Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 92, Ayat: 5-10)

Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وفي قوله { أعطى } وجهان : أحدهما : أن يكون المراد إنفاق المال في جميع وجوه الخير من عتق الرقاب وفك الأسارى وتقوية المسلمين على عدوهم كما كان يفعله أبو بكر سواء كان ذلك واجباً أو نفلاً ، وإطلاق هذا كالإطلاق في قوله : { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ } [ الأنفال : 3 ] فإن المراد منه كل ذلك إنفاقاً في سبيل الله سواء كان واجباً أو نفلاً ، وقد مدح الله قوماً فقال : { وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } [ الإنسان : 8 ] وقال في آخر هذه السورة : { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى * ٱلَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَىٰ * إِلاَّ ٱبْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ ٱلأَعْلَىٰ } [ الليل : 17 - 20 ] ، وثانيهما : أن قوله : { أَعْطَىٰ } يتناول إعطاء حقوق المال وإعطاء حقوق النفس في طاعة الله تعالى ، يقال : فلان أعطى الطاعة وأعطى السعة وقوله : { وَٱتَّقَىٰ } فهو إشارة إلى الاحتراز عن كل مالا ينبغي ، وقد ذكرنا أنه هل من شرط كونه متقياً أن يكون محترزاً عن الصغائر أم لا في تفسير قوله تعالى : { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] وقوله : { وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } فالحسنى فيها وجوه أحدها : أنها قول لا إله إلا الله ، والمعنى : فأما من أعطى واتقى وصدق بالتوحيد والنبوة حصلت له الحسنى ، وذلك لأنه لا ينفع مع الكفر إعطاء مال ولا اتقاء محارم ، وهو كقوله : { أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ } [ البلد : 14 ] إلى قوله : { ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } [ البلد : 17 ] وثانيها : أن الحسنى عبارة عما فرضه الله تعالى من العبادات على الأبدان وفي الأموال كأنه قيل : أعطى في سبيل الله واتقى المحارم وصدق بالشرائع ، فعلم أنه تعالى لم يشرعها إلا لما فيها من وجوه الصلاح والحسن وثالثها : أن الحسنى هو الخلف الذي وعده الله في قوله : { وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ } [ سبأ : 39 ] والمعنى : أعطى من ماله في طاعة الله مصدقاً بما وعده الله من الخلف الحسن ، وذلك أنه قال : { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوٰلَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 261 ] فكان الخلف لما كان زائداً صح إطلاق لفظ الحسنى عليه ، وعلى هذا المعنى : { وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ } أي لم يصدق بالخلف ، فبخل بماله لسوء ظنه بالمعبود ، كما قال بعضهم : منع الموجود ، سوء ظن بالمعبود ، وروي عن أبي الدرداء أنه قال : " " ما من يوم غربت فيه الشمس إلا وملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين . اللهم أعط كل منفق خلفاً وكل ممسك تلفاً " " ورابعها : أن الحسنى هو الثواب ، وقيل : إنه الجنة ، والمعنى واحد ، قال قتادة : صدق بموعود الله فعمل لذلك الموعود ، قال القفال : وبالجملة أن الحسنى لفظة تسع كل خصلة حسنة ، قال الله تعالى : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ } [ التوبة : 52 ] يعني النصر أو الشهادة ، وقال تعالى : { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } [ الشورى : 23 ] فسمى مضاعفة الأجر حسنى ، وقال : { إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ } [ فصلت : 50 ] . وأما قوله : { فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } ففيه مسائل : المسألة الأولى : في تفسير هذه اللفظة وجوه أحدها : أنها الجنة وثانيها : أنها الخير وقالوا في العسرى : أنها الشرك وثالثها : المراد منه أن يسهل عليه كل ما كلف به من الأفعال والتروك ، والمراد من العسرى تعسير كل ذلك عليه ورابعها : اليسرى هي العود إلى الطاعة التي أتى بها أولاً ، فكأنه قال فسنيسره لأن يعود إلى الإعطاء في سبيل الله ، وقالوا : في العسرى ضد ذلك أي نيسره لأن يعود إلى البخل والامتناع من أداء الحقوق المالية ، قال القفال : ولكل هذه الوجوه مجاز من اللغة ، وذلك لأن الأعمال بالعواقب ، فكل ما أدت عاقبته إلى يسر وراحة وأمور محمودة ، فإن ذلك من اليسرى ، وذلك وصف كل الطاعات ، وكل ما أدت عاقبته إلى عسر وتعب فهو من العسرى ، وذلك وصف كل المعاصي . المسألة الثانية : التأنيث في لفظ اليسرى ، ولفظ العسرى فيه وجوه أحدها : أن المراد من اليسرى والعسرى إن كان جماعة الأعمال ، فوجه التأنيث ظاهر ، وإن كان المراد عملاً واحداً رجع التأنيث إلى الخلة أو الفعلة ، وعلى هذا من جعل يسرى هو تيسير العودة إلى ما فعله الإنسان من الطاعة رجع التأنيث إلى العودة ، وكأنه قال : فسنيسره للعودة التي هي كذا وثانيها : أن يكون مرجع التأنيث إلى الطريقة فكأنه قال : للطريقة اليسرى والعسرى وثالثها : أن العبادات أمور شاقة على البدن ، فإذا علم المكلف أنها تفضي إلى الجنة سهلت تلك الأفعال الشاقة عليه ، بسبب توقعه للجنة ، فسمى الله تعالى الجنة يسرى ، ثم علل حصول اليسرى في أداء الطاعات بهذه اليسرى وقوله : { فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } بالضد من ذلك . المسألة الثالثة : في معنى التيسير لليسرى والعسرى وجوه : وذلك لأن من فسر اليسرى بالجنة فسر التيسير لليسرى بإدخال الله تعالى إياهم في الجنة بسهولة وإكرام ، على ما أخبر الله تعالى عنه بقوله : { وَالمَلَـٰئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ * سَلَـٰمٌ عَلَيْكُمُ } [ الرعد : 2423 ] وقوله : { طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَـٰلِدِينَ } [ الزمر : 73 ] وقوله : { سَلَـٰمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ } [ الرعد : 24 ] وأما من فسر اليسرى بأعمال الخير فالتيسير لها هو تسهيلها على من أراد حتى لا يعتريه من التثاقل ما يعتري المرائين والمنافقين من الكسل ، قال الله تعالى : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَـٰشِعِينَ } [ البقرة : 45 ] وقال : { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } [ النساء : 142 ] وقال : { مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلاْرْضِ } [ التوبة : 38 ] فكان التيسير هو التنشيط . المسألة الرابعة : استدل الأصحاب بهذه الآية على صحة قولهم في التوفيق والخذلان ، فقالوا : إن قوله تعالى : { فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } يدل على أنه تعالى خص المؤمن بهذا التوفيق ، وهو أنه جعل الطاعة بالنسبة إليه أرجح من المعصية ، وقوله : { فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } يدل على أنه خص الكافر بهذا الخذلان ، وهو أنه جعل المعصية بالنسبة إليه أرجح من الطاعة ، وإذا دلت الآية على حصول الرجحان لزم القوم بالوجوب لأنه لا واسطة بين الفعل والترك ، ومعلوم أن حال الاستواء يمتنع الرجحان ، فحال المرجوحية أولى بالامتناع ، وإذا امتنع أحد الطرفين وجب حصول الطرف الآخر ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض . أجاب القفال رحمه الله عن وجه التمسك بالآية من وجوه أحدها : أن تسمية أحد الضدين باسم الآخر مجاز مشهور ، قال تعالى : { وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] وقال : { فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الإنشقاق : 24 ] فلما سمى الله فعل الألطاف الداعية إلى الطاعات تيسيراً لليسرى ، سمى ترك هذه الألطاف تيسيراً للعسرى وثانيها : أن يكون ذلك على جهة إضافة الفعل إلى المسبب له دون الفاعل . كما قيل في الأصنام : { رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ ٱلنَّاسِ } [ إبراهيم : 36 ] وثالثها : أن يكون ذلك على سبيل الحكم به والإخبار عنه والجواب : عن الكل أنه عدول عن الظاهر ، وذلك غير جائز ، لاسيما أنا بينا أن الظاهر من جانبنا متأكد بالدليل العقلي القاطع ، ثم إن أصحابنا أكدوا ظاهر هذه الآية بما روى عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " ما من نفس منفوسة إلا وقد علم الله مكانها من الجنة والنار ، قلنا : أفلا نتكل ؟ قال : لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له " " أجاب القفال عنه بأن الناس كلهم خلقوا ليعبدوا الله ، كما قال : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] واعلم أن هذا ضعيف لأنه عليه السلام إنما ذكر هذا جواباً عن سؤالهم ، يعني اعملوا فكل ميسر لما وافق معلوم الله ، وهذا يدل على قولنا : أن ما قدره الله على العبد وعلمه منه فإنه ممتنع التغيير ، والله أعلم . المسألة الخامسة : في دخول السين في قوله : { فَسَنُيَسّرُهُ } وجوه أحدها : أنه على سبيل الترفيق والتلطيف وهو من الله تعالى قطع ويقين ، كما في قوله : { ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } إلى قوله { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة : 21 ] وثانيها : أن يحمل ذلك على أن المطيع قد يصير عاصياً ، والعاصي قد يصير بالتوبة مطيعاً ، فهذا السبب كان التغيير فيه محالاً وثالثها : أن الثواب لما كان أكثره واقعاً في الآخرة ، وكان ذلك مما لم يأت وقته ، ولا يقف أحد على وقته إلا الله ، لا جرم دخله تراخ ، فأدخلت السين لأنها حرف التراخي ليدل بذلك على أن الوعد آجل غير حاضر ، والله أعلم . أما قوله تعالى :