Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 13-13)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ومن قبائح أعمال المنافقين : أنّهم يستنكفون عن قبول التعليم ، وعن التقليد للغير ، والتسليم لأمره ، ولا يرضون بمشاركة الناس ترفّعاً لمقامهم ، ومقامهم أدنى من كلّ أحد ، ممّن يقبل التعليم والتأديب والإرشاد والتهذيب . ولمّا كان كمال الإنسان منوطاً بمجموع أمرين : ترْك ما لا ينبغي ، وإتيان ما ينبغي . لذلك نهاهم الله في الآية المتقدّمة عن الفساد في الأرض ، وأمرهم في هذه الآية بالإيمان ولفظة قوله : " آمِنوا " مفعول لم يُسَمّ فاعله ؛ لمعنى قوله : " قيل " ، والإسناد الى صورة الفعل ولفظه جائزٌ ، والممتنع هو الإسناد الى معناه ، فهو مثل قولك : رُكّب " ضَرَبَ " من ثلاثة أحرف . وقوله : { آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } ، في حيّز النصب على المصدريّة ، و " ما " مصدريّة ، مثلها في " بما رجعت " ، أو كافّة مثلها في " ربما " . والتعريف في " الناس " للجنس ، أي كإيمان سائر الناس ، واستدلّ به على قبول توبة الزنديق ، وانّ الإقرار باللسان إيمان ، وإلاّ لم يفد هذا التقييد . أو المراد به الكاملون في الإنسانيّة ، العاملون بمقتضى العقل ، فإنّ اسم الجنس كما يطلق على مسمّاه مطلقاً ، كذلك يستعمل لما يستجمع المعاني المخصوصة به والمقصودة ، والمعاني المختصّة بالإنسان التي يمتاز بها عن سائر الأكوان وسائر الحيوان ، هي الإيمان والمعرفة والعفّة والعدالة والصبر والتقوى والرضا بما أمر الله ، وغير ذلك ، فكلّ من أخلّ بشيء من ذلك ، فقد نقص في الإنسانيّة بحسبه ، وكلّ من قصّر عنها فصحّ سلب الانسانيّة عنه فيقال : زيدٌ ليس بإنسان ، وإن كان في قالب الإنسانيّة ، ومن هذا الباب قوله تعالى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [ البقرة : 18 ] ، ونحوه ، وقد جمع الشاعر بين المعنيين في قوله : @ إذ الناس ناسٌ والزمانُ زمانُ @@ ويمكن أن يكون للعهد ، والمراد به الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ومَن معه أو من آمن من أهل جلدتهم كابن سلام وأصحابه والمعنى : آمِنوا كسائر الناس ، أو كإيمان الخواصّ ايماناً مقروناً بالإخلاص ، متمحّضاً عن شوائب النفاق . والقائل : إمّا رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، أو بعض المؤمنين . وكان من جوابهم أن سفّهوا الناصح لفرط سفَههم ، وجهّلوه لتمادي جهلهم وغرورهم . ومنشأ غرورهم وتسفيههم لأهل الدين أحد أمرين ؛ لأنّ الكفّار على ضربين ، فَمِنْهُمْ مَنْ غَرَّتْه الْحَياةُ الدُنْيَا ، ومنهم من غرِّه بالله الغَرور . أمّا الذين غرّتهم الحياة الدنيا ، فهم الذين لهم زينة في الحياة الدنيا ، ورياسة في قومهم وجمعيّة ويسار ، ورأوا أكثر المؤمنين فقراء تحت ذلّ المسكنة واليأس والبؤس ، فاغترّوا بالدنيا وقالوا : النقد خير من النّسيئة ، والدنيا نقدٌ ، فتكون خيراً من الآخرة لأنّها نسيةٌ ، فلا بدّ من ايثارها . وربما قالوا أيضاً : اليقين خيرٌ من الشكّ ، ولذّات الدنيا يقين ، ولذّات الآخرة شكّ ، فلا يترك اليقين بالشكّ ، فهو هو الباعث لهم على نسبة السفاهة الى المؤمنين . وهذه أقيسة فاسدة ، دالة على أن الملفِّق لها المعوِّل عليها سفيه العقل جاهل القلب ، ولهذا أظهر الله تعالى حال باطنهم وسفاهة عقلهم بقوله : { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ } . وذلك لأنّ قياسَهم فاسدٌ يشبه قياسَ إبليس ، ولكنهم وقعوا فيه واغترّوا به لأنّهم ما علموا وجه فساده . وعلاجه أحد أمرين : إما بالبرهان . وإما التصديق بمجرد الايمان بما أخبره الله تعالى من قوله : { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [ القصص : 60 ] { وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [ الأعلى : 17 ] . { وَما ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ ٱلْغُرُورِ } [ آل عمران : 185 ] . ونحو ذلك . وأما المعرفة بالبرهان ، فهو أن يعرف وجه فساد قياسهم الذي يظنّه الشيطان وفيه أصلان : الأول ؛ صحيحٌ والآخر : وهو قوله : النقد خير من النسيّة ، محل التلبيس ، إذ لو كان النقد مثل النسيّة في القدر والشرَف والمنزلة ، فهو خيرٌ وإلاّ فلا . وعند هذا يفزع الشيطان إلى القياس الآخر ، وهو أكثر فساداً من الأول ، لأن كِلا أصليه باطلٌ ، إذ اليقين خيرٌ من الشكّ إذا كان مثله في المقصود ، وإلاّ فإن التاجر في تعبه ومشقّته على يقين ، وفي ربحه على شك ، والمتفقّه في اجتهاده وتعبه على يقين ، وفي ادراكه رتبة العلم على شكّ ، وكذا سائر النظائر في هذا الباب . فكذلك من شكّ في الآخرة ، ينبغي له بحكم الجزم أن يقول : " الصبر أياماً قلائل قريبٌ بالاضافة الى ما يقال من أمر الآخرة ، فما قيل فيه إن كان كذباً فلا يفوتني إلاّ التنعّم اليسير في أيّام حياتي ، وإن كان صدقاً فأبقى في النار أبد الآباد وهذا لا يطاق " . ولذلك قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لبعض الملحدين : " إن كانَ ما قلتَه حقّاً فقد تخلّصتَ وتخلّصنا ، وإن كان ما قلنا حقّاً ، فقد تخلّصنا وهلكتَ " . وما قال ( عليه السلام ) هذا عن شكّ في أمر الآخرة ، ولكن كلّمَ الملحدَ على قدْر عقلِه ، فبيَّن أنّه مغرورٌ سفيه . وأمّا الأصل الثاني : وهو أنّ الآخرة شكٌّ ، فهو أيضاً خطأ ، بل ذلك يقينٌ عند العارفين والمؤمنين ، وليقينه مدركان : أحدهما : الإيمان والتصديق تقليداً للأنبياء والأولياء ، وذلك أيضاً يُزيل السفه والغُرور ، وأكثر أهل الدين اطمأنّوا به كما تطمئنّ نفس المريض الى تصديق قول الأطبّاء الحذّاق في الدواء ، ولو اعتمد أحدٌ قوله وترَك قول الأطبّاء ، كان سفيهاً معتوهاً ، وهذا القدر من الإيمان كافٍ لجملة الناس ، لأنّه اعتقادٌ جازم يستحثّ على العمل ، وإليه الإشارة بوجه في قوله : { آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ } . وأما المدرك الثاني لمعرفة الآخرة : فالوحي للأنبياء ، والإلهام للأولياء ، ولا تظنّ أيّها الحبيب - هداك الله - انّ معرفة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) لأمر الآخرة ولأمر الدين ولسائر المعارف الإلٰهية ، كانت تقليداً لجبرائيل بالسماع منه والرواية ، كما انّ معرفتك تقليدٌ للنبي تكون معرفتك كمعرفته ، وانّما يختلف المقلَّد فقط . هيهات ، فإنّ التقليد ليس معرفة ، بل هو اعتقاد صحيح ، والأنبياء عارفون . ومعنى معرفتهم أنّهم كُشِف لهم حقيقةُ الأشياء كما هي عليها ، فشاهَدوها بالبصيرة الباطنة ، كما تُشاهد أنت المحسوساتِ بالبصَر الظاهر ، فيخبرون عن مشاهدةٍ ، لا عن سماع وتقليدٍ . وأمّا الذين غرّهم بالله الغَرور ، فمنشأ اغترارهم بالله ما قال بعضهم في أنفسهم أو بألسنتهم : إنّه إن كان لله تعالى معادٌ ولنا عودٌ إليه ، فنحن أحق به وبالسعادة عنده من غيرنا ، لأنّا أعظم منزلةً وأوفر حظاً وأسعد حالاً ، كما أخبر الله تعالى من قول الرجلين المتحاورين في القرآن بقوله : { وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 36 ] . وقال تعالى رداً على أمثاله : { أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ أَمِ ٱتَّخَذَ عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ عَهْداً } [ مريم : 78 ] . كلا فهذا من الغرور بالله . ويشبه القياس من أقيسه إبليس ، وذلك بأنّهم ينظرون مرّة الى نِعم الله تعالى عليهم في الدنيا ، ويقيسون نِعم الآخرة عليه ، وينظرون مرّة الى تأخير الله العذاب عنهم فيقيسون عذاب الآخرة عليه ، ومرّة ينظرون الى الفقراء المؤمنين وهم شعثٌ غبرٌ وكان منهم في زمان النبي ( صلّى الله عليه وآله ) موالي كصُهيب وبلال وخبّاب ، فيزدرونهم ويستحقرونهم ، ويسفّهونهم ، وكان بعض المنافقين يقول لبعض : أنؤمن كما آمن سفيهُ بني فلان وسفيه بين فلان ؟ ! وكانوا يقولون : { أَهَـٰؤُلاۤءِ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ } [ الأنعام : 53 ] . ويقولون : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] . وهذا كلّه أيضاً لحمقهم ، وسفَه عقولهم ، وجهلهم بأحوال الدنيا والآخرة ، فإنّ ترتيب القياس الذي رتّبه إبليس في قلوبهم انّهم قالوا : قد أحسن الله إلينا بنعيم الدنيا ، وكلّ محسن فهو محبٌّ ، وكل محب لأحد فهو يحسن إليه في المستقبل أيضاً كما قال الشاعر : @ لقد أحسن الله فيما مضى كذلك يسحن فيما بقي @@ والتلبيس تحت ظنّه أنّ كلّ محسن محبٌّ ، لا بل تحت ظنّه أنّ انعامه عليه في الدنيا إحسان ، فقد اغترّ أنه كريم عند الله بدليل لا يدلّ على الكرامة ، بل عند ذوي البصائر يدلّ على الهوان ، لأن نعيم الدنيا مهلكات مبعّدات من الله ، وإنّ الله يحمي عبدَه الدنيا وهو يحبّه ، كما يحمي أحدكم مريضَه الطعامَ والشراب وهو يحبّه . وفي الخبر : إن أرباب البصائر ، إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا وقالوا : ذنب عجّلَ لنا عقوبته ، ورأوا إمارة المقْت والإهمال ، وإذا أقبل الفقر قالوا : مرحباً بشعار الصالحين . والسفيه المغرور بوساوس الشيطان بعكس ذلك ، كما اخبر الله تعالى بقوله : { فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ } [ الفجر : 15 - 16 ] . فبيّن ان ذلك لجهله وسفاهته . فكذلك المراد بقوله : { أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ } ، يجوز أن يكون ذلك بياناً لغرورهم وجهلهم بفساد ما تخيّلوه من صورة أقيستهم الفاسدة الأصول ، الباطلة النتيجة ، فإنّ من باع آخرتَه بدنياه بقياس مغالطي ألقاه الشيطان ، فهو السفيه ، ومن خالَف طريقَ الأنبياء والأولياء كلهم ، فهو السفيه . وإنما قال في هذه الآية : " لا يَعْلَمُونَ " ، وفيما قبلها : " لا يَشْعُرُونَ " ، لأن الوقوف على أنّ طريق الإيمان حق وطريق الكفر باطل ، أمر عقلي نظري ، وأما الوقوف على النفاق وما فيه من البَغي والفساد في الأرض ، فأمرٌ ضروري يجري مجرى المحسوس ، لأنه يشاهَد من أقوالهم وأفعالهم ، ولأن ذكر السفَه - وهو نقص العقل وخفّته - مكان ذكر العلْم ، أحسن طباقاً من مكان ذكر الشعور . واصل السفَه الخفّة . يقال : سفهت الريحُ الشيءَ : إذا حرّكته ، قال ذو الرمة : @ جرَين كما اهتزّت رياحٌ تسفَّهت أعاليها مرّ الرياح الرواسم @@ وفي الآية تسلية للعالِم فيما يلحقه في التعليم والنصيحة من سفاهة الجاهل وصوته المستنكَر ، وقوله الباطل ، واعتقاده الفاسد ، وإعجابه بنفسه .