Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 1, Ayat: 6-6)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله جل اسمه : { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } الهداية لغة : الإرشاد بلطف ، ولهذا يستعمل في الخير لا في الشر وقوله تعالى { فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ } [ الصافات : 23 ] . يحتمل أن يكون على سبيل التهكّم ومنه الهديّة ، وهوادي الوحش لمقدّماتها ، والفعل منه : هَدى . وقيل : معناه الدلالة على ما يوصِل إلى المطلوب . ونُقض بقوله { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] . وقيل : بل الدلالة الموصِلة إلى المطلوب ، وهو أيضاً منقوض بقوله : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [ فصلت : 17 ] . والحمل على المجاز في كل منهما والحقيقة في الأخرى متصوَّر . وقيل : إنّه تارة تتعدّى بنفسها ، وتارة باللام أو بإلى ، كما في قوله تعالى : { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] . وقوله : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ومعناه على الاول الايصال ، وعلى الأخيرين إراءة الطريق . وفي الكشاف : إنّ أصله ان يعدّى باللام أو إلى ، فعومِل معاملةَ " اختارَ " في قوله تعالى : { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] . والصراطُ : الطريقُ الواضح المتّسع . وأصله السين . لأنه من سرط الطعام إذا ابتلَعه . فكأنه يسرط السابلة ، ولهذا سمّي لقماً ، لأنّه يلتقمهم ، فمَن قرأ بالسين - كابن كثير برواية قنبل ورويس عن يعقوب - راعى الأصل ، ومن قرأ بالصاد ، فلما بَيْن الصاد والطاء من المواخاة في الاطباق والاستعلاء ، كقولهم : مُصيطر ، في مُسيطر . وقرأ حمزة باشمام الصاد الزاي ، ليكون أقرب الى المبدل عنه ، إذ قد يشمّ الصاد صوت الزاي ، وفُصحاهنّ اخلاص الصاد وهي لغة قريش ، ويجمع على " فُعُل " ككِتاب على كُتُب ، ويستوي فيه المذكّر والمؤنث ، كالطريق والسبيل . واعلم أنّ الأمر والدعاء يتشاركان صيغةً ومعنىً ، لأن كلاً منهما طلب ، وإنّما يتفاوتان بالاستعلاء والتسفّل ، أو بالرتبة . وأمّا معنى هذا الدعاء ففيه وجوه : منها : أنّ معناه : ثبّتنا على الدين الحقّ ، لأن الله قد هَدى الخلقَ كلّهم الى الصراط أي طريق الحق من ملّة الاسلام ، إلاّ انّ الإنسان قد تزلُّ قدمُه عن جادته ، وترد عليه الخواطرُ الرديّة فيحسن منه أن يسألَ الله التثبُّت على دينهِ ، والزيادة على هذا ، كما قال الله تعالى : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد : 17 ] . وهذا كقولك لمن يأكل الطعام عندك : كُلْ ، أي : دُمْ على أكله . ومنها : أن المراد دلّنا على الدين الحقّ في مستقبل العمر ، كما دللتنا عليه في الماضي . ويجوز الدعاء بالشيء الذي يكون حاصلاً كقوله تعالى : { قَالَ رَبِّ ٱحْكُم بِٱلْحَقِّ } [ الأنبياء : 112 ] ، وليس فيه تحصيل للحاصل . ومنها : أنّ نفس الدعاء عبادةٌ شريفةٌ من جملة العبادات . وفيه اظهار للانقطاع إليه تعالى ، ويجوز أن يكون لنا فيه مصلحة من الخضوع والخشوع والتذلّل ، وسائر ما يوجب تليين القلوب والتبتّل إليه ، فتحسن المسألة . وقيل في معنى الصراط المستقيم وجوه : أحدها : أنّه كتابُ الله وهو المروي عن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، وعن علي ( عليه السلام ) ، وابن مسعود . وثانيها : إنّه الإسلام ، وهو المرويُّ عن جابر وابن عبّاس . وثالثها : إنّه دين الله الذي لا يقبل غيره ، عن محمد بن الحنفيّة . والرابع : إنّه النبيّ والأئمة القائمون مقامه ، وهو المروي في أخبار أصحابنا والمأثور من أئمّتنا وأنوارنا ( عليهم السلام ) . والأوْلى حمل الآية على العموم ، ليكون أجمع وأشبه منه بكلام من له الأحديّة الجمعيّة . قال بعض المحقّقين : هداية الله تتنوّع أنواعاً لا يحصيها عدّ ، لكنّها في أجناس مرتبة . الأول : إفاضة القوى التي بها يتمكّن المرءُ من الإهتداء الى مصَالحه . كالقوّة العقليّة ، والحواسّ الباطنة ، والمَشاعر الظاهرة ، كما في قوله : { ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [ طه : 50 ] . والثاني : نصْبُ الدلائل الفارقة بين الحقّ والباطل في الاعتقادات ، والصلاح والفساد في الأعمال ، حيث قال : { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [ البلد : 10 ] . وقال : { فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [ فصّلت : 17 ] . والثالث : الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكُتب ، وايّاها عنّى بقوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [ الأنبياء : 73 ] . وقوله : { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء : 9 ] . والرابع : أن يكشف على قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي أو الإلهام والمنامات الصادقة وهذا القسم يختصّ بنيله الأنبياءُ والأولياء ، وإيّاه عنى بقوله : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] . وقوله : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ العنكبوت : 69 ] . فالمطلوب ها هنا إمّا زيادة ما منحوه من الهُدى ، أو الثبات عليه ، أو حصول المراتب المرتّبة عليه ، فإذا قال العارف الواصل : اهْدِنَا ، عنَى ارشِدنا طريقَ السيرِ فيكَ لتَمحو عنّا ظُلمات أحوالنا ، وتميط غواشي أبداننا ، لنستضيء بنور قدسِكَ ، فنراكَ بنوركَ . مكاشفة [ الصراط ومرور الانسان عليه ] اعلم إنّ معرفة حقيقة الصراط واستقامتها والمرو عليه والضلال عنه ، من المعارف القرآنية التي يختص بدركها أهل المكاشفة والمشاهدة ، وليس لغيرهم من سائر المسلمين إلاّ مجرّد التصديق والإذعان به تسليماً وايماناً بالغيب ، لا ببصيرة حاصلة من نور اليقين ونعم ما قيل : مَن لا كشْف له لا عِلْم له . واللمعة اليسيرة من هذا العلم : هي إنّ الموجودات الممكنة