعد هذه الآية وشرح تلك المفاسد وهو قوله : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } [ التوبة : 47 ] بقي أن يقال فلما كان الأصوب الأصلح أن لا يخرجوا ، فلم عاتب الرسول في الإذن ؟ فنقول : قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال : ليس في قوله { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أذن لهم في القعود ، بل يحتمل أن يقال إنهم استأذنوه في الخروج معه فأذن لهم ، وعلى هذا التقدير فإنه يسقط السؤال ، قال أبو مسلم والدليل على صحة ما قلنا إن هذه الآية دلت على أن خروجهم معه كان مفسدة ، فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في الخروج معه ، وتأكد ذلك بسائر الآيات ، منها قوله تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ ٱللَّهُ إِلَىٰ طَائِفَةٍ مّنْهُمْ فَٱسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا } [ التوبة : 83 ] ومنها قوله تعالى : { سَيَقُولُ ٱلْمُخَلَّفُونَ إِذَا ٱنطَلَقْتُمْ } [ الفتح : 15 ] إلى قوله : { قُل لَّن تَتَّبِعُونَا } [ الفتح : 15 ] فهذا دفع هذا السؤال على طريقة أبي مسلم . والوجه الثاني : من الجواب أن نسلم أن العتاب في قوله : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } إنما توجه لأنه عليه الصلاة والسلام أذن لهم في القعود ، فنقول : ذلك العتاب ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة ، بل لأجل أن إذنه عليه الصلاة والسلام بذلك القعود كان مفسدة وبيانه من وجوه : الأول : أنه عليه الصلاة والسلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل والتدبر ، ولهذا السبب قال تعالى : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ ٱلْكَـٰذِبِينَ } والثاني : أن بتقدير أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يأذن لهم في القعود فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم ، وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم ، وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم ولم يغتروا بقولهم ، فلما أذن الرسول في القعود بقي نفاقهم مخفياً وفاتت تلك المصالح . والثالث : أنهم لما استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب عليهم وقال : { ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَـٰعِدِينَ } على سبيل الزجر كما حكاه الله في آخر هذه الآية وهو قوله : { وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَـٰعِدِينَ } ثم إنهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا : قد أذن لنا فقال تعالى : { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } أي لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى تحصيل غرضهم ؟ الرابع : أن الذين يقولون الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم السلام قالوا : إنه إنما أذن بمقتضى الاجتهاد ، وذلك غير جائز ، لأنهم لما تمكنوا من الوحي وكان الإقدام على الاجتهاد مع التمكن من الوحي جارياً مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حصول النص ، فكما أن هذا غير جائز فكذا ذاك . المسألة الثانية : قالت المعتزلة البصرية : الآية دالة على أنه تعالى كما هو موصوف بصفة المريدية هو موصوف بصفة الكارهية ، بدليل قوله تعالى : { وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ } قال أصحابنا : معنى { كَرِهَ ٱللَّهُ } أراد عدم ذلك الشيء . قال البصرية : العدم لا يصلح أن يكون متعلقاً ، وذلك لأن الإرادة عبارة عن صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر ، والعدم نفي محض ، وأيضاً فالعدم المستمر لا تعلق للإرادة بالعدم به ، لأن تحصيل الحاصل محال ، وجعل العدم عدماً محال ، فثبت أن تعلق الإرادة بالعدم محال ، فامتنع القول بأن المراد من الكراهة إرادة العدم . أجاب أصحابنا : بأنا نفسر الكراهة في حق الله بإرادة ضد ذلك الشيء ، فهو تعالى أراد منهم السكون ، فوقع التعبير عن هذه الإرادة بكونه تعالى كارهاً لخروجهم مع الرسول . المسألة الثالثة : احتج أصحابنا في مسألة القضاء والقدر بقوله تعالى : { فَثَبَّطَهُمْ } أي فكسلهم وضعف رغبتهم في الانبعاث ، وحاصل الكلام فيه لا يتم إلا إذا صرحنا بالحق ، وهو أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي إليه ، فإذا صارت الداعية فاترة مرجوحة امتنع صدور الفعل عنه ، ثم إن صيرورة تلك الداعية جازمة أو فاترة ، إن كانت من العبد لزم التسلسل ، وإن كانت من الله فحينئذ لزم المقصود . لأن تقوية الداعية ليست إلا من الله ، ومتى حصلت تلك التقوية لزم حصول الفعل ، وحينئذ يصح قولنا في مسألة القضاء والقدر . ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله : { وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَـٰعِدِينَ } وفيه مسألتان : المسألة الأولى : المقصود منه التنبيه على ذمهم وإلحاقهم بالنساء والصبيان والعاجزين الذين شأنهم القعود في البيوت ، وهم القاعدون والخالفون والخوالف على ما ذكره في قوله : { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوٰلِفِ } [ التوبة : 87 ، 93 ] . المسألة الثانية : اختلفوا في أن هذا القول ممن كان ؟ فيحتمل أن يكون القائل بذلك هو الشيطان على سبيل الوسوسة ، ويحتمل أن يكون بعضهم قال ذلك لبعض لما أرادوا الاجتماع على التخلف ، لأن من يتولى الفساد يحب التكثر بأشكاله ، ويحتمل أن يكون القائل هو الرسول صلى الله عليه وسلم لما أذن لهم في التخلف فعاتبه الله ، ويحتمل أن يكون القائل هو الله سبحانه لأنه قد كره خروجهم للإفساد ، وكان المراد إذا كنتم مفسدين فقد كره الله انبعاثكم على هذا الوجه فأمركم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص .