Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 1, Ayat: 4-4)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله جل اسمه : { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } قرأ عاصِم والكسائي وخلف ويعقوب بالألف ، والباقون بغيره . وقُرئ بتسكين اللام . وقُرئ بلفظ الفعل ونصب اليوم . وقُرئ مَالِكَ - بالفتح - ومَلِكَ - كذلك - على المدح أو الحالية ، ومالك - بالرفع منوّناً ومضافاً - على أنه خبر مبتدأ محذوف . ومَلكُ كذلك . قيل : المختار بغير الألف لأنه أمدح ، ولأنه قراءة اهل الحرمين ، وقوله : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [ غافر : 16 ] . ولقوله : { مَلِكِ ٱلنَّاسِ } [ الناس : 2 ] . ولأن المُلك يعمّ والمِلك يخصّ . ولأنه لا يكون إلا مع القدرة الكثيرة والاحتواء على الجمع الكثير بالسياسة والتدبير . ولمن قرأ بالألف أن يقول : إنّ هذه الصفة أمدح ، لأنه لا يكون مالكاً للشيء إلا وهو يملكه ، وقد يكون ملِكاً للشيء ولا يملكه . وقد يدخل في المُلك ما لا يصحّ دخوله في المِلك يقال : فلانٌ مالكُ البهائم . ولا يقال : ملِكُ البهائم . ومن هذا ظهر انّ الوصف بالمُلك أعمّ من الوصف بالمِلك ، ولأنه تعالى مالك كلّ شيء وصفَ نفسَه بأنّه : { مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } [ آل عمران : 26 ] . والحق ، أنّ لكل من الوصفين شيئاً من الفضيلة بحسب المفهوم على الآخر ، والله متّصف بكمال كل من المُلك والمِلك . ويومُ الدين ، بمعنى يوم الجزاء ، ومنه " كما تَدين تُدان ، واضافة ملك إلى الزمان كما يقال : ملوك الزمان وملوك الدهر ، وملك زمانه وسيّد عصره ، فهو في المدح أبلغ ، ومعناه : ملك الأمور يوم الدين ، إجراء للظرف مجرى المفعول به على الاتّساع ، كقولهم : يا سارق الليلة أهل الدار . ومن هذا القبيل { وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } [ الأعراف : 44 ] . اعلم إنّ إضافة اسم الفاعل ، إذا أريد به معنى الحالِ أو الاستقبالِ ، لا تكون حقيقة معطية للتعريف ، فلم يجز وقوعُه صفةً للمعرفة ، فكان في تقدير الانفصال . وأما إذا اريد به معنى المضيّ أو الاستمرار كانت حقيقية ، فالأوليان كقولك : مالكُ الساعة . ومالكُ غد . والأخيرتان كقولك : زيد مالك عبده أمس . وهو مالك العبيد . وهذا هو المراد في { مَالِكِ يَومِ الدّينِ } . مكاشفة ايجاد الأشياء إمّا على سبيل التكوين ، كخلْق الأبدان وما في حكمها بحسب النشأة الأولى ، وإما على سبيل الابداع ، كانشاء الأرواح وما في حكمها بحسب النشأة الثانية . والله تعالى خالقُ الخلْق والأمر جميعاً ، مالك الملك والملكوت ، ملك الدنيا والآخرة ، فلما أشار إليهما بذكر صفتي الرحمانية والرحيمية بعد الدلالة على اختصاص الحمد به ، وانّه به حقيق لاستجماعه جميع الصفات الكمالية ، بيّن كيفيّة الخلْق في الدنيا بقوله : { رَبِّ العَالَمين } ، لما مرّت الإشارةُ إليه ، من أنّ هذا العالَم الدنيوي وجوده إنّما يكون على سبيل التدرّج والحدوث شيئاً فشيئاً . وبيّن كيفية إنشاء النشأة الأخرى بقوله : { مَالِكِ يَومِ الدّينِ } ، إذ المِلكُ الحقّ من له ذات كلّ شيءٍ ولا يغيب عنه شيء أصلاً . فيكون وجود الأشياءَ عنه وله دفعةً من غير تراخ ، وهذا معنى الابداع ، والأول معنى التكوين . وإنما سُمّي يوم الآخرة يومُ الدين ، لأنّ فيه وصولُ الأشياء إلى غاياتها الذاتيّة ، وثمراتها التي هي بمنزلة الجزاء والأجرة على الأعمال لقوله تعالى : { ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ } [ غافر : 17 ] ولهذا قيل : الدنيا دارُ العملِ والآخرة دار الجزاء ، كما في قوله { هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ } [ يونس : 30 ] لأن الأولى عالَم الحركاتِ والإنقلابِ في الأطوارِ ، والأخرى هي الموطن والمأوى ، وهي دارُ القرار ومنزل الأبرار والأشرار . ولهذا قال أبو علي الجبائي : أراد بيومِ الدينِ ، يَوم الجزاءِ على الدين وقال محمّد بن كعب : أراد يومَ لا ينفع إلاّ الدين . نكتة اخرى فيها الإشارة الى اختصاص يوم القيامة بذكر الملك فيه يستدعي بيانه تمهيد مقدمة : هي أن بعض الموجودات ممّا لا يتوقّف وجودُه إلاّ على فاعله وغايته ، لكون امكانه الذاتي كافياً في فيضانه عن الفاعل الأول جلّ ذِكْرُهُ ، ومنها ما هو متوقف الوجودِ على قابلٍ مستعدّ واستعداد خاص قريب أو بعيد ، مرهون بأوقاته المعينة . وله علل معدّة مقرّبة بالموادّ إلى فاعلها الحقيقي المتساوي نسبة جوده إلى الجميع في قبول الوجود منه ، وكثير من الناس - حتّى طوائف من المترسّمين بالعلم والدراية - يزعمون أنّ الأسباب المعدّة للأفاعيل المباشرة للتحريكات والتسكينات ، إيّاها هي الفاعلة الموجدة لها ، ويظنّون لقصور النظر وكثرة الحجُب وأغلاط الحواسّ ، انّ القدرة ثابتة لغير الله ، لما يترائى لهم من جريان الأفاعيل على أيدي الأسباب ، وظهور الأمور من الضرب والإحسان والجود والإمتنان والايلام والإنعام والقتل والتجاوز والرقّ والعتق وغيرها على أيدي ذوي الشوكة من الملوك والسلاطين والظَلَمة . ولم يعلم أحدهم - إلاّ العرفاء بالله خاصّة - أنّ هذه الأسباب بمنزلة أعيان منصوبة مقرونة بما يجري عليها من صدور هذه الآثار بلا تأثير من قِبَلها ، وأنّ زمام هذه الأمور كلّها بيد مالك الملوك . وإذا تقرّرت هذه المقدمة فنقول : لمّا كان هذا الاشتباه والاغترار بظواهر الآثار إنّما اختصّ بدار الدنيا ، ونشأ للناس من جهة غشاوة هذا الأدنى ، وفي الآخرة يكشف الغطاء وترتفع الغشاوة عن وجوه البصائر والامتراء ، ويظهر أنّ الكل لله ومن الله وإلى الله ، قال : { مَالِكِ يَومِ الدّينِ } وعلى طبق قوله : { يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً } [ الدخان : 41 ] . لا بمعنى انّه يصير كذلك في ذلك اليوم بعد ما لم يكن ، بل الأمر كذلك أبداً بحسب نفس الأمر ، لكن لمّا لم يصر منكشفاً على الخلائق إلاّ بعد بروزهم عن مكامن هذه الظُلمات والغشاوات ، ووصولهم إلى عالَم الآخرة ، فإذا برزوا من الدنيا وحُشروا إلى الآخرة ، شاهدوا بعين العيان ما سمعه بعضُهم بسمْع الإيمان ، فالتفاوت إنّما هو في الشعور لا في الأمر نفسه ، كما توهمه العبارة ، ولذلك قال قائلهم : @ توهمت قدماً انّ ليلى تبرقَعتْ وانّ لنا في البين ما يمنعُ اللَثْما فلاحَ ولا والله ثمَّةَ حاجبٌ سوى انّ عيني كان عن حُسنِها أعمى @@ ولأن الاسباب هناك منحصرة في السبب الفاعلي والغائي - كما مرّ - ، ولا وجود للقوى والاستعدادات في الآخرة ، إذ كلّ ما بالقوّة يصير هناك بالفعل ، فالفعل لازم للفاعل بلا قابل ، والله مسبّب كل سبب موجود ، وموجِد كلّ فاعل لوجود ؛ فقوّته تعالى تقهر القُوى كلّها ، وعند نوره ينكشف كلُّ نورٍ وضياءٍ ، فهو مالك جميع الأشياء ، يوم يُطوى فيه بساط الأرض والسماء - وها هنا تكون الأمور مرهونةً بأوقاتها متعلّقة الوجود بالقوابل واستعداداتها - كما قال { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] .