منقسمة إلى قائمة ومتحركة ، والعبارة من الأولى ؛ عالَم الأمر والقضاء والإرادة : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ } [ القمر : 50 ] . ومنه نشأ الملائكةُ المقرّبون القائمون بأمره تعالى في منازلهم ومراتبهم ، المفطورون على كمالهم الأصلي ، لا يتعدّونه ، كل له مقام معلوم ، منهم سجود لا يركعون ، ومنهم ركوع لا يسجدون . والعبارة من الثانية ؛ عالَم الخلْق والفعل والتقدير ، قال : { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 104 ] . وعالَم الخلْق دائم الحركة والانتقال والحدوث والزوال ، ونحن قد أقمنا البرهان على تجدّد الطبائع الجسميّة ، وسيلان الجواهر الماديّة برهاناً قطعيّاً ، وبينّا أن غاية جميع هذه الحركات والانقلابات الإرادية والطبيعيّة هو الله تعالى ، وان جميع الموجودات العالية والسافلة بتوجّهون نحوه ويولّون شطره بما يسري إليهم من نور عشقه وفيض رحمته ، وهذا المعنى ممّا يمكن إدراكه بالحدس والتجربة ، لما نشاهد من كلّ موجود نراه شوقاً إلى ما هو أعلى منه ، وحركة إلى ما يشتاقه ويتمنّاه ، ومعاد كلّ موجود إلى ما هو مبدأه ، ومرجعه إلى ما هو منشأه ، وكلّ ما هو أعلى مبدءاً يكون أرفع غاية وأشرف مآباً ومرجعاً ، فمرجع العنصر إلى العنصر كماء المطَر انفصَل من البحر أولاً واتّصل به ثانياً كان بحراً ثمّ بخاراً ، ثمّ انعقد سحاباً ، ثم تقاطَر أمطاراً ، ثم جرى عيوناً وأنهاراً ، ثمّ اتّصل بالبحر فصار بحراً كما كان بعد أن تطوّر أطواراً ، وكذا مرجع النبات مع زيادة منزلة وبركة ، كحال الحبّة في تقاليب الأطوار إلى أن تبلغ مرتبة الثمار ، فيبتدي أوّلها وهو لبٌّ يدفن في الأرض وكاد أن يفسد ويغيب عن ذاته في الأماكن الغريبة ، ثمّ أفادها الله قوّة محرّكة تستحيل بها من حال إلى حال حتّى تنتهي إلى كمالها الأصلي ، فتبلغ إلى درجة اللبّ الذي كانت عليه في بدؤ أمرها مع أعداد كثيرة من أفراد نوعه وفوائد زائدة من القشور والأنوار والأوراق والأزهار . وكذلك حال الحيوان ، فهو أعظم قوساً في العروج إلى الله وأبعد نزولاً وصعوداً من النبات وصورة الأركان : { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ هود : 56 ] . وأمّا الإنسان - أي الحقيقي لا الصوري - فهو الغاية والمقصود الأصلي من جميع الخلائق والأكوان ، ولأجله خلقت المكوّنات وترتّبت الموجودات ونشأت المواليد والآباء والأُمّهات ، فمنازل سيره وصعوده إلى الله واقعة على النصف الصعودي لدائرة الإمكان ، على عكس مراتب نزوله من عند الله الواقعة على النصف النزولي لهذه الدائرة ، وذلك لأنّ الله مبدأه ومعاده ، وهو المهتدي المنعَم عليه المعتني به من أوّل الأمر إلى آخر العهد فلم يزل الإنسان الذي سبقت له المشيّة الأزليّة أن يستعمله الله لسياقة حكمته الى غايتها ، منظوراً إليه في سائر مراتب الاستيداع من حيث أفراد الإرادة المنبعثة عن العلْم الأزلي في مقام القلَم الأعلى العقلي ، ثمّ في مقام اللوح النفسي ، ثمّ في مرتبة الطبيعة باعتبار ظهور حكمتها في الأجسام ، ثمّ في العرش المحدّد للزمان والمكان مستوى الاسم الرحمن ، ثمّ في الكرسي الكريم مستوى الاسم الرحيم ، ثمّ في السموات السبع ، ثمّ في العناصر ، ثمّ في المواليد ، وهلمّ إلى حين استقراره بصفة صورة الجمع بعد استيفاء مراتب الاستيداع ، مخصوصاً بمزيد الاعتناء ، موسوماً بسِمة التوفيق والهداية ، مهتمّا به اهتمامً تامّاً مراعى في كل عالَم وحضرة يمرّ عليهما بحسن الرعاية ، مخدوماً بخدمة أهل ذلك العالَم والمرتبة ، ليتمّ به وبخدمته وإمداده وحسن تلقّيه أولاً ، ومشايعته ثانياً ، ذواتهم وصورهم بحسب ما يدركونه فيه من سِمة العناية وأثر الإختصاص . وما من عالَم من العوالم العلويّة مرّ عليه إلاّ وهو بصدد التعويق في الإنحراف المعنوي ، إن لم تتداركه العناية الإلهيّة ، لغلبة أحكام بعض النشآت ، أو صفة بعض الأرواح الذي يتّصل به حكمه عليه ، وكذلك بعض الأفلاك بالنسبة إلى البواقي ، فيتعوّق أو ينحرف عمّا يقتضيه حكم الاعتدال الجمعي ، وصورة الصراط الوسطي الربّاني الذي هو شأن من سبقَت له العناية في الأزل أن يستعملهم لسياقة حكمة الكون إلى غايتها ، ثمّ الأمثَل فالأمثل . وإذا دخَل عالَمَ المواليد وسيّما من حين تعدّى مرتبة المعدِن إلى مرتبة النبات وعالَمه ، ثمّ منه إلى عالَم الحيوان ، إن لم تصحبه العناية الأزليّة ، ولم يصحبه الحقّ بحسن المعونة والحراسة والرعاية ، وإلاّ حيف عليه ، فانه بصدد آفات كثيرة ، لأنّه عند دخوله عالَم النبات ، إن لم يكن محروساً معتنىً به ، وإلاّ فينجذب ببعض المناسبات التي تشتمل عليها جمعيّته إلى مزاج ردئٍ ، ينحرف به عن صراط الحقّ فيخرج منه تارة أخرى إلى باب العناصر ، ويبقى فيه حائراً عاجزاً ، حتّى يعان ويؤذن له في الدخول مرّة اخرى . فربما عرضت له آفة من العناصر ، كبَردٍ مسدّد أو حرٍّ مفرط أو رطوبة زائدةٍ ، أو يبس غالبٍ ، فيتلف ويخرج ليستأنف دخولاً آخر ، وهكذا مراراً شتّى حسب ما شاء الله وقضاه وقدّره . ثم على تقدير سلامته أيضاً في ما ذكرناه بنعمة الحراسة والرعاية وسائر النَعم التي يستدعيها فقْره ، فإنّه قد يخرج على غير الوجه الذي يقتضي تكوين النشأة الحيوانيّة منه ، فإذا دخل في باب الحيوانيّة ، تضاعفت حاجتُه إلى الحفظ والتربية والصيانة والحراسة من الآفات والمضادّات لواحدٍ واحدٍ من أعضائه وقواه الحيوانيّة بعد قواه النباتية ، فهو مفتقر الى الهداية والتوفيق ، ونعمة السلامة والحراسة والرعاية في كل مرتبةٍ وصورةٍ صورةٍ ونشأةٍ نشأةٍ ، إلى حال مسقط النطفة وحال الولادة ، فهو مفتقر إلى أن يخرجه الله مخرجاً صدقاً ويدخله مدخلاً كريماً من حيث ظاهره وباطنه . فالمختصّان بمسقط النطفة حال التوليد من أحكام الزمان والمكان ، شاهدان طيّ كثير من أحواله البطانة ، والمختصّان بمسقط الرأس حال الولادة ، شاهدان على معظم أحواله الظاهرة ، وسرّ الابتداء في السلوك إلى جانب الحق ، فالعادةُ الإلهيّة جارية بأنّ من اختصّ بمزيد العناية ونعمة الحراسة ، وأثر الإختصاص من بداية أمره ، وشروعه من منبع المشيّة الإلهيّة الى هذا المقام وهو مقام العقل والتكليف والدعوة أن يهديه إلى صراطه ويسوقه إلى تمام النعمة ، وغاية الحكمة ، وغاية الايجاد ، وزينة المعاد ، وصورة الكمال الوجودي ، فأين من يكون أحديّ السير من حين صدوره من غير الحقّ الى عرصة الوجود العيني والنزول الكوني ، لم يتعوق من حيث حقيقته وروحانيّته في عالَم من العوالِم ، ونشأة من النشئآت ، وحضرة من الحضرات ممن يتعوّق ويتردّد لتصادم الموانع والآفات ، ويتكرّر وُلُوجه وخروجه المقتضيان لكثافة حُجُبه ، وكثرة تقلّبه في المحن والعوائق - نعوذ بالله منها . فقوله تعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ } ، بيانٌ للمعونة المطلوبة في الآية السابقة ، فكأنّه قال : كيف أعينكم ؟ فقالوا : اهدِنَا فهذه الآية وما يتلوها كالأجوبة لأسئلة ربّانية ، كما قال بعض العرفاء : فكأنّ لسان الربوبيّة يقول عند قول العبد : اهِدِنا الصِراط : أيُّ صراطٍ تَعنى ؟ فالصراطات كثيرة كلّها لي ، لما تقرّر واشتهر انّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق ، فيقول لسان العبوديّة : اريد منها : المستقيم . فيقول لسان الربوبيّة : كلّها مستقيمة من حيث اتّهج إلى غايتها كلّها ، وإليّ مصير من يمشي عليها جميعاً . فأيّ استقامة تقصد في سؤلك يا عبدي ؟ فيقول لسان العبوديّة : اريد من بين الجميع : { صِرَاطَ الذينَ انْعَمْتَ عَلَيهِم } . فيقول لسان الربوبية : وَمَن الذي لم أنعم عليه ؟ وهل في الوجود شيء لم تسعه رحمتي ولم تشمله نعمتي ؟ فيقول لسان العبوديّة : إنّ رحمتك واسعة ونعمك سابغة شاملة ، لكنّي لست أبغي إلاّ صراط الذين انعمت عليهم النعَمَ الظاهرة والباطنة الصافية من كدر الغضب ومحنته ، وشائبة الضلال ونكبته ، فإنّ السلامة من قوارع الغضَب لا تقنعني ، إذا لم تكن النعم المسدّلة إليّ مطرزة بعلم الهداية المخلصة من محنة الحيرة والضلالة ، وبيداء التيه وورطات الشبهة والشك والتمويه ، وإلاّ فأيّة فائدة في تنعُّمٍ ظاهرّيٍ بأنواع النعم مع تألّم باطني بهواجم التلبيسات المانعة من الاطمينان والسكون ، ورواجم الريب والظنون . هذا في الوقت الحاضر - فدع ما تتوقّعه من اليوم الآخر ، فتذكّر عند هذا قوله ( صلّى الله عليه وآله ) حكاية عن ربّه أنّه قال : " قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين . فإذا قال العبد : { بسم الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ، يقولُ الله : ذكَرني عبدي ، وإذا قال : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، يقولُ الله : حَمَدَني عَبدي . وإذا قال : { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ، يقول الله : عَظَّمني عبدي ، وإذا قال : { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } ، يقول الله : مَجَّدني عَبدي ، وفي رواية فوّضَ إليَّ عبدي . وإذا قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، يقول الله : هذا بيني وبين عبدي ، وإذا قال : اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقيم ، يقول الله : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " . فاعرف كيف تسأل ، تنل من فضل الله ما تؤمل . فصل [ الانسان أشرف الخلائق ] واعلم أنّ الإنسان المهتدي بنور الله ، أشرف الخلائق كلّها ، وأبدع ما في الإمكان ، لأن الله اصطفاه لقُربه ، وأضافه إلى نفسه ، من الله مبدأه وإلى الله منتهاه ، قد باشَر الحقّ ايجاده بنفخه فيه من روحه ، وتخمير جسده بيديه ، واختار لعبدِه الأسماء كما لنفسه ، وآثرَ الخيرة له من لدن نزوله من عنده إلى حين صعوده إليه ، في كل صورة يتلبّس بها ، أو مقامٍ يمرّ عليه ، أو نشأةٍ يظهر بها نفسه ، وموطنٍ يتعيّن فيه النشأة ، وزمانٍ يحويه من حيث تقيّده به وتغيّره معه ، ومكانٍ يستقرّ فيه من حيث هو متحيّزٌ به وحاصلٌ في دائرته . وأول كل ذلك ومبدأه هو من حال تعلّق الإرادة الإلهيّة به عند تعيّنه بعينه الثابت في علمه الأزلي ، ثمّ اتّصال حكم القدرَة به لإبرازه في أطوار الوجود ، ومروره على المراتب الإلهية والكونيّة ، وله في كل عالَم وحضرةٍ يمرّ عليه صورة تناسبه من حيث ذلك العالَم أو الحضرة ، ووديعة يأخذها من جملة النعم ، من التعديل والتسوية ، وتماميّة الخِلقة ، وحسْن الصورة ، والاعتدال ، وحسّن الخلق والعدالة . فكم بين من باشرَ الحقُّ تسويته وتعديلَه ، وجمَع له بين يديه المقدّستين ، ثمّ نفَخ بنفسه فيه من روحه نفخاً استلزم معرفةَ الأسماء كلّها ، وسجودَ الملائكة له أجمعين ، وإجلاسه مرتبة الخلافة عنه في التكوين ، وبين من خلقه بيده الواحدة ، أو بواسطة ما شاء من خلْقه ولم يقبل من حكَمي التسوية والتعديل ما قَبله هذا النائب الربانيّ ، وكون الملك ينفخ فيه الروح بالاذن . كما ورد في الشريعة عنه ( صلّى الله عليه وآله ) انّه قال : يجمع أحدكم في بطن امّه أربعين يوماً نطفة ، ثمّ أربعين يوماً علقة ، ثمّ أربعين يوماً مضغة ، ثمّ يؤمر الملك فينفخ فيه الروح ، فيقول : يا ربّ ، أذكر أم أنثى ؟ أشقيّ أم سعيد ، ما رِزْقُهِ ، وما أجَلهُ ، ما عَمَلُه ؟ فالحق يملي والملك يكتب . فأين هذا من قوله : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ] . شتّان بينهما ها هنا أضاف المباشرة إلى نفسه بضمير الإفراد الرافع للاحتمال ، ولهذا قرع بذلك المتكبّر اللعين المتأبي عن السجود له ، ولعنه وأخزاه بقوله : { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] . وقد وقع التأكيد في هذا المعنى منه ( صلى الله عليه وآله ) بأمور كثيرة ، منها قوله : إنّ الله خلق آدمَ على صورتِه - وبرواية - على صورة الرحمن ، ولقوله في التأكيد الرافع للاحتمال الذي ركن إليه أرباب العقول السخيفة ، الجاهلون بأسرار الشريعة والحقيقة ، في وصيته بعض أصحابه في الغزو : إذا ذبحت فاحسن الذبِحة ، وإذا قتلت فاحسن القِتلة ، واجتنب الوجه فإن الله خلق آدمَ على صورته . وقال أيضاً ( صلوات الله عليه وآله ) : في هذا المعنى : إذا خلق خلقاً للخلافة مسَحَ بيمينه على ناصيته ، فنبّه على مزيد الاهتمام والخصوصيّة . وأشار أيضاً في حديث آخر ثابت : أنّ الذي باشَر الحقُّ سبحانه ايجاده أربعة أشياء ثمّ سرَدها فقال : خلَق جنّة الخُلد بيده ، وكتَب التوراة بيده ، وغرَس شجرةَ طوبى بيده ، وخلَق آدمَ بيده . وقال أيضاً ( صلّى الله عليه وآله ) : الإنسان أعجب موجود خُلق . وكما أنّ هذه الخصائص والكرامات ؛ من كونه مخلوقاً على صورة الرحمن ، منفوخاً فيه من روحه تعالى ، مكرَّماً بكرامة تعليم الأسماء ، محمولاً في برّ الأجساد وبحر الأرواح ، مُخمّراً طينته العقلية والنفسية باليدين مخصوصاً بخلافة الله تعالى في العالمين الكبير والصغير مسجوداً لملائكة الله في النشأتين الجسمانيّة والروحانيّة ، إنما هي للانسان المعنوي الحقيقي ، لا لهذه الأشباه والأمثال من الأعداد الصوريّة ، فكذلك الوصول إليه بالعروج الروحي والسفر المعنوي على صراط الله المستقيم ، يختصّ به دون غيره ، وإلاّ فكل ماشٍ من الحيوان وغيره مارُّ على صراطه الذي يخصّه ، متوجّهاً شطرَ الحقّ . وكما انّ لكل جسم مكاناً مخصوصاً ، وفيه معنى طبيعيّاً يحركه الى حيّزه ويجرّه إلى مطلوبه ولا يقف به دونه ، فكذلك كل نفْس خرجت من معدن مخصوص من معادن الأرواح ، ففيها معنى يحرّكها إلى معدنه الأصلي ، ولا يقف بها دونه ، واختلاف أحوال هذه النفوس البشريّة من اختلاف مباديها المعبَّر عنها بالمعادن في قوله ( صلّى الله عليه وآله ) : الناس معادنٌ كمعادِن الذهبِ والفضّةِ . وإلى هذا المعنى وقعت الإشارة في هذا الكتاب المجيد بقوله تعالى { قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ } [ البقرة : 60 ] . وحركات الجوارح آثار تلك المعاني التي أودعتها القُدرة الأزليّة في النفوس الآدميّة ، إتماماً للحكمة ، وتوسيعاً للرحمة في سائر الأمّة ، واهتماماً بهذا المعنى المجذوب المحبوب ؛ فالنفوس التي لا يكون بينها وبين الحقّ واسطة ، تنجذب إلى جنابه طبعاً كانجذاب إبرة من حديد إلى مغناطيس لا تتناهى قوّته ، وهذه النفوس هي العرفاء بالله حقّاً ، وقوله : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] ، كناية عن أهل الله العارفين به . وإنّما عرفه هؤلاء معرفةً حقيقيةً وايماناً كشفيّاً وإحساناً ، لأنّهم الذين وقَع لهم التجلّي في الأزل بالذات ولغيرهم بالعرض ، فاستغرقوا بكليّتهم في معرفته عند قوله : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [ الأعراف : 172 ] ، وأجابوا بقولهم { بَلَىٰ } ، ايماناً وايقاناً لا تكلّفاً وتقليداً ، أو مجازفة ونفاقاً . ولقد أفصح عن هذا المعنى شيخ الطائفة عبد الله الأنصاري حيث قال : " إلهي تلطّفت لأوليائك فعرَفوكَ ، ولولا تلطّفتَ لأعدائك لما جحدوكَ " فهذه حكم النفوس التي لم تكن بينها وبين الحقّ واسطة في البداية ، فلا جرم هم المجذوبون إليه تعالى الواصلون إليه في النهاية ، وغيرهم إما سالكون ، أو واقفون بالعوائق البدنيّة ، أو مردودون إلى أسفل سافلين بالعقائد المهلكة الشيطانيّة . فقد قارَن الحقُّ سبحانه بين السالك والمجذوب في العطاء والنصيب ، فقال عزَّ مِن قائل : { ٱللَّهُ يَجْتَبِيۤ إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } [ الشورى : 13 ] . وقد وقع التنبيه منه ( صلّى الله عليه وآله ) على هذا المعنى فقال في جنازة واحد من أصحابه : " اهتزّ عرش الرحمن لموته " ، وقال في حقّ طائفة اخرى لما ذكر : " إن الموت ينتقي خيار الناس ، الأمثَل فالأمثل ، حتّى لا يبقى إة حثالة كحثالة التمْر أو الشعير ، لا يبالي الله بهم " . فأين من يهتزّ بموته عرش الرحمن ممّن لا يبالي الله به أصلاً ، فكما هو الأمر آخراً فكذا هو الأمر أولاً . بل الخاتمة عين الرجوع إلى السابقة ، فافهم واغتنم . فلنرجع متمّمين لما وقع الشروعُ فيه مستعينين بالله وهدايته . تأييد استبصاري ومما يؤيّد ما أصّلناه ، ويؤكّد ما قرّرناه من الحركة الجوهريّة ، والسلوك الباطني المستمرّ للانسان وغيره من الأكوان ، قول الشيخ الإلهي والعارف الربّاني في الفتوحات المكيّة في باب تقلّب باطن الإنسان : إنّ الحقَّ لم يزل في الدنيا متجلّياً للقلوب دائماً ، فتتنوع الخواطر فيها لتجلّيه ، وإن تنوّع الخواطر في الإنسان عينُ التجلّي الإلهي من حيث لا يشعر بذلك إلاّ أهل الله ، كما انّهم يعلمون انّ الصور الظاهرة في الدنيا والآخرة في جميع الموجودات كلّها ليس غير تنوّع التجلي ، فهو الظاهر ، إذ هو عين كلّ شيء ، وفي الآخرة يكون باطن الإنسان ثابتاً ، فإنّه عين ظاهر صورته في الدنيا ، والتبدّل فيه حقيٌّ وهو خلقه الجديد في كلّ زمان ، الذي هو في لبس منه ، وفي الآخرة يكون ظاهره مثل باطنه في الدنيا ، ويكون التجلّي الإلهي له دائماً بالفعل ، فيتنوّع ظاهرُه في الآخرة كما يتنوّع باطنه في الدنيا في الصور التي يكون فيها التجلي الإلهي ينصبغ بها انصباغاً ، فذلك هو التضاهي الإلهي الخيالي ، غير أنّه في الآخرة ظاهر وفي الدنيا باطن ، فحكم الخيال مستصحب للانسان في الآخرة وللحق . وذلك هو المعبَّر بالشأن الذي هو فيه الحقّ من قوله : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [ الرحمن : 29 ] . ثمّ قال أيضاً : فكل ظاهرٍ في العالَم صورة ممثّلة كتابيّة مضاهية لصورة إلهيّة ، لأنّه تعالى لا يتجلّى للعالَم الاّ بما يناسب العالَم في عين جوهر ثابت ، كما أنّ الإنسان من حيث أصل جوهره ثابتٌ أيضاً ، فترى الثابت بالثابت منك وهو الغيب منك ومنه ، وترى الظاهر بالظاهر وهو الشاهد والمشهود والشهادة منك ومنه ، وكذا تدركه ، وكذا تدرك ذاتَك ، غير أنّك معروف في كلّ صورة ، أنّك انتَ لا غيرُك ، كما انّك تعلم أنّ زيداً في تنوّعه في كيفياته من خجَل ووجَل ومرَض وعافية ورضىً وغضب ، وكل ما يتقلب فيه من الاحوال ، أنه زيد لا غير ، وكذلك الامر في كل احد . فصل [ في تحقيق الصراط واستقامته ] اعلم إن الصراط لا يكون صراطاً إلا بمرور المارّةِ عليه وقد مرّت الإشارة إلى ان الخلائق كلّها متوجّهة شطرَ الحقّ توجُّهاً غريزيّاً وحركة جِبِليّة نحو مسبّب الأسباب ، وفي هذه الحركة الجِبِلّية لا يتصوّر في حقّهم الضلال والانحراف عمّا عيّن الله لكلّ منهم ، والله آخذٌ بناصِيته ، كما قال الله : { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ هود : 56 ] . وما من موجود في عالَم الخلْق إلاّ وهو حيوان ماشٍ فيكون دابّة . وكل دابّة فالربّ آخذٌ بناصيتها ، وعليه رزقها ، ويعلم مستقرَّها ومستودعَها ، كما قال تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ هود : 6 ] ، فتكون مفطورة على المشي على نهج الاستقامة من غير ضلال ، وأمّا المسمّى إنساناً ، فلوجود الاختيار المخالف للطبع فيه ، ومزاحمة قوّة الوهم الذي يعتريه ، يتصور في حقّه الضلالُ والغوايةُ والنكالُ والغَباوةُ من جهة حركاتِه الإختيارية المورِثةِ له قُرباً أو بُعداً من الله ، المثمِرةِ له سعادةً أو شقاوةً في الدار الآخرة ، فيحتاج الى من يهديه ، ويذكّر له العهد القديم ، ويثبّته على الصراط المستقيم . فالهادي هو الله بالحقيقة بواسطة الكتاب والرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، من يقومُ مقامَه من الأئمة الهداة ( عليهم السلام ) ، فيختصّ الإنسان من بين سائر المخلوقات ، بأن هداه الله بالهدايتين الكونيّة والوضعيّة من جهة حركتيه الاضطراريّة والاختياريّة ، وجمع لأجله بين الدعوتين العامّة والخاصّة ، وشرع له الشريعتين ، وساسه بالسياستين المطبوعة والمجعولة ، وأوجب عليه طاعة الحكمين : التكويني والتدويني ، وذلك لاشتماله على مبدأ الحركتين : الذاتية والإراديّة . أما الحركة الذاتية له ، فهي حركة جوهريّة ، لها كسائر الحركات فاعلٌ وقابلٌ ، ومسافةٌ وبدايةٌ ونهايةٌ ، إلا انّ الحركة في الجوهر تُخالف غيرَها في أمر ، وهو أنّ مسافة هذه الحركة هي عين المتحرّك حقيقة ووجوداً وغيره كمالاً ونقصاً ، بخلاف الحركة في سائر المقولات ، فإنّ المسافة فيها تُباين ذاتَ المتحرّك كما هو المقرّر عند العقلاء . ونحن قد بيّنا صحّة الحركة في مقولة الجوهر في أسفارنا ببيانات برهانيّة ، يضطرّ أهل النظر على الاعتراف بها ، والآيات القرآنيّة الدالّة على هذه الحركة ، وخصوصاً ما للانسان كثيرة . منها : في باب حركة الجواهر الأرضية في ذاتها ، كقوله تعالى : { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ } [ النحل : 88 ] . وقوله : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَاتُ } [ إبراهيم : 48 ] . ومنها : في باب حركة الجواهر السماويّة في ذاتها ، كقوله { وَٱلسَّمَٰوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] . وقوله : { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } [ الأنبياء : 104 ] . ومنها : في تقلّب الانسان في أطوار الوجود ، بقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ } [ الانشقاق : 6 ] . وقوله : { وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الواقعة : 61 ] وقوله : { وَإِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } [ الزخرف : 14 ] . ومنها : في انقلاب الكلّ إليه كقوله { ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ الروم : 11 ] . وقوله : { كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } [ الأنبياء : 93 ] . وقوله : { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ ق : 15 ] . ففاعل هذه الحركة الذاتيّة الانسانيّة - أي محرّكها - هو الله وقابلها - أي موضوعها - هو النفس الإنسانيّة باعتبار قوّتها الاستعداديّة النفسانيّة ، وعقلها المنفعل الهيولاني ، وابتداعها من حين كونها ساذجة عن جميع الصوَر الإدراكيّة الجزئية والكلّية ، وإليه الإشارة في قوله : { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [ الإنسان : 1 ] . وانتهاؤها حالته التي يكون عليها في القيامة . ومسافتها منازل الإنسان بحسب أكوانه الجوهريّة التدريجيّة ، ودرجاته الوجوديّة بحسب قُربه وبُعده من الله ، فله تكوّن بعد تكوّن على نعت الاتّصال التدريجي من الأكثف فالأكثف إلى الألطَف فالألطفِ ، فينتقل من كلّ ظاهر إلى باطنه ، ومن كلّ صورة الى معناها ، فيدخل من الجماديّة والنباتيّة ، ومن الحيوانيّة إلى البشريّة ، ومن التجسّم الى التروّح ، وينقلب من الدنيا الى الآخرة . وبالجملة من نشاة إلى نشأة إلى أن ينتهي الى موطنه الذي تعيّن له عند الله . وبهذا المعنى يكون الموتُ طبييعيّاً للإنسان ، لا كَمَا زعمَه الأطبّاء وغيرهم من أنه بواسطة نفاد الحرارة الغريزيّة ، أو غلبة الرطوبة عليها ، أو لاجل تناهي القوى البدنيّة لكونها جسمانيّة ، إلى غير ذلك من آرائهم القاصرة . وذلك لأنّ النفس الإنسانيّة - كما علمت - متقلّبةٌ في أكوانها الجوهريّة وكلّما انطوت لها نشأةٌ دخلت في نشأة تتلوها . ففي هذه النشاة الدنيويّة تطوّرت بجميع الأطوار الداخلة في عالم الشهادة ، من الجسميّة والجماديّة والنباتيّة على درجاتها ، والحيوانيّة على مراتبها ، فإذا تمّ لها آخر هذه المراتب الواقعة في هذه النشأة ، أخذت في الإنقطاع والولوج في النشأة الآخرة ، وأطوارها الداخلة في عالَم الغيب بحسب الطِباع الأصليّ لها ، من غير قَسر قاسرٍ وسياق سائقٍ خارجي ، بل يسوقها سائقٌ داخليّ جبليّ من جانب الله تعالى كما قال جلّ ذكره : { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ ق : 21 ] . وقوله : { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } [ الزمر : 42 ] . ومما يؤيّد هذا ما ذكره الشيخ المحقّق في الباب الرابع والثمانين ومأتين من الفتوحات حيث قال : اعلم أن الروح الإنساني أوجده الله منذ أوجده مدبراً لصورة طبيعيّة حسيّة له ، سواء كان في الدنيا ، أو في البرزخ ، أو في الدار الآخرة ، أو حيث كان . فأول صورة لبسها ، الصورة التي أخذ عليه فيها الميثاق بالإقرار بربوبيّة الحقّ عليه ، ثمّ إنّه حُشِر من تلك الصورة الى هذه الصورة الجسميّة الدنيويّة ، وحُبس بها في رابع شهر من تكوين صورة جسده في بطن أمّه إلى ساعة موته ، فإذا ماتَ حُشر الى صورة اخرى من حين موته إلى سؤالِه ، فإذا جاء وقتُ سؤاله ، حُشر من تلك الصورة الى صورة جسدِه الموصوف بالموت ، فيحيى به ، ويؤخذ بأسماع الناس وأبصارهم عن حياته بذلك الروح ، إلاّ من خصّه الله بالكشف على ذلك من نبيٍّ أو وليٍّ من الثقلين . وأمّا سائر الحيوان ، فإنّهم يشاهدون حياته وما هو فيه عيناً ، ثمّ يحشر بعد السؤال إلى صورة أخرى في البرزخ يمسك فيها ، بل تلك الصورة [ هي ] عين البرزخ ، والنوم والموت في ذلك على السواء إلى نفخة البعث ، فينبعث من تلك الصورة ويحشر الى الصورة التي فارقَها في الدنيا ، إن كان بقي عليه سؤال . فإن لم يكن من أهل ذلك الصنف ، حُشر في الصورة التي يدخل بها الجنّة . والمسؤول يوم القيامة أيضاً إذا فرغ من سؤاله ، حُشر الى الصورة التي يدخل بها الجنّة أو النار . وأهل النار كلّهم مسؤولون ، فإذا دخلوا الجنّة واستقرّوا فيها ، ثمّ دعوا الى الرؤية ونودوا ، حُشروا في صورة لا تصلح إلاّ للرؤية ، فإذا عادوا حُشروا في صورة تصلَح للجنّة ، وفي كلّ صورة يُحشر يُنسئ الصورة السابقة التي كان عليها ، ويرجع حكمه الى حكم الصورة التي انتقل إليها وحُشر فيها . فإذا دخل سوق الجنة ، ورأى ما فيه من الصوَر ، فأيّة صورة رآها واستحسنها حُشر فيها ، فلا يزال في الجنة دائماً يُحشر من صورة الى صورة إلى ما لا نهاية له ليعلم بذلك الاتّساع الإلهي ، فكما لا تتكرر عليه صورة التجلّي ، كذلك يحتاج هذا المتجلّى له أن يقابل كلّ صورة تتجلّى له بصورة اخرى ينظر إليه في تجلّيه ، فلا يزال يُحشر في الصور دائماً يأخذها من سوق الجنّة ، ولا يقبل من تلك الصور التي في السوق ولا يستحسن منها إلاّ ما يناسب صورة التجلّي الذي يكون في المستقبل ، لأنّ تلك الصورة هي كالاستعداد الخاصّ لذلك التجلّي - فاعلم هذا فإنّه من لُباب المعرفة الإلهيّة - . ولو تفطّنت لعلِمت أنّك الآن كذلك تُحشر في كل نفس في صورة الحال التي أنت عليها ، ولكن يحجبك عن ذلك رؤيتك المعهودة ، وإن كنتَ تحسّ بانتقالك في أحوالك التي عنها تتصرّف في ظاهرك وباطنك ، ولكن لا تعلم انّها صور لروحك تدخل فيها في كل آن ، وتحشر فيها ، ويبصرها العارفون صوراً صحيحة [ ثابتة ] ظاهرة العين . انتهى كلامه الشريف النوري ، وفيه من الفوائد الكشفيّة مما لا يمكن وصفُه فضلاً وشرفاً ، إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين . وأما الحركة الإرادية للإنسان إلى الله ، فهي حركة في الكيف النفساني ، معدّة له في سرعة اللحوق له إلى الله من جهة استكمال كِلا جزئَيه العلمي والعملي بواسطة الأفكار والأذكار الملطفة له والأعمال والأفعال المقرّبة إيّاه الى الله ، وجنس هذه الحركة مما يتطرّق فيه الصواب والخطأ ، والاستقامة على الصراط والضلال ، بخلاف الحركة الأولى ، لكونها جوهريّة ذاتيّة متوجّهة شطرَ كعبة الحقّ لا يتصور فيها الخطأ والانحراف ، والانتكاس ، ولا تكون إلاّ على وجه الصواب والاستقامة ، كما في قوله : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ } [ البقرة : 148 ] . فقوله : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } إشارة إلى الحركة الغريزية الشوقية المفطورة عليها جميع المكوّنات ، وقوله : { فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ } إشارة إلى هذه الحركة الإراديّة للإنسان ، التي بها يقع الاستباق للخيرات ، وسرعة الانسياق إلى الدار الآخرة ، والالتحاق بملكوت ربّنا الأعلى . ولقائل أن يقول : إذا كان الكلّ متوجّه إلى الله تعالى توجّهاً غريزيّاً نحو الفطرة الأخرويّة والكمال الوجودي والفعليّة ، فأين الشقاوة للكفار وأهل المعاصي إذا كان الجميع من أحبّاء الله ، المفطورة على طاعة الحقّ ، والتقرّب منه ، فيلزم كون الناس كلهم سعداء مقرّبين ؟ فنقول : اعلم أنّ هذا التوجّه الغريزي للأشياء كلّها نحو مسبّب الأسباب ، لا ينافي شقاوةَ الأشقياء وعذاب الكفار والمنافقين والعاصين ، فإنّ السعادة شيء ، والقُرب من الله يرفع الوسائط شيءٌ آخر ، وكذا يجب أن يعلم أنّ الفعليّة الوجوديّة وقوّة التجوهر الحاصلة للنفوس الإنسانيّة من جهة انسلاخها من هذا البدن ، وخروجها من القوّة إلى الفعل ، وحدّة بصرها بسبب رفع الغواشي الماديّة ، لا تنافي الشقاوة الأخرويّة ، بل تؤكّدها ، فإنّ غمور النفس بهذا البدن الكثيف ، يوجب لها حالة كالخدر والسكْر لها ، لأجل تلك الحالة ، لا يمكنها إدراك الأمور الأخرويّة من المَثوبات واللذّات التي تكون للسعداء ، والعقوبات والآلام التي تكون للأشقياء . فإذا خرجت من غشاوة الدنيا ، وزال عنها سكْر الطبيعة وتخديرها ، وحانَ وقتُ أن يقعَ بصرُها إلى ذاتها ، فإن كانت من جملة الأشقياء المردودين ، واطّلعت على ما اكتسبته من النقائص والآفات ، تتألّم بها أشدّ الآلام ، وخروجها من القوّة إلى الفعل ، ووجود القوّة الدرّاكة فيها ، وزوال مانع الإدراك عنها ، يوجبان أن تطّلع على صحيفة ذاتها وما كسبته من السعادة أو الشقاوة ، فتلتذّ غاية التلذّذ أو تتألّم غاية التألّم . فقد ظهر أنّ فعلية الوجود وتأكّده في الجملة ، لا ينافيان الشقاوة بإدراك الآلام الحاصلة من الكفر والمعاصي ، وكذا الرجوع الإضطراري إلى الحضرة الإلهيّة لا ينافي الشقاوة والعذاب ، فإنّ أنوار النفوس الإنسانيّة ، إنّما هبطت كالكواكب الى هذا القالب الفاني مدّة هذا الكون الجسماني وغربت فيه ، وستطلع عند خراب القالب ، وانقطاع عمره ، وبوار نشأته من مغربها إلى مشرقها الأصلي ، وخالقها وباريها ، إمّا مظلمةً منكسفةً وإمّا زاهرة مشرقة . والزاهرة المشرِقة غير محجوبة عن الحضرة الإلهيّة ، والمظلمة أيضاً راجعة إلى الحضرة ، إذ المرجع والمصير للكلّ إليه كما مرّ ، إلا انّها ناكسةُ الرؤوس عن جهة أعلى علّيين الى جهة أسفل سافلين ، منقلبة الوجود الى الدنيا ولذّاتها وطيّباتها التي هي بعينها منشأ آلام الآخرة وخبثياتها . أَوَ لاَ ترى النبات في نموّه ونشوئه يتقارب الى عالم السماء والضياء ، إلا انّه منكوس الرأس ، متوجّه نحو السِفل ، ولذلك قال تعالى : { وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ } [ السجدة : 12 ] فبيّن انّ نفوس الأشقياء أيضاً عند ربّهم ، إلا انّهم منكوسون منحوسون ، قد انقلبت وجوهُهم الى أقفيتهم ، وانتكست رؤوسهم عن جهة فوق الى جهة تحت ، وذلك حكم الله وقضاؤه فيمن حرمه توفيقه ولم يهد له سلوك صراطه المستقيم ، نعوذُ بالله من الضلال ، والعدول عن منهج أهل الكمال . فإن قلت : إذا كان الكلّ مفطوراً على حبّه تعالى وطلبه والتشوّق إليه ، فما سبب تفاوت هذه النفوس الإنسانيّة في الهداية والضلال ، والطاعة والمعصية ؟ قلنا : لتفاوتها في الصفاء والكدورة ، والقوّة والضعف ، والشرافة والخسّة ، وبحسب ما يتّفق لها من الأسباب البدنية والأحوال الدنيويّة من الاستعدادات الماديّة ، والعوارض الإتفاقية المتسلسلة المنتهية إلى الأمور العلوية ، والقضاء السابق الأزلي . فالأرواح الإنسية متفاوتة بحسب أصل الفطرة الأولى ، مختلفة في الصفاء والكدورة ، والضعف والقوّة ، مترتّبة في درجات القُرب والبُعد من الله تعالى ، والموادّ السفليّة الواقعة بإزائها متباينة في اللطافة والكثافة ، ومزاجاتها متفاوتة في القُرب والبُعد من الاعتدال الحقيقي ، فقابليّتها لما يتعلّق بها من الأرواح متفاوتة ، وقد قدّر الله تعالى في القضاء السابق بإزاء كل روح ما يناسبه من المودّ وبازاء كلّ معنى ما يحاذيه من الصورة ، فألطف الموادّ والصوَر لأشرف الأرواح وأنوار النفوس . وقد علمت سابقاً ، أن تفاوت النفوس البشرية - المتخالفة الحقائق - ، لتفاوت أصولها ومعادنها العقليّة ، ومفاتيح أبوابها الإلهيّة ، ومن أجلها ومن أجل تفاوتها في الإدراكات والإرادات والأشواق ، وقَع الاختلاف بينها في الهداية والضلال ، والطاعة والعصيان ، والتوفيق والخذلان ، والسعادة والشقاوة ، وحسن العاقبة وسوءها ، والثواب والعقاب ، والجنّة والنار . فإن قلت : ما الفائدة في التكليف بالطاعات ، والدعوة بالآيات ، والأمر والنهي ، والترغيب والترهيب ، إذا كان الجميع منتهياً الى قضاء الله وتقديره ، وما تأثير السعي والجهد والطاعة والعبادة ؟ قلنا : هذه الأمور من جملة الأشياء الواقعة بقضاء الله وقدَره ، والأسباب المقدّرة التي جعلها الله تعالى مهيّجات للأشواق والإرادات ، ومحرّكات ودواعي الى طلب الخيرات ، واكتساب الدرجات ، ومحرّضات على أعمال حسنة مورثة لعادات محمودة ، وأخلاق جميلة ، وملكات فاضلة مزكيّة للنفوس ، منوّرة للقلوب ، مقرّبة إيّاها الى الله ، نافعة في معاشنا ومعادنا ، يحسن بها حالنا في دنيانا ، وتحصل بها سعادة عقبانا ، أو محذّرات من الشرور والقبائح ، والذنوب والرذائل المكدّرة للنفوس ، المسوّدة للقلوب ، مما يضرّنا في العاجل ونشقى به في الآجل . وكذلك السعي والجدّ والتدبير والحذر ، مهيِّئة لمطالبنا ، موصِلة إيّانا الى مقاصدنا ، مخرِجة لكمالاتِنا من القوّة الى الفعل ، كما قال ( صلّى الله عليه وآله ) لمن سأله : هل يغني الدواء والرُقْية من قدَر الله ؟ فقال : " الدواءُ والرقية أيضاً من قدَرِ الله " . ولمّا قال ( صلّى الله عليه وآله ) : " جفَّ القلمُ بما هو كائن " . قيل : ففيمَ العملُ ؟ فقال : " اعملُوا فكلٌ ميسِّر لِما خُلقَ له " . ولما سئل : أنحنُ في أمرٍ فُرغ منه أو في أمرٍ مستأنَف ؟ فقال : " في أمرٍ مفروغٍ منه وفي أمرٍ مستأنف " . فإن قلت : لِماذا وقعَ هذا التفاضُلُ والتخالفُ في أصل الفِطَر والغرائز ولم تتساو في الشرف والخسّة ؟ فما بالنا كنّا مختلفين في الجواهر بحسب الصفاء والكدورة ، ولم نتشاكل في السعادة ولا نتعادل ، فصار السعيدُ مبروراً والشقيُّ محروماً ؟ وما سبب التفاوت في هذه القسمة من خزانة الغيب ، الزيادة والنقصان في النصيب من الرحمة الإلهيّة ؟ وما هذا الحيف والجورُ لنا ؟ وأين عدلُ الله فينا وكُلّنا عبيدُه والمحتاجون إلى قسمته ورزقه وقد قال الله : { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ ق : 29 ] . فنُجيبك : يا أخا الطريقة بعد ما زالت عنك الدهشة ، وآب إليك القرار ، ورجعت السكينة والوقار ، فلستَ أولَ من زلَّ في هذا المقام ، واستنفر من هذا الكلام ، ثمَّ رجع وتاب وآمن وأناب ، بمثل ما قال الشاعر : @ هون على بصري ما شقّ منظره فإنّما يقظات العين كالحلم @@ أما كون الشريفِ شريفاً والخسيسِ خسيساً ، فليس بجعْل جاعلٍ وتأثير مؤثّر . وأما السؤال بأنّه لِمَ خلق الله الشيءَ الخسيس في العالم ، ولم يجعل الايجادَ مقصوراً على الأشرف ؟ فجوابك ؛ بأنّه لو اقتصر على الممكن الأشرف في الايجاد ، لبقيت كلّ الموجودات طبقةً واحدة ، بل انحصرت في العقل الأول ، ولبقيت المراتبُ الباقيةُ في كتْم العَدم مع إمكان وجودها ، فكان حَيفاً عليها وجَوراً ، لا عدلاً وقسطاً . فالعناية الإلهيّة تقتضي نظم الوجود على أحسن ما يمكن ، فلو أمكن أحسن مما هو عليه الآن ، لوُجِد من جود الواهب المنّان ، ولو تساوت الموجودات في الشرف والكمال والنقص والتمام ، لفاتَ الحُسن في ترتيب النظام ، وارتفع الصلاح ، ولو لم توجد النفوسُ الشقيّة والطبايع الغليظةُ لكان لا تتمشّى أمورهم ولا تتهيّأ مصالحهم ، وبقي الاحتياج إليها في العالَم مع فقْدها . كما لو كان البصل زعفراناً ، والدِفلى أقحواناً ، أو لم يوجد البصل والدُفلى أصلاً لحرمت الناس من منافعها ، وتضرّروا في فقْدها مع إمكان وجودها . وكما لا يختلج في صدرك أنّ البصَل لِمَ لمْ يكن زعفراناً ، والقيصوم ضَيْمَراناً ، والكلْب أسداً والوهمُ عقلاً ؛ فيجب أن لن ينقدح في بالك أنّ الباقل لماذا لم يكن سَحْباناً ، والفقير سلطاناً ، والشقيّ سعيداً ، والجاهل الشرّير عالِماً خيّراً ؟ إذ لو كان كذلك ، لاضطرّ السلطان إلى صنعة الكنْس ، والحكيمُ المتألّه الى مباشرة الرجس ، فما بقي التناسل على تقدير التماثل ، وبطل النظام ، ووقع الهَرْج والمَرْج ، فلم يكن ذلك عدلاً بل كان ظُلماً وجوراً . ثمّ إنّ الدنيَّ لا يتألّم من دناءته ، والخسيسَ لا يتضرّر من خسّته ، والجاهلَ جهلاً بسيطاً لا يتعذّب بجهله ، والعامي الأعمى البصيرة لا يشقى بعماه الأصلي ، لكون كلّ منهم لم يغيّر ما هو عليه ليتألّم بفقْد كمالِه ، ويتعذّب بضدّ حالِه ، بل كلّ أحدٍ يعشق ذاتَه ويحبُّ نفسَه ، وإن كان خسيساً دَنِياً . وفي المَثَل السائر : غِثُّكَ خير من سمين غيرك . فمَن أساء عمله وأخطأ في اعتقاده ، فإنّما ظلَم نفسَه بظُلمة جوهره وسوء استعداده ، وكان أهلاً للشقاوة ، ينادي على لسان الحال ، مهلاً فيداك أوكتا وفُوكَ نفَخ ، وإنّما قصُر استعداده وأظلمَ جوهره لعدم إمكان كونه أحسن مما وجد . كما لا يمكن أن يحصل من أعمى القلبِ البصيرةُ ، وأن يلِدَ القِردُ إنساناً في أحسن صورة وأكمل سيرة : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ هود : 118 - 119 ] . وبالجملة ، تفاوت الخَلْق في الكمال والنقص ، والسعادة والشقاوة ، إمّا بأمور ذاتيّة جوهريّة ، وإمّا بأمور عارضة كسبيّة بواسطة الأعمال والأفعال . فالاختلاف بحسب الأمور الذاتيّة بمحض العناية الإلهية المقتضية لحسن الترتيب وفضيلة النظام ، وليس منشأ للإشكال أصلاً كما علمت . وإمّا بحسب العوارض اللاحقة ، فهي من اللوازم والتوابع الحاصلة بمصادمات الأسباب ، وكل آفة وشرّ يلحق الشيء بسبب أمر خارج إتّفاقي ، فليس مما يدوم عليه ، بل يزول بزوال سببه ، وسيعود الشيءُ الى ما كان عليه أولاً من طبيعته الأصليّة ، والأسباب الإتّفاقية غير دائمة ولا أكثريّة الوجود . اللّهم إلاّ أن تنقلب طبيعةُ الشيء الى طبيعة أخرى ، فتكون هذه الثانية طبيعة أصليّة ، والكلام فيها عائد من أنّ ما يكون عارضاً غريباً لها يزول عنها بسرعة ، فعلم من هذا انّ أكثر أحوال الشيء الخير والسلامة ، وأن الآفة والشرّ من النوادر الاتّفاقية . وأمّا حديث الانتقام الإلهي بالغضب والعقوبات الدائمة للكفّار ، فسيأتي الكلام فيه في تحقيق قوله تعالى : { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } . ولنرجع إلى ما كنّا بصدده إنشاء الله . مشاهدة إشراقية اعلم أنّ الصراط الذي إذا سلكتَ عليه ، وثبّت الله عليك أقدامك ، حتّى أوصلك إلى الجنّة ، صورةُ الهدى الذي أنشأته لنفسك في الدار الدنيا ، بما هداك الله من الأعمال القلبيّة والبدنيّة ، فهو في هذه الدار لا تشاهَد له صورة حسيّة ، وأما في القيامة ، وعلى منظر أصحاب البصيرة الغالب عليهم شهود النشأة الآخرة ، فقد مُدّ لك جسراً محسوساً على متن جهنّم ، أوّله في الموقف وآخره على باب الجنة ، كل من يشاهده يعرف أنّه صنعَتُك وبناؤكَ ، ويعلم أنّه قد كان في الدنيا جسراً ممدوداً على متن جهنمك من نار طبيعتك التي فيها ظلّ حقيقتك . ظلٌّ ذو ثلاث شُعَب ، غير ظليل ولا يغنيها من اللهب بل هو الذي يقودها الى لهب الشهوات ، ويضرم فيها نار النفْس الحيوانية . فالإنسان الكامل السالك الى الله ، المهتدي بنوره ، يعجل بقيامته بإطفاء نار جحيمه بنور ايمانه ونار توبته في الموطن الذي ينفعه لقيامته ، ويقبل منه توبته ، وهو موطن الدنيا ، فإنّ بعد قيامه الدار الأخرى ، لا ينفع فيها عملٌ ، إذ لا تكليف فيها بعملٍ . لأنّها موطن الجزاء . والصراط قد علمتَ أنّه صراطان : صراط الوجود ، وصراط الايمان والتوحيد ، فالمشرك لا قَدم له على صراط الوجود ، والمعطَّل لا قدَم له على صراط الوجود أيضاً . ومن أشرك بالله فهو من الموقف الى النار مع المعطّلة ، ومن أهل النار الذين هم أهلها ، إلاّ المنافقين ، فلا بدّ لهم أن ينظروا الى الجنة وما فيها من النعيم ، فيطمعون على حسب داعيتهم وشوقهم الى الكمال ، فذلك نصيبهم من نعيم أهل الجنان ، ثمّ يُصْرَفون الى النار . وهذا من عدل الله فيهم فقوبلوا بأعمالهم . وأما الموحّد ، فلا يخلّد في النار ، إنّما يُمْسَك ويُسأل ويُعذّب على الصراط ، والصراط على متْن جهنم كما مرّ غائب فيها الكلاليب التي فيها ، يمسكهم الله عليه . ولمّا كان الصراط في النار ، وما ثَمَّ طريقٌ الى الجنّة إلاّ عليه ، قال تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً } [ مريم : 71 - 72 ] ومن عرف معنى هذا القول عرف أنّ مكان النار ما هو . تصوير ايماني قد ورَد في صفة الصراط : أنّه أدقّ من الشَعْر وأَحَدُّ من السيف . وكذا علم حقيقة الايمان والتوحيد ، والعمل بالأركان والتجريد ، ولا تزال في كل ركعة من الصلاة تقول : { أهْدِنا الصِّراطَ المُستَقيم } . فلأمر مّا أوجب الله عليك ذلك ، فأعظمُ الأمور وأجلّها منفعة لك ، تحقيق هذا الصراط وعرفانه ، فإنّه أدقُّ من الشَعْر وأحدُّ من السيف ، فظهوره في الدنيا ظهور عقليٌّ ، وفي الآخرة ظهور حسّي أبينُ وأوضحُ من ظهوره في الدنيا ، إلاّ لمن دعى الى الله على بصيرة كما قال تعالى : { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي } [ يوسف : 108 ] . وقد جاء في الخبر أيضاً : إن الصراط يظهر يوم القيامة منه للأبصار على قدْر نور المارّين عليه ، فيكون دقيقاً في حقّ بعض ، وعريضاً في حقّ آخرين ، يصدّق هذا الخبر قوله تعالى : { يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } [ الحديد : 12 ] والسعي مشي ، وما ثَمَّ طريقٌ الى الله إلاّ الصراط وإنّما قال : بأيمانِهم ، لأنّ المؤمن في الآخرة لا شمال له ، كما انّ الكافر لا يمين له . هذا بعض أحوالك .