Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 256-256)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
المقالة الثانية عشرة : في قوله سبحانه : { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } وفيه أطوار : الطور الأول في اللَّفظ " اللاَّم " في " الدين " إمّا أنه لام العهد كما ذهب إليه بعض ، أو أنه بدل من الإضافة كما رآه آخرون ، وهو مثل قوله تعالى : { فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [ النازعات : 41 ] . أي : مأواه ، والمراد " في دين الله " . و " الدين " معناه في الأصل : العادة والشأن ، ودانه : أذلّه واستعبده ، يقال : دنته ، فدان ، ثم استعمل بمعنى الجزاء : دانه ديناً ، أي : جازاه ، يقال : " ما تُدين تدان " أي : كما تجازي تجازى بفعلك وبحسب ما عملت ، وقوله تعالى : { أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } [ الصافات : 53 ] . أي : مجزّيون ، ومنه : " الدَّيان " في صفة الله ، و " قوم دين " أي : داينون ، والمدين : العبد . والمدينة : الأمة كأنهما أذلّهما العمل ودنته : ملكته ، ومنه سميَ المصر " المدينة " ثم استعمل بمعنى الطاعة ، ودان له : أطاعه ، ومنه " الدين " ، والجمع : " الأديان " وقد دان بكذا ، ديانة وتديّن به ، فهو دَيّن ومتديّن . الطور الثاني في المعنى والتحقيق فيه : أنَّ " الدِّين " في الحقيقة ، هو التسليم والرضا الحاصلين بسبب العقائد العلميّة التي وقعت بإفاضة الله على القلب المطمئن بالإيمان لمناسبة ذاتيّة ، أو كسبية بمزاولة الأفكار والأنظار في طلب الكشف واليقين ، وكما أنَّ العلوم الضروريّة تحصل في القلب بمجرّد الإفاضة من غير إكراه وجبر ، فكذلك العلوم النظريّة والمعارف الإلهيّة إنَّما تحصل عقيب المبادئ والمقدمات الإلهاميّة ، أو التعليميّة بمجرد الإلقاء في الروع ، والتأثير في الباطن ، والقذف في القلب من غير إجبار في الظاهر وإكراه في القالب . وذلك لأن الدِّين أمر باطني ، ولا تسلّط لأحد على باطن الإنسان وقلبه إلاَّ للواحد الحق ، من جهة المناسبات الذاتيّة ، والقربات المعنويّة ، والمواجيد الذوقيّة ، والمكاشفات الشوقيّة ، والتجليّات الإلهيّة ، وقد ورد في الخبر : " إنَّ الله تعالى إذا تجلّى لشيء خضع له باطنه وظاهره " . وفي الحديث النبوي عليه وآله أفضل الصلوات والتسليم : " ليس الدين بالتمنّي " . مع أن التمنّي نوع من الاختيار ، فكيف يحصل بالإكراه - وهو الإجبار - وذلك لأنّ الدين هو الاستسلام لأوامر الشرع ظاهراً ، والتسليم لأحكام الحق تعالى باطناً من غير حرج في الباطن ، كقوله تعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ } [ آل عمران : 19 ] . وقوله : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] . الطور الثالث فيما سنح لنا بالبال في تحقيق المرام وفي انتظامه بما سبق من الكلام إنَّ الله سبحانه وتعالى بعدما بيَّن معارف التوحيد الذاتي ، والصفاتي ، والأفعالي بوجه شاف كاف متعال ، أراد أن يشير إلى طريق العبودية لهذا المعبود الموصوف بغاية الجمال والجلال ، المنزّه عن المماثل في الكمال والشريك في الأفعال ، فأشار إلى " مقام الرضا " الذي هو من لوازم المعرفة ، واليقين ، والبصيرة التامة ، في أمر الدين ، وهو أعلى مراتب العابدين قبل حصول الفناء ، وأجلَّ مراتب العارفين الصديقين في هذه الحياة الدنيا حين بقاء الوجود فيهم بعدُ ، وعدم اندكاك جبل هويتهم في ملاحظ الهويَّة الأولى ، فقال : { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } . فإنَّ من كان بعد متكلفاً في الدين ثقيلاً عليه حمل أعبائه ، متأدياً بالعبادة غير منخشع القلب ولا سهل الانقياد سلس الإجابة للطاعة ، ولا طوَّاعاً للشريعة من غير كره وانقباض ، فهو بعدُ أسير الهوى والرغبات ، عابد أصنام الشهوات ، وإنَّما يعبد الله ويدعوه تقرّباً به إلى نيل مراده ، وجاعلاً إيّاه وسيلة إلى راحة ذاته ، فهو بالحقيقة مستخدم ربه ، ومستعبد معبوده تعالى الله عنه . ومثل هذا الإنسان لا محالة غير عارف بالمبدإ الأعلى ، بل حاله شاهد على أنَّ إلهه هواه ومعبوده نفسه ، فما دام على هذه الحالة فهو غير واصل إلى مرتبة العبادة والمعرفة ، فتارة يعتريه الخوف ، وتارة يسليه الرجاء ، وفي بعض أوقاته من الجفاء يلجأ إلى باب الصبر ، وفي بعضها يستزيد النعم بالشكر . فإذا ارتقى من هذه المنزلة إلى درجة الرضا والتسلم ، استراح من جميع ذلك ، فلم يحتج إلى جذب مطلوب له ، أو دفع مهروب عنه ، فلا يبقى له كراهة في الدِّين ولا أذية في سلوك طريق المسلمين ، كما ورد في الحديث " أول الإسلام إماطة الأذى عن الطريق " يعني : أول درجات الإسلام الحقيقي مقام الرضا بالقضاء من غير إكراه ، بأن ينظر المرء إلى جميع المخلوقات بعين الرضا ، ويجد في نفسه في جميع ما يسمى بالتكاليف الدينية حالة الارتضاء ، وذلك باب الله الأعظم ، وبه يدخل السالك في التديّن بدينه الذي هو معرفة التوحيد المشار إليه آنفاً والعمل بمقتضاه . وإنَّما قلنا " إنه أول الدرجات " لأنّ هذه المرتبة قاصرة عن مراتب الكاملين الواصلين إلى أدنى حدّ من حدود الكمال ، فإنَّ الراضي يدّعي أنَّ له وجوداً مقابلاً لوجود المرضي عنه ، وله مجال تصرف قد تركه باختياره ، وذلك يستلزم دعوى الشركة في الوجود والتصرف ، تعالى الله عن أن يكون له شريك ، أو معه متصرف . فإن ارتقى من هذه الدرجة ووصل إلى مقام الفناء المحض ، ومحو الأثر ، الذي هو منزل أهل الوحدة المطلقة - لا أقول التوحيد فإنَّه طلب وحدة قسرية ، ولا الاتحاد فإنَّه وإن كان بالطبع لا بالقسر لكن تفوح منه راحة الكثرة - لا يتلفت مثله إلى مقام الرضا والتسليم ، بل مقامه في العبودية والإخلاص المحض ، وأخلص من أن يكون له " ثبوت " حتى يمكن اتصافه بالكمال ، وأن يكون له " هوية " حتى يصير منعوتاً بنعوت الجمال والجلال ، بل هناك ينقطع السلوك والسالك وينعدم الوصول والواصل { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } [ النجم : 42 ] { إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجْعَىٰ } [ العلق : 8 ] . الطور الرابع قال أبو مسلم والقفَّال المعتزلي : " ان الله ما بنى أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، وإنَّما بناه على التمكّن والاختيار " . وفيه نظر : لأنّ الإيمان أصله الاعتقاد الثابت الجازم ، وهو مما لا يكون للاختيار فيه مدخل ، لأنه نفس العلم ، والعلم كسائر الأحوال القلبية يحصل بإفاضة الله من غير فاعل متوسط ، ولا يحصل بالاختيار - كما يحكم به الوجدان الصحيح - ولا يلزم من كونه لا بالاختيار أن يكون حصوله بالإجبار ليكون منافياً لما يستفاد من قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } . وذلك لأنَّ الروح الإنساني من عالم الأمر ، والتصورات الكلية والاعتقادات اليقينية ( القلبية - ن ) أمور موجودة في عالم الأمر ، وكل ما يكون في عالم الأمر فهو أرفع وأجل من أن يكون حصوله بطريق الجبر والاخيار ، بل على سبل الرضا ، والفعل الحاصل بالرضا ما يكون وجوده عين المشيئة ، والمحبة ، والعشق ، والشوق . نعم يمكن الاعتذار من طرف هذا القائل بناء على مذهبه من الاعتزال ، بأن تكون الأعمال جزء الإيمان ، وهي كفعل الطاعات - من الصلاة والصوم ، والزكاة ، والحج ، والكفارات ، وغيرها وترك المناهي الشرعية - والكل أفعال اختيارية لا إجبار فيه ، لكن يرد عليه أنَّ الإكراه غير الإجبار ، لكون أحدهما طبيعياً والآخر نفسانياً ، فنفي أحدهما يستلزم نفي الآخر ، بل الأعمال الشرعية كالصلاة والزكاة وغيرهما - لو أهملها المكلّف استحق للإكراه والزجر ، بل القتل ، فكيف لا يجري فيها الإكراه ، ولهذا قيل : " الآية منسوخة " . والأولى أن يقال : إنَّ الله سبحانه لما بيّن دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً للعذر ، قال بعد ذلك إنَّه لم يبق بعد إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر ، إلاَّ أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه ، وذلك مما لا يجوز في دار الدنيا - التي هي دار الابتلاء - إذ في القهر والإكراه على الدين يبطل معنى الابتلاء والامتحان . ونظير هذا قوله تعالى : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] . وقال في سورة آخرى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] . وقال في سورة الشعراء : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 3 - 4 ] . وممّا يؤكد هذا القول أنه تعالى قال بعد هذه الآية : { قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ } يعني ظهرت البراهين وانكشفت الحجج والبيّنات ، ولم يبق بعدها إلاَّ طريق القسر ، والإكراه ، والإلجاء ، وذلك غير جائز لأنّه ينافي التكليف في هذه الدنيا . الطور الخامس في ذكر أقوال المفسرين فيه وهي عدة أقوال : الأول : إنه في أهل الكتاب خاصّة ، الذين يؤخذ منهم الجزية ، لأنّهم لما قبلوا الجزية سقط القتل ، وحكم المجوس حكمهم ، لأنَّ لهم شبه كتاب ، وأمّا الكفّار الذين تهوّدوا أو تنصّروا فقيل : إنهم لا يقرُّون على ذلك ويكرهون على الإسلام . وقيل : يُقرُّون على ما انتقلوا إليه ولا يكرهون . الثاني : إنها نزلت في قوم خاص من الأنصار ، فقيل : إنه رجل منهم كان له غلام أسود يقال له : " صبيح " وكان يُكرهه على الإسلام - عن مجاهد - . وقيل : " نزلت في رجل من الأنصار يدعى " أبا الحصين " وكان له ابنان ، فقدم تجّار الشام إلى المدينة يحملون الزيت ، فلمّا أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانيّة ، فتنصّرا وخرجا إلى الشام ، فأخبر أبو الحصين رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) فأنزل الله سبحانه : { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : " أبعدهما الله ، هما أول من كفر " فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي ( صلّى الله عليه وآله ) حين لم يبعث في طلبهما ، فأنزل الله سبحانه : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ النساء : 65 ] الآية . وبطريق آخر روي أنّه كان لأنصاري من بني سالم بن عوف ابنان فتنصّروا قبل أن يبعث رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : " والله لا أدعكما حتّى تسلما " فأبيا . فاختصموا إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) فقال الأنصاري : يا رسول الله يدخل بعضي النار وأنا أنظر ؟ فنزلت ، فخلاهما . القول الثالث : إنها في جميع الكفار ، وكان هذا قبل أن يؤمن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) بقتال أهل الكتاب ، ثم نسخ وأمر بقتال أهل الكتاب في سورة براءة وهو قول السدي : وهكذا نُقل عن ابن مسعود وابن زيد أنها منسوخة بآية السيف وقال الباقون : إنها محكمة . القول الرابع : إن معنى قوله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ } أي : لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب " إنه دخل مكرهاً " لأنه إذا رضيَ بعد الحرب ، وصحّ إسلامه فليس بمكره ، ومعناه : لا تنسبوه إلى الإكراه ، فيكون كقوله : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىۤ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً } [ النساء : 94 ] . القول الخامس : إن المراد ليس في الدِّين إكراه من الله سبحانه ، ولكن العبد مخيّر فيه ، لأنّ ما هو دين في الحقيقة هو من أفعال القلوب ، إذا فعل لوجه وجوبه ، فأما ما يكره عليه من إظهار الشهادتين فليس بدين حقيقة ، كما أنَّ من أُكره على كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يكن كافراً ، والمراد الدين المعروف وهو الإسلام ودين الله الذي ارتضاه ، وهذا الوجوب قريب مما ذكرناه سابقاً . المقالة الثالثة عشرة : في قوله سبحانه : { قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ } وفيه رشحات : الرشحة الأولى في اللُّغة يقال : " بان الشيء " و " استبان " و " تبيّن " إذا ظهر ووضح ، ومنه المثل : " قد تبيّن الصبح لذي عينين " وقال بعض العلماء : " عندي أن الإيضاح والتعريف إنّما سمّي بياناً لأنّه يوقع الفصل والبينونة بين المقصود وغيره " . والرشد في اللغة معناه إصابة الخير وفيه لغتان ، رَشَدَ يَرْشِدُ رُشْداً ، والرَّشاد مصدر أيضاً كالرُّشد . والغيُّ نقيض الرشد ، يقال : غوى يغوي غيّاً وغواية ، إذا سلك غير طريق الرشد . الرشحة الثانية في انتظامه بما سبق لما ذكر الدين وأنه لا يحصل بالإكراه شرع في شرح ماهيتّه وقال : { قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ } أي : وضح انكشف مما ذكر سابقاً من شواهد المعرفة ، أنَّ الدين الحقيقي الذي هو سلوك سبيل الله ، وقطع المنازل ، والمراحل التي بين العبد ومولاه المسمّى بالرشد والهدى من " الضلال الحقيقي " الذي هو سلوك سبيل الشيطان والهوى وهو المسمى بالغواية والغي . ووجه هذا التبيّن والانكشاف أن طريق الحق ليس إلاَّ واحداً ، وطرق أهل الضلال وإن كانت مختلفة متكثّرة لا يمكن إحصاؤها ، لكن إذا عرف هذا الواحد ، وانكشف لدى العارف البصير بالبصيرة الباطنة أنه طريق الحق ، يتبين ويتحقق أنَّ ما سواه طريق الضلال . فجميع طرق الضلال تعرف بمجرّد معرفة طريق الحق ، إذ يصدق على كل منها أنَّه غير الحق { فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ } [ يونس : 32 ] ولهذا ورد عن النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلم ) : " ستفترق أمّتي على ثلاث وسبعين فرقة والناجية منها واحدة " وهذا العدد المعيّن لما سوى الفرقة الناجية إنما هو بحسب الأجناس الكليّة ، وإلاّ فهي بحسب الخصوصيّات غير محصورة كما مرّ ، ومع هذا من عرف طريق النجاة يعمل أنَّ غيره طريق الهلاك . الرشحة الثالثة في تحقيق معنى " التبين " في هذا المقام إعلم أنَّ معنى " تبيّن الرشد من الغي " تميّز الحق من الباطل ، والإيمان من الكفر بحسب الواقع ، وبما يلزم من الحجج والبيّنات الدالّة ، والبراهين الواضحة عند من نظر وتدبّر في تلك الأدلّة والبراهين ، لا أنَّ كل مكلّف متنبِّه به ، لأنَّ ذلك خلاف ما هو المعلوم من حال أكثرهم ، لأنهم إما جهّال محض وإما مقلّدون والمقلّد كالجاهل في عدم كونه عارفاً بصيراً ، ويمتاز عنه في كونه معتقداً ، ودرجة المعرفة فوق الاعتقاد ، لأنَّها ممّا يحصل معها الانشراح الباطني ، والمشاهدة المعنويّة دون اعتقاد المقلّد ، إذ لا انشراح ولا اطمئنان معه للقلب ، وإنَّما الفائدة فيه مجرد الاتّباع للقائد العارف في صورة الأعمال الشرعيّة والأوضاع الدينيّة ، الموجبة لرياضة القوى البدنيّة ، وتطويع النفس الأمّارة لئلا تصول على النفس المطمئنّة . وبذلك يحصل للنفس الإنساني الامتياز عن سائر النفوس الحيوانية التي لا معاد لها في الآخرة ، وعن النفوس الشقيّة المتمردة عن طاعة الشريعة التي لها العقوبة الأخرويّة ، وذلك لأنَّ الاقتداء بأهل الكمال - ولو في صورة الأعمال - مع خلوّ النفس عن رذائل الأوصاف وقبائح الأعمال ، وسذاجة القلب عمّا يضاد ، ونيل الرحمة من المبدإ الفعَّال مع صدق النيّة ، وصفاء الطويّة ، يوجب أن ينال المقتدي نصيباً من السعادة الأخرويّة ، واللَّذات الآجليّة التي للعارفين ، وأن تتنوّر ذاته بنور المتابعة لهم والانخراط في سلكهم ، والاستسعاد بسعادتهم على نهج التبيعّة والعرض - لا على وجه الاستقلال - إذ السعادة الحقيقيّة منوطة بالمعرفة الحقيقيّة ، بل هي عينها ، فحيث لا استقلال في المعرفة لا استقلال في السعادة ، ولكن بحسب " من تشبّه بقوم فهو منهم " كان للمتشبِّه بأهل الكمال - بقدر تشبّهه بهم - ضرباً من السعادة في المآل . والله الهادي إلى طريق الصواب وبه الاستعاذة من الضلالة والغواية في سبيل الآخرة والمآب . المقالة الرابعة عشرة : في قوله سبحانه : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا } وفيه تحقيقات : التحقيق الأول في اللُّغة قال النحويون : " الطاغوت " على وزن فعلوت ، نحو جبروت ورحموت و " التاء " زائدة فيه ، وهي مشتقّة من " طغى " وتقديره طغووت إلاَّ أنَّ لام الفعل قلب إلى موضع العين كعادة العرب في القلب نحو : الصاعقة والصاقعة ، ثم قلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها . وصاحب مجمع البيان رحمه الله على أن أصلها " طغيوت " بدل من الياء يدل على ذلك قوله تعالى : { فِي طُغْيَانِهِمْ } [ البقرة : 15 ] . ثم إنَّ " اللام " قدمت إلى موضع " العين " فصارت " طيغوت " ثم قلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار " طاغوت " فوزنها الآن بعد القلب " فلعوت " . وجمع طاغوت : طواغيت وطواغت وطواغ - على حذف الزيادة - والطواغي - على العوض ممّا يحذف - . قال المبرّد في الطاغوت : " الأصوب أنَّه جمع " قال أبو علي الفارسي : ليس الأمر عندي كذلك بل هو مصدر كالرغبوت ، والرهبوت ، والملكوت ، وكما أنَّ هذه الأسماء آحاد كذلك هذا الاسم مفرد وليس بجمع ، وممّا يدلّ على ذلك أنَّه يفرد في موضع الجمع كما يقال " هم رضا " و " هم عدل " ولهذا قال تعالى : { أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ } [ البقرة : 257 ] . وقالوا : وهذا اللفظ يقع على الاحد وعلى الجمع ، أمَّا في الواحد فكما في قوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوۤاْ إِلَى ٱلطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوۤاْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ } [ النساء : 60 ] . وأمّا في الجمع فكما في قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ } [ البقرة : 257 ] . وقالوا : الأصل في التذكير ، فأمّا قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا } [ الزمر : 17 ] . فإنَّما أُنّثت إرادة الآلهة . ويقال : " استمسك بالشيء " إذا تمسّك به . و " العروة " واحدة العرا ، نحو عروة الدلو ، وعروة الكوز ، وإنما سمّيت بذلك لأنّ العروة عبارة عن الشيء الذي يتعلّق به . و " الوثقى " فعلى أوثق وهو من باب استعارة المسحوس للمعقول ، لأنّ من أراد إمساك شيء يتعلّق بعروته ، فكذا هاهنا من أراد إمساك هذا الدين تعلّق بالأدلة الدالّة عليه على وجه اليقين ، ولمَّا كانت دلائل الإسلام أقوى الدلائل وأوضحها ، وأمتنها لا جرم وصفها سبحانه بأنَّها " العروة الوثقى " . و " الفصم " هو كسر الشيء من غير إبانة ، والانفصام : مطاوع الفصم يقال " فصّمته ، فانصم " والمقصود منه المبالغة ، لأنه إذا لم يكن للشيء انفصام فبأن لا يكون لها انقطاع أولى . التحقيق الثاني في معنى الطاغوت وفيه أقوال : أحدها : إنَّه الشيطان عن مجاهد وقتادة ، وهو المروي عن أبي عبد الله جعفر الصادق ( عليه السلام ) . وثانيها : إنه الكاهن عن سعيد بن جبير . وثالثها : إنه الساحر عن أبي العالية . ورابعها : إنه مردة الجن والإنس وكل من يطغى . وخامسها : إنه الأصنام وما عبد من دون الله . وعلى الجملة : من كفر بما خالف أمر الله ويؤمن بالله ويصدق بما جاءت به رسله - صلوات الله عليهم - والوجه فيه أنَّه لمَّا حصل الطغيان عند الاتصال بهذه الأشياء فكانت أسباباً للطغيان كما في قوله تعالى : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ } [ إبراهيم : 36 ] . وسادسها : إنه هو النفس وهو أقرب المبادئ المغوية للإنسان ، إذ ما أضلّه مضلّ ، وما أغواه مغوٍ عن الصراط المستقيم إلاَّ بواسطة ميله وهواه إلى ما يرغب إليه ويعبده ، بل لا يعبد الإنسان معبوداً غير الله إلاَّ بتبعية عبادة عادته وهواه ، كما في قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [ الجاثية : 23 ] وفيما روي عن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) : " ثلاث مهلكات ، شحّ مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه " إشارة إلى ما ذكر ، حيث وصف الأوليان بالمطاع والمتبع ، وأصرح من ذلك ما روي عنه ( صلّى الله عليه وآله ) : " ما عبد معبود في الأرض مثل الهوى " . وسابعها : إنه عالم الهيولى ونشأة الدنية التي هي دار الشهوات المهلكة ودار الغرور بالخيالات المغوية ، والأماني التي لا حاصل لها إلاَّ خسران الآخرة : { كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً } [ النور : 39 ] الآية . وثامنها : إنَّه جهة الإمكان والنقصان في الممكنات التي هي حال الماهيات بحسب ذواتها - بخلاف جهة الوجوب والوجود التي هي حالتها الفائضة عليها من المبدإ الأعلى تعالى - فالأوصاف الذميمة ، والأفعال القبيحة كلها ، إنَّما نشأت من الممكن بواسطة الجهة التي له بالقياس إلى نفسه ، والأخلاق الحسنة والطاعات كلها إنَّما نشأت منه بواسطة الجهة التي له بالقياس إلى ربه ، فبحسب غلبة إحدى الجهتين كان الغالب الصفات والأفعال التي بواسطتها ، والمغلوب ما يقابلها . فمن يكفر بالطاغوت - أي بالالتفات إلى محبة نفسه ، والاهتمام بجلب ما يلذّها ودفع ما يكرهها - فقد استمسك بالعروة الوثقى التي هي الإقبال إلى جنبة الحق والإعراض عن جنبة الباطل ، لأنَّ ذلك يوجب وجدان روح الوصال ونعيم الاتصال والخلاص عن ألم الافتراق وجهنم القطيعة والانفصال . وهذا الوجه قريب المأخذ من السابع ، كيف والهيولى أيضاً منبعها الإمكان لأنها إنَّما صدرت من الوسائط العقلية بواسطة جهة الإمكان فيها - على ما ذكروا في ترتيب الوجود - . والفرق بين الإمكان والهيولى بعد اشتراكهما في كونهما منبع النقائص والآفات أنَّ نفس الإمكان الذاتي مبدأ النقائص الفطرية التي بحسب أصل الماهية النوعية مع قطع النظر عن خصوصيات الأشخاص ، وأنَّ النقصان الذي منشؤه مجرّد الإمكان - أو بحسب تضاعفه - الذي هو من لوازم الماهية التي لا يمكن زوالها وانجبارها ، ولهذا لا يعدونه شرّاً لكونه ملائماً لتلك الماهية غير غريب عنها ، وليس كالآفة والمرض اللاحق ، وأمّا الهيولى والجسميّة - التي تجري مجراه عند قوم - فهي مبدأ النقائص الشخصية كالتشويهات في الخلقة أو ذمائم الصفات في النفس كالجهل والبخل والقساوة وغيرها ، أو قبائح الأفعال كالزنا واللواطة والسرقة وأمثالها ، فإنَّ منشأ الكل هو التعلق بهذا البدن المادي ، ولكن يمكن إزالتها بتهذيب النفس وفعل الخيرات وتبديل السيئات بالحسنات ، بقبول المواعظ والحكم ، واستماع الآيات والأحاديث على وجه التدبّر فيها عن الإصغاء ، وإجابة دعوة الأنبياء فيما جاؤوا به ، والاقتداء بالأئمة الهادين المهديين المعصومين عن الخطإ - سلام الله عليهم من الملِك الأعلى - . وملاك الأمر في جميع ذلك هو قطع التعلّق عن الدنيا ، ورفض عالم الهيولي ؛ لتزِين الروح بالمعارف الحقة الإلهية ، والمعالم اليقينية الدينية التي هي السعادة العظمى . فقوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ } إشارة إلى ذلك القطع والرفض ، { وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ } إشارة إلى تزيُّن النفس بمعرفة الحق الأول بما له من نعوت جلاله وجماله ، وكيفية صدور أفعاله وآثاره في البدو والإعادة ، فالأول تخلية والثاني تحلية . فبهذين الوسيلتين أي التخلية والتحلية استمسك الإنسان بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ، وهو مجاورة الحق الأول والانخراط في سلك مقرّبيه من أهل الجبروت والملكوت . وتاسعها : القوة الوهمية التي هي أعظم جنود الشيطان ، إذ بوسيلتها يتصرف الشياطين بالإغواء والإضلال في نفوس الإنسان ، وسيأتيك لهذا المعنى وجه إن شاء الله تعالى . التحقيق الثالث في معنى الإيمان بالله إعلم أنَّ المراد به الإيمان بحقيقة الله تعالى ، وحقيقة ملائكته وكتبه ، ورسله واليوم الآخر لقوله تعالى : { آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] . وأما الاعتقاد بحقيقة الله فهو الإيمان بوجوده ، وصفاته ، وأفعاله ، وأحكامه . أما الإيمان بوجوده : فهو أن يعلم أنَّ رواء المتحيّزات بل الممكنات موجوداً قديماً قادراً - أي واجباً بالذّات صانعاً للعالم - وذلك بالنظر إلى حقيقة الوجود المعلوم بوجه مّا ، وأن له فرداً موجوداً بذاته ، وإلاَّ لزم تقدم الشيء على نفسه ، أو وجود الممكن من غير سبب ، إذ جميع الممكنات في حكم ممكن واحد في خلوّ ذاته عمّا يوجب الاتصاف بالوجود ، فبملاحظة خلوّ ذات الممكن وعريّه عن طبيعة الوجود ذاتاً واقتضاءً واستلزاماً ، وملاحظة استحالة كون المحال قابلاً للوجود ، يحكم العقل الصّافي عن المحذورات والأمراض النفسانيّة بوجود القيّوم المستغني عمّا سواه كما قال تعالى : { شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [ آل عمران : 18 ] وكقوله : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ فصلت : 53 ] . وبالنظر إلى العالم وطبائع الحركات والمتحركات ، ودقائق الصنع العجيب والنظم الغريب في الممكنات ، كما أرشده الله في القرآن - وليس فوق بيان الله ورسوله بيان - فقال : { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَاداً وَٱلْجِبَالَ أَوْتَاداً } [ النبأ : 6 - 7 ] - إلى قوله : - { وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً } [ النبأ : 16 ] . وقال تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱخْتِلاَفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ … يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 164 ] . وقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ ٱللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً * وَجَعَلَ ٱلْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً } [ نوح : 15 - 16 ] - إلى قوله : - { إِخْرَاجاً } [ نوح : 18 ] . وليس يخفى على من له أدنى مِسكة إذا تأمل بأدنى فكرة ، مضمون هذه الآيات وأدار نظره على خلق السماوات والأرض وعجائب فطرة الحيوان والنبات - فضلاً عن خلقة الآدمي الكامل بالكمال العلمي والعملي - أنّ هذا الأمر العجيب ، والترتيب المحكم لا يستغني عن صانع يدبره ، وفاعل يحكمه ، بل تكاد فطرة النفوس تشهد بكونها مقهورة تحت تسخيره ومصروفة بمقتضى تدبيره ، ولذلك قال تعالى : { أَفِي ٱللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ إبراهيم : 10 ] فمن غفل عن هذا كان راكباً على متن الجهل ، وراكناً عن نهج العقل . وأما الاعتقاد بصفاته : والصفات إمَّا سلبية وإمَّا ثبوتية : فأمّا السلبيّة فهي أن تعلم أنّه مجرّد ، مقدّس عن جميع ضروب التركيب في أي ظرف كان ، لأنّ التركيب يستلزم الإمكان وينافي الوجوب ، والواجب تعالى كما أنّه واجب الوجود بالذات - بحسب الواقع - فكذلك هو واجب الوجود في جميع الشؤون والجهات والأوعية والنشآت الذهنيّة والخارجية ، فيتقدس عن الكثرة والتركيب - ولو من الأجزاء المحمولة - ويلازم الوحدة ولو في العقل ، على أنه يتعاظم عن أن يدخل في وهم أو عقل ، ليتصرف فيه الذهن بالتحليل والتقسيم . ولاستلزام الأجزاء العقلية ، الجنسيّة ، والفصلية ، كون الشيء ذا ماهيّة كلية يعرضها الوجود - والواجب بحت الوجود كما مرّ - فليس مندرجاً تحت نوع أو جنس لكونه محض التعيّن الممتنع اشتراكه بين أمرين ، فهو ليس كليّاً ولا جزئياً إضافياً . ومن هاهنا ينكشف أيضاً أنَّه ليس بجوهر - سواء كان متحيّزاً أو مجرّداً - ولا بعرض - سواء كان كمّاً أو كيفاً أو إضافة - فلا يكون حالاًّ في شيء وإلاَّ لكان عرضاً أو وصورة جوهريّة . ولا يكون محلاً وإلاَّ لكان إمَّا مادة متقوِّمة في تحصلها النوعي بما يحل فيها ، أو موضوعاً متقوماً في شخصيته ، أو في كمال شخصيته بما يحلُّ فيه . ولا متغيراً وإلاَّ لكان جسماً متحركاً زمانياً أو حالاً فيه كالقوى ، أو مباشراً له في التدبير والتحريك مستكملاً به كالنفوس والتوالي بأسرها باطلة فكذا المقدم . والانفعالات والتغيرات التي يسندونها إلى ذاته تعالى كلها إطلاقات مجازية تسند إليه تعالى باعتبار الغاية - كالرحمة والغضب ، والعفو والانتقام ، والابتلاء والامتحان ، وغير ذلك - فلو كان جائز الاتصاف بالغضب - مثلاً - لكان أزلاً وأبداً غضبان ، بل يكون عين الغضب ، وعلى هذا يمتنع عليه الرحمة المقابلة له مطلقاً . فإن قلت : هذا الاعتقاد يبتني على الإيمان بعالم الملكوت ، فمن لا يفهم ذلك - كالعوام - أو يجحده - كأهل الكلام - فما طريقه ؟ قيل : أمّا الجاحد فلا علاج له إلاَّ أن يقال : " إنكارك لعالم الملكوت كإنكارك لعالم الجبروت ، كالذين حصروا العلوم فيما يدرك بالحواس الخمس فأنكروا القدرة والإرادة والعلم ، لأنها لا تدرك بالحواس الخمس ولازموا حضيض عالم الشهادة " . فإن قال : وأنا منهم فإني لا أهتدي إلاَّ إلى عالم الشهادة ، ولا أعلم شيئاً سواه . فيقال له : إنكارك لما شاهدنا مما وراء المحسوسات ، كإنكار السوفسطائية للحواس الخمس ومحسوساتها ، فإنهم قالوا : " ما نراه لا نثق به ، فلعلنا نراه في المنام " . فإن قال : وأنا من جملتهم فإني شاكّ أيضاً في المحسوسات . فيقال : هذا شخص فسد مزاجه وامتنع علاجه فيترك ، فما كل مرض يقوى على علاجه الأطباء ، ولا كل داء له دواء ، بل ربّ داء أعيت الأطباء في تحصيل الدواء . وأما الذي لا يجحد ، فإن كانت عينه التي يشاهد بها عالم الملكوت صحيحة في الأصل نزل فيها ماء أسود لاعتياده بملاحظة عالم الظلمات ، فيمكن الاشتغال بتنقيته - اشتغال الكحَّال بالعيون الظاهرة - وإن كان غير قابل للعلاج - لكونه مختوماً على قلبه - فلا يمكن أن يسلك فيه سبيل التوحيد العقلي ، بل يكلّم معه بكلام التوحيد ويكلّف بالتنطق بشهادة التوحيد ردّاً لذروة التوحيد إلى حضيض فهمه ، وهذا هو التوحيد اللائق بحال القاطنين في عالم الشهادة ، فإنَّ للتوحيد مراتب ، بحسب كل عالَم مرتبة . وتوحيد عالم الشهادة أن يعلم الرجل الحاسِّي أنَّ المنزل يفسد بصاحبين والبلد يهلك بأمرين ، فيقال له على حدّ عقله الذي هو بمنزلة حسّ أهل العلم : " إنَّ إله العالم واحد إذ لو كان فيهما آلهة إلاَّ الله لفسدتا " فيكون ذلك هو اللائق بقدر عقله ، وقد كُلف الأنبياء أن يكلموا الناس على قدر عقولهم . وأما الصفات الثبوتية : فإنّ من يعلم أنَّ الموجود الواجب نسبته إلى جميع الممكنات نسبة واحدة لا يعجز عن بعض دون بعض - بل كلما كان أعظم وجوداً وأعلى رتبة ، صدر منه أقدم مما يكون أضعف وأنقص على ترتيب أنيق ونظام بديع - يعلم بأنّه قادر على جميع الممكنات وعلى أيّ نظام وترتيب كان . ثم من رأى أنَّ هذا النظام أبدع النظامات وأحكمها يعلم بأنّه مريد ، وأن إرادته على وجه الحكمة والجزم لا على نهج الجزاف والتردد ، ويعلم أنَّ إرادته أجلُّ من الاختيار والجبر جميعاً ، ففاعليته على سبيل العناية الأزلية المسماة بالعلم التام المقدم على الإيجاد ، الذي هو أيضاً من مراتب علمه المسمى بالرضا ، والكلام يحتاج بسطه إلى موضع أوسع من هذا المقام . وأما الاعتقاد بأفعاله : وهو أن يؤمن بأنّ الله على كل شيء قدير وما سواه ممكن محدث ، والممكن - بما هو ممكن - محض القوة والفاقة ، فلا يجوز أن يكون سبباً لإخراج الشيء من القوة إلى الفعل ، وإلاَّ لكان للعدم شركة في إفادة الوجود وهو فطري الفساد عند ذوي البصيرة والسَّداد ، فتكون قدرة الله تعالى عامّة شاملة لجميع الذرات ، لأنَّ مشنأ الافتقار عام فلا تأثير للوسائط ، لأنها كلها مسخّرات ، ومعدات ، لا موجبات . فهذا هو التوحيد في الأفعال إلاَّ أنّه وقع في البَين حجاب يمنع أن يرى هذا التوحيد بعين البصيرة ، وهو أنَّ الحوادث الّتي هي الأفعال الاختيارية للحيوانات - وخصوصاً الإنسان - الحكم مطرد فيها ، لأنها ممكنة ، فكل ممكن لا بدَّ من استناده إلى واجب الوجود ، كيف وكل حادث - سواء كان فعلنا الاختياري أم لا - إذا نظرنا إلى حدوثه وإمكانه أدانا النظر اضطراراً إلى وجود الواجب بالذات ، مع أنا نجد من أنفسنا أنَّا نتحرك إن نشأ ، ونسكن إن نشأ فكيف نكون مسخّرين ، والحال أن حركاتنا وسكناتنا بأنفسنا لا بغيرنا ؟ فنقول في الكشف عنه : إنَّ حركاته وسكناتك بمشيئتك ، إلاَّ أنَّ مشيئتك ليست مشيئتك ، بل بقضاء الله وقدره - إذ لو كانت كذلك لافتقرت تلك المشيئة إلى مشيئة أخرى وهكذا إلى غير النهاية - فإذا لم تكن مشيئتك بمشيئتك فهي لازمة لك من أسباب قدرية مؤدية إليها ، فإذ لم تكن المشيئة إليك فمتى وجدت المشيئة التي تصرف القدرة إلى مقدورها انصرفت ، ولا سبيل لها إلى المخالفة وإذا انصرفت لزمت الحركة ضرورة بالقدرة ، والقدرة محركة ضرورة عند إنجزام المشيئة ، والمشيئة تحدث في القلب بالأسباب الخارجية المشاهدة ، وهي تحدث بالأسباب الغائبة عنّا فهذه ضروريات مترتّبة بعضها على بعض ، وليس للعبد أن يدفع وجود المشيئة ، ولا انصراف القدرة إلى المقدور ، ولا وجود بعث المشيئة للقدرة ، فهو مضطّر في الجميع . ولا يتوهمن أحد أنَّ هذا خلق الأعمال الذي ذهبت إليه الأشاعرة القائلين بالجبر المحض من غير اختيار . فإن قلت : ما ذكرت أيضاً جبر ، والجبر ينافي الاختيار ، فكيف يكون إنساناً واحد مضطراً ومختاراً ؟ قلت : لو انكشف لك الغطاء عن عين البصيرة بنور الاهتداء لعرفت أنك مجبور في عين الاختيار ، وتحقيقه يفتقر إلى تحقيق معنى الاختيار ، فاطلبه من كتب أُولي الأبصار ليظهر لك ما يظهر لهم : إنه لايتقدّم متقدّم ولا يتأخّر متأخر إلاَّ بالحق واللزوم ، فكل ما بين السماء والأرض حادث على ترتيب واجب وحق لازم ، ولا يجري في الملك والملكوت طرفة عين ، ولا فلتة خاطر ، ولا لفتة ناظر ، إلاَّ بقضاء الله وقدره ، وإرادته ومشيئته ، لا رادّ لقضائه ولا معقّب لحكمه { يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ النحل : 93 ] . كيف ولو لم يكن هكذا لكانت المعاصي والجرائم الصادرة من الأشقياء - إن كان الله يكرهها ولا يريدها - فإنَّما هي جارية على وفق مراد إبليس - أذلَّة الله - مع أنه عدوّ الله ، ثم القبائح أكثر من الحسنات ، والمعاصي أكثر من الطاعات فيكون الجاري على وفق إرادة العدوّ أكثر من الجاري على وفق إرادة الله تعالى ، وهذا مما لا يليق برئيس قرية فكيف يليق بالملك الجبّار ذي الجلال والإكرام . فقد علم أنَّ الإرادة الأزلية تعلقت بنظام العالم على هذا الوجه العام ، وأما الأوامر والنواهي الشرعية فيه أمور مقرّبة للطاعات ، مبعدة عن المعاصي ، وأسباب مهيجة للخيرات ، دافعة للشرور والآفات ، حسب ما يمكن ويليق لكل أحد . فإن قلت : إذا كان الواقع من المعاصي والشرور بقضاء الله وقدره ، فلماذا يعاقب من ساقه القدر إلى اقتراف خطيئة ؟ يقال : العقوبة من اللوازم والتبعات المتصلة من غير حاجة إلى معاقب منفصل ومنتقم من خارج ، ويدلّ عليه كثير من الآيات القرآنية كقوله تعالى : { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } [ الأنعام : 139 ] { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ } [ العنكبوت : 54 ] { وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ آل عمران : 117 ] . وأما مرتبة الإيمان بأحكامه : فبأن يعتقد أنَّها غير معلَّلة بالدواعي وأغراض زائدة على ذاته راجعة إليه ، لأنَّ كلّ من كانت أحكامه معلَّلة بعلّة غير ذاته كانت ذاته ناقصة بنفسها مستكلمة بغيرها ، وذلك مستحيل على الواجب بالذات . لكن يجب أن يعلم أنَّ الغاية تطلق على معنيين : أحدهما : ما يرجح فاعلية الفاعل على تركها ، وهو في الله علمه بالوجه الأصلح ، وذلك العلم غير زائد عليه تعالى لنفي الزائد مطلقاً عند أهل الحق . وثانيهما : ما يترتب على الفعل سواء كان الفعل متوجّهاً إليه وكان لأجله ، أو لا ، بل يكون من ضروريات الفعل من غير أن تكون الطبيعة متوجهة إليه ، فالأول : كوجود المنافع والمصالح التي روعيت في وجود العالم على الوجه الأتم الأبلغ في النظام ، والثاني : كوجود الاتفاقيات اللاَّزمة ، ويكون لا محالة أقلية والخيرات التي تقابلها أكثرية أو دائمة . فقد ثبت أنَّ أحكام الله وإن لم تعلل بعلة غائية غير ذاته تعالى إلاَّ أنَّ لها غايات وفوائد وثمرات عائدة إلى الممكنات ، والشرور المانعة عن وصول بعض أفراد الممكن إلى كماله اللاَّئق به أمر شاذّ . وهذا في غير الإنسان من الحيوانات أمر واضح لاختصاص وجودها بهذه النشأة الفانية ، فإذا قبض بعضها أو قتل أو جعل فداء وغذاء للإنسان الذي هو غاية عالم الأضداد ، وثمرة الفؤاد لم يكن كثير شرّ في حقها ، لعدم احتمال شخصياتها الوجود الدائم ، فإيثار كونها غذاء وفداء للنوع الأشرف ، وانتفاعه بها على موتها بحتف أنوفها ليس ظلماً وجوراً في حقها ، بل عدلاً وقسطاً وتكريماً لما هو المحقوق به . وأما الشرور الإنسانية بحسب قواها العلمية ، والعملية ