Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 96, Ayat: 15-18)
Tafsir: ʿArāʾis al-bayān fī ḥaqāʾiq al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم قال تعالى : { كَلاَّ } وفيه وجوه أحدها : أنه ردع لأبي جهل ومنع له عن نهيه عن عبادة الله تعالى وأمره بعبادة اللات وثانيها : كلا لن يصل أبو جهل إلى ما يقول إنه يقتل محمداً أو يطأ عنقه ، بل تلميذ محمد هو الذي يقتله ويطأ صدره وثالثها : قال مقاتل : كلا لا يعلم أن الله يرى وإن كان يعلم لكن إذا كان لا ينتفع بما يعلم فكأنه لا يعلم . ثم قال تعالى : { لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ } أي عما هو فيه : { لَنَسْفَعاً بِٱلنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَـٰذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : في قوله : { لَنَسْفَعاً } وجوه أحدها : لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار ، والسفع القبض على الشيء ، وجذبه بشدة ، وهو كقوله : { فَيُؤْخَذُ بِٱلنَّوَاصِى وَٱلأَقْدَامِ } [ الرحمن : 41 ] وثانيها : السفع الضرب ، أي لنلطمن وجهه وثالثها : لنسودن وجهه ، قال الخليل : تقول للشيء إذا لفحته النار لفحاً يسيراً يغير لون البشرة قد سفعته النار ، قال : والسفع ثلاثة أحجار يوضع عليها القدر سميت بذلك لسوادها ، قال : والسفعة سواد في الخدين . وبالجملة فتسويد الوجهعلامة الإذلال والإهانة ورابعها : لنسمنه قال ابن عباس في قوله : { سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ } [ القلم : 16 ] إنه أبو جهل خامسها : لنذلنه . المسألة الثانية : قرىء لنسفعن بالنون المشددة ، أي الفاعل لهذا الفعل هو الله والملائكة ، كما قال : { فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَـٰهُ وَجِبْرِيلُ وَصَـٰلِحُ الْمُؤْمِنِينَ } [ التحريم : 4 ] وقرأ ابن مسعود لأسعفن ، أي يقول الله تعالى يا محمد . أنا الذي أتولى إهانته ، نظيره : { هُوَ ٱلَّذِى أَيَّدَكَ } [ الأنفال : 62 ] ، { هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ } [ الفتح : 4 ] . المسألة الثالثة : هذا السفع يحتمل أن يكون المراد منه إلى النار في الآخرة وأن يكون المراد منه في الدنيا ، وهذا أيضاً على وجوه أحدها : ما روي أن أبا جهل لما قال : إن رأيته يصلي لأطأن عنقه ، فأنزل الله هذه السورة ، وأمره جبريل عليه السلام بأن يقرأ على أبي جهل ويخر لله ساجداً في آخرها ففعل ، فعدا إليه أبو جهل ليطأ عنقه ، فلما دنا منه نكص على عقبيه راجعاً ، فقيل له مالك ؟ قال : إن بيني وبينه فحلاً فاغراً فاه لو مشيت إليه لالتقمني ، وقيل : كان جبريل وميكائيل عليهما السلام على كتفيه في صورة الأسد والثاني : أن يكون المراد يوم بدر فيكون ذلك بشارة بأنه تعالى يمكن المسلمين من ناصيته حتى يجرونه إلى القتل إذا عاد إلى النهي ، فلما عاد لا جرم مكنهم الله تعالى من ناصيته يوم بدر ، روى أنه لما نزلت سورة الرحمن علم القرآن قال عليه السلام : لأصحابه من يقرؤها منكم على رؤساء قريش ، فتثاقلوا مخافة أذيتهم ، فقام ابن مسعود وقال : أنا يا رسول الله ، فأجلسه عليه السلام ، ثم قال : من يقرؤها عليهم فلم يقم إلا ابن مسعود ، ثم ثالثاً كذلك إلى أن أذن له ، وكان عليه السلام يبقى عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغر جثته ، ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة ، فافتتح قراءة السورة ، فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه وأدماه ، فانصرف وعيناه تدمع ، فلما رآه النبي عليه السلام رق قلبه وأطرق رأسه مغموماً ، فإذا جبريل عليه السلام يجيء ضاحكاً مستبشراً ، فقال : يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي ! فقال : ستعلم ، فلما ظهر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في المجاهدين ، فأخذ يطالع القتلى . فإذا أبو جهل ، مصروع يخور ، فخاف أن تكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه ، ولعل هذا معنى قوله : { سَنَسِمُهُ عَلَى ٱلْخُرْطُومِ } [ القلم : 16 ] ثم لما عرف عجزه ولم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه فارتقى إليه بحيلة ، فلما رآه أبو جهل قال : يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعباً ، فقال ابن مسعود : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه ، فقال أبو جهل : بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي ولا أبغض إلي منه في حال مماتي ، فروى أنه عليه السلام لما سمع ذلك قال : " " فرعوني أشد من فرعون موسى فإنه قال { ءامَنتُ } وهو قد زاد عتواً " " ثم قال لابن مسعود : اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحد وأقطع ، فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله ، ولعل الحكيم سبحانه إنما خلقه ضعيفاً لأجل أن لا يقوى على الحمل لوجوه : أحدها : أنه كلب والكلب يجر والثاني : لشق الأذن فيقتص الأذن بالأذن والثالث : لتحقيق الوعيد المذكور بقوله : { لَنَسْفَعاً بِٱلنَّاصِيَةِ } فتجر تلك الرأس على مقدمها ، ثم إن ابن مسعود لما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل بين يديه يضحك ، ويقول : يا محمد أذن بأذن لكن الرأس ههنا مع الأذن ، فهذا ما روي في مقتل أبي جهل نقلته معنى لا لفظاً ، الخاطىء معنى قوله : { لَنَسْفَعاً بِٱلنَّاصِيَةِ } . المسألة الرابعة : الناصية شعر الجبهة وقد يسمى مكان الشعر الناصية ، ثم إنه تعالى كنى ههنا عن الوجه والرأس بالناصية ، ولعل السبب فيه أن أبا جهل كان شديد الاهتمام بترجيل تلك الناصية وتطييبها ، وربما كان يهتم أيضاً بتسويدها فأخبره الله تعالى أنه يسودها مع الوجه . المسألة الخامسة : أنه تعالى عرف الناصية بحرف التعريف كأنه تعالى يقول : الناصية المعروفة عندكم ذاتها لكنها مجهولة عندكم صفاتها ناصية وأي ناصية كاذبة قولاً خاطئة فعلاً ، وإنما وصف بالكذب لأنه كان كاذباً على الله تعالى في أنه لم يرسل محمداً وكاذباً على رسوله في أنه ساحر أو كذاب أو ليس بنبي ، وقيل : كذبه أنه قال : أنا أكثر أهل هذا الوادي نادياً ، ووصف الناصية بأنها خاطئة لأن صاحبها متمرد على الله تعالى قال الله تعالى : { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون } [ الحاقة : 37 ] والفرق بين الخاطىء والمخطىء أن الخاطىء معاقب مؤاخذ والمخطىء غير مؤاخذ ، ووصف الناصية بالخاطئة الكاذبة كما وصف الوجوه بأنها ناظرة في قوله تعالى : { إِلَىٰ رَبّهَا نَاظِرَةٌ } [ القياة : 23 ] . المسألة السادسة : { نَاصِيَةٍ } بدل من الناصية ، وجاز إبدالها من المعرفة وهي نكرة ، لأنها وصفت فاستقلت بفائدة . المسألة السابعة : قرىء ناصية بالرفع والتقدير هي ناصية ، وناصية بالنصب وكلاهما على الشتم ، واعلم أن الرسول عليه السلام لما أغلظ في القول لأبي جهل وتلا عليه هذه الآيات ، قال : يا محمد بمن تهددني وأني لأكثر هذا الوادي نادياً ، فافتخر بجماعته الذين كانوا يأكلون حطامه ، فنزل قوله تعالى : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } وفيه مسائل : المسألة الأولى : قد مر تفسير النادي عند قوله : { وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ } [ العنكبوت : 29 ] قال أبو عبيدة : ناديه أي أهل مجلسه ، وبالجملة فالمراد من النادي أهل النادي ، ولا يسمى المكان نادياً حتى يكون فيه أهله ، وسمي نادياً لأن القوم يندون إليه نداً وندوة ، ومنه دار الندوة بمكة ، وكانوا يجتمعون فيها للتشاور ، وقيل : سمي نادياً لأنه مجلس الندى والجود ، ذكر ذلك على سبيل التهكم أي : اجمع أهل الكرم والدفاع في زعمك لينصروك . المسألة الثانية : قال أبو عبيدة والمبرد : واحد الزبانية زبنية وأصله من زبنية إذا دفعته وهو متمرد من إنس أو جن ، ومثله في المعنى والتقدير عفرية يقال : فلان زبنية عفرية ، وقال الأخفش : قال بعضهم واحده الزباني ، وقال آخرون : الزابن ، وقال آخرون : هذا من الجمع الذي لا واحد له من لفظه في لغة الغرب مثل أبابيل وعباديد وبالجملة فالمراد ملائكة العذاب ، ولا شك أنهم مخصوصون بقوة شديدة . وقال مقاتل : هم خزنة جهنم أرجلهم في الأرض ورؤسهم في السماء ، وقال قتادة : الزبانية هم الشرط في كلام العرب وهم الملائكة الغلاظ الشداد ، وملائكة النار سموا الزبانية لأنهم يزبنون الكفار أي يدفعونهم في جهنم . المسألة الثالثة : في الآية قولان : الأول : أي فليفعل ما ذكره من أنه يدعو أنصاره ويستعين بهم في مباطلة محمد ، فإنه لو فعل ذلك فنحن ندعو الزبانية الذين لا طاقة لناديه وقومه بهم ، قال ابن عباس : لو دعا ناديه لأخذته الزبانية من ساعته معاينة ، وقيل : هذا إخبار من الله تعالى بأنه يجر في الدنيا كالكلب وقد فعل به ذلك يوم بدر ، وقيل : بل هذا إخبار بأن الزبانية يجرونه في الآخرة إلى النار القول الثاني : أن في الآية تقديماً وتأخيراً أي لنسفعاً بالناصية وسندع الزبانية في الآخرة ، فليدع هو ناديه حينئذ فليمنعوه . المسألة الرابعة : الفاء في قوله : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } تدل على المعجز ، لأن هذا يكون تحريضاً للكافر على دعوة ناديه وقومه ، ومتى فعل الكافر ذلك ترتب عليه دعوة الزبانية ، فلما لم يجترىء الكافر على ذلك دل على ظهور معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم . المسألة الخامسة : قرىء : { ستدعى } على المجهول ، وهذه السين ليست للشك فإن عسى من الله واجب الوقوع ، وخصوصاً عند بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ينتقم له من عدوه ، ولعل فائدة السين هو المراد من قوله عليه السلام : " " لأنصرنك ولو بعد حين " . "