Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 90, Ayat: 1-4)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أجمع المفسرون على أن ذلك البلد هي مكة ، واعلم أن فضل مكة معروف ، فإن الله تعالى جعلها حرماً آمناً ، فقال في المسجد الذي فيها { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } [ آل عمران : 97 ] وجعل ذلك المسجد قبلة لأهل المشرق والمغرب ، فقال : { وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } [ البقرة : 144 ] وشرف مقام إبراهيم بقوله : { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرٰهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] وأمر الناس بحج ذلك البيت فقال : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } [ آل عمران : 97 ] وقال في البيت : { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لّلنَّاسِ وَأَمْناً } [ البقرة : 125 ] وقال : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرٰهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً } [ الحج : 26 ] وقال : { وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ } [ الحج : 27 ] وحرم فيه الصيد ، وجعل البيت المعمور بإزائه ، ودحيت الدنيا من تحته ، فهذه الفضائل وأكثر منها لما اجتمعت في مكة لا جرم أقسم الله تعالى بها ، فأما قوله : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } فالمراد منه أمور أحدها : وأنت مقيم بهذا البلد نازل فيه حال به ، كأنه تعالى عظم مكة من جهة أنه عليه الصلاة والسلام مقيم بها وثانيها : الحل بمعنى الحلال ، أي أن الكفار يحترمون هذا البلد ولا ينتهكون فيه المحرمات ، ثم إنهم مع ذلك ومع إكرام الله تعالى إياك بالنبوة يستحلون إيذاءك ولو تمكنوا منك لقتلوك ، فأنت حل لهم في اعتقادهم لا يرون لك من الحرمة ما يرونه لغيرك ، عن شرحبيل : يحرمون أن يقتلوا بها صيداً أو يعضوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك ، وفيه تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة ، وتعجيب له من حالهم في عدوانهم له وثالثها : قال قتادة : { وَأَنتَ حِلٌّ } أي لست بآثم ، وحلال لك أن تقتل بمكة من شئت ، وذلك أن الله تعالى فتح عليه مكة وأحلها له ، وما فتحت على أحد قبله ، فأحل ما شاء وحرم ما شاء وفعل ما شاء ، فقتل عبد الله بن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، ومقيس بن صبابة وغيرهما ، وحرم دار أبي سفيان ، ثم قال : " " إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض ، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي ، ولن تحل لأحد بعدي ، ولم تحل إلا ساعة من نهار ، فلا يعضد شجرها ، ولا يختلي خلالها ، ولا ينفر صيدها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد . " " فقال العباس : إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لبيوتنا وقبورنا ، فقال " " إلا الإذخر " . " فإن قيل : هذه السورة مكية ، وقوله : { وَأَنتَ حِلٌّ } إخبار عن الحال ، والواقعة التي ذكرتم إنما حدثت في آخر مدة هجرته إلى المدينة ، فكيف الجمع بين الأمرين ؟ قلنا : قد يكون اللفظ للحال والمعنى مستقبلاً ، كقوله تعالى : { إِنَّكَ مَيّتٌ } [ الزمر : 30 ] وكما إذا قلت لمن تعده الإكرام والحباء : أنت مكرم محبو ، وهذا من الله أحسن ، لأن المستقبل عنده كالحاضر بسبب أنه لا يمنعه عن وعده مانع ورابعها : { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } أي وأنت غير مرتكب في هذا البلد ما يحرم عليك ارتكابه تعظيماً منك لهذا البيت ، لا كالمشركين الذين يرتكبون فيه الكفر بالله ، وتكذيب الرسل وخامسها : أنه تعالى لما أقسم بهذا البلد دل ذلك على غاية فضل هذا البلد ، ثم قال : { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } أي وأنت من حل هذه البلدة المعظمة المكرمة ، وأهل هذا البلد يعرفون أصلك ونسبك وطهارتك وبراءتك طول عمرك من الأفعال القبيحة ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ } [ الجمعة : 2 ] وقال : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] وقوله : { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مّن قَبْلِهِ } [ يونس : 16 ] فيكون الغرض شرح منصب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكونه من هذا البلد . أما قوله : { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } فاعلم أن هذا معطوف على قوله : { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } وقوله : { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } معترض بين المعطوف والمعطوف عليه ، وللمفسرين فيه وجوه أحدها : الولد آدم وما ولد ذريته ، أقسم بهم إذ هم من أعجب خلق الله على وجه الأرض ، لما فيهم من البيان والنطق والتدبير واستخراج العلوم وفيهم الأنبياء والدعاة إلى الله تعالى والأنصار لدينه ، وكل ما في الأرض مخلوق لهم وأمر الملائكة بالسجود لآدم وعلمه الأسماء كلها ، وقد قال الله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ } [ الإسراء : 70 ] فيكون القسم بجميع الآدميين صالحهم وطالحهم ، لما ذكرنا من ظهور العجائب في هذه البنية والتركيب ، وقيل : هو قسم بآدم والصالحين من أولاده ، بناء على أن الطالحين كأنهم ليسوا من أولاده وكأنهم بهائم . كما قال : { إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأَنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [ الفرقان : 44 ] ، { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 18 ] وثانيها : أن الولد إبراهيم وإسماعيل وما ولد محمد صلى الله عليه وسلم وذلك لأنه أقسم بمكة وإبراهيم بانيها وإسماعيل ومحمد عليهما السلام سكانها ، وفائدة التنكير الإبهام المستقل بالمدح والتعجب ، وإنما قال : { وَمَا وَلَدَ } ولم يقل ومن ولد ، للفائدة الموجودة في قوله : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } [ آل عمران : 36 ] أي بأي شيء وضعت يعني موضوعاً عجيب الشأن وثالثها : الولد إبراهيم وما ولد جميع ولد إبراهيم بحيث يحتمل العرب والعجم . فإن جملة ولد إبراهيم هم سكان البقاع الفاضلة من أرض الشام ومصر ، وبيت المقدس وأرض العرب ومنهم الروم لأنهم ولد عيصو بن إسحق ، ومنهم من خص ذلك بولد إبراهيم من العرب ومنهم من خص ذلك بالعرب المسلمين ، وإنما قلنا : إن هذا القسم واقع بولد إبراهيم المؤمنين لأنه قد شرع في التشهد أن يقال : « كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم » وهم المؤمنين ورابعها : روي عن ابن عباس أنه قال : الولد الذي يلد ، وما ولد الذي لا يلد ، فما ههنا يكون للنفي ، وعلى هذا لا بد عن إضمار الموصول أي ووالد ، والذي ما ولد ، وذلك لا يجوز عند البصريين وخامسها : يعني كل والد ومولود ، وهذا مناسب ، لأن حرمة الخلق كلهم داخل في هذا الكلام . وأما قوله تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ فِى كَبَدٍ } ففيه مسائل : المسألة الأولى : في الكبد وجوه أحدها : قال صاحب « الكشاف » : إن الكبد أصله من قولك كبد الرجل كبداً فهو كبد إذا وجعت كبده وانتفخت ، فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة ، ومنه اشتقت المكابدة وأصله كبده إذا أصاب كبده ، وقال آخرون : الكبد شدة الأمر ومنه تكبد اللبن إذا غلظ واشتد ، ومنه الكبد لأنه دم يغلظ ويشتد ، والفرق بين القولين أن الأول جعل اسم الكبد موضوعاً للكبد ، ثم اشتقت منه الشدة . وفي الثاني جعل اللفظ موضوعاً للشدة والغلظ ، ثم اشتق منه اسم العضو الوجه الثاني : أن الكبد هو الاستواء والاستقامة الوجه الثالث : أن الكبد شدة الخلق والقوة ، إذا عرفت هذا فنقول أما على الوجه الأول فيحتمل أن يكون المراد شدائد الدنيا فقط ، وأن يكون المراد شدائد التكاليف فقط ، وأن يكون المراد شدائد الآخرة فقط ، وأن يكون المراد كل ذلك . أما الأول : فقوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ فِى كَبَدٍ } أي خلقناه أطواراً كلها شدة ومشقة ، تارة في بطن الأم ، ثم زمان الإرضاع ، ثم إذا بلغ ففي الكد في تحصيل المعاش ، ثم بعد ذلك الموت . وأما الثاني : وهو الكبد في الدين ، فقال الحسن : يكابد الشكر على السراء ، والصبر على الضراء ، ويكابد المحن في أداء العبادات . وأما الثالث : وهو الآخرة ، فالموت ومساءلة الملك وظلمة القبر ، ثم البعث والعرض على الله إلى أن يستقر به القرار إما في الجنة وإما في النار . وأما الرابع : وهو يكون اللفظ محمولاً على الكل فهو الحق ، وعندي فيه وجه آخر ، وهو أنه ليس في هذه الدنيا لذة البتة ، بل ذاك يظن أنه لذة فهو خلاص عن الألم ، فإن ما يتخيل من اللذة عند الأكل فهو خلاص عند ألم الجوع ، وما يتخيل من اللذات عند اللبس فهو خلاص عن ألم الحر والبرد ، فليس للإنسان ، إلا ألم أو خلاص عن ألم وانتقال إلى آخر ، فهذا معنى قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ فِى كَبَدٍ } ويظهر منه أنه لا بد للإنسان من البعث والقيامة ، لأن الحكيم الذي دبر خلقة الإنسان إن كان مطلوبه منه أن يتألم ، فهذا لا يليق بالرحمة ، وإن كان مطلوبه أن لا يتألم ولا يلتذ ، ففي تركه على العدم كفاية في هذا المطلوب ، وإن كان مطلوبه أن يلتذ ، فقد بينا أنه ليس في هذه الحياة لذة ، وأنه خلق الإنسان في هذه الدنيا في كبد ومشقة ومحنة ، فإذا لا بد بعد هذه الدار من دار أخرى ، لتكون تلك الدار دار السعادات واللذات والكرمات . وأما على الوجه الثاني : وهو أن يفسر الكبد بالاستواء ، فقال ابن عباس : في كبد ، أي قائماً منتصباً ، والحيوانات الأخر تمشي منكسة ، فهذا امتنان عليه بهذه الخلقة . وأما على الوجه الثالث : وهو أن يفسر الكبد بشدة الخلقة ، فقد قال الكلبي : نزلت هذه الآية في رجل من بني جمح يكنى أبا الأشد ، وكان يجعل تحت قدميه الأديم العكاظي ، فيجتذبونه من تحت قدميه فيتمزق الأديم ولم تزل قدماه ، واعلم أن اللائق بالآية هو الوجه الأول . المسألة الثانية : حرف في واللام متقاربان ، تقول : إنما أنت للعناء والنصب ، وإنما أنت في العناء والنصب ، وفيه وجه آخر وهو أن قوله : { فِى كَبَدٍ } يدل على أن الكبد قد أحاط به إحاطة الظرف بالمظروف ، وفيه إشارة إلى ما ذكرنا أنه ليس في الدنيا إلا الكد والمحنة . المسألة الثالثة : منهم من قال : المراد بالإنسان إنسان معين ، وهو الذي وصفناه بالقوة ، والأكثرون على أنه عام يدخل فيه كل أحد وإن كنا لا نمنع من أن يكون ورد عند فعل فعله ذلك الرجل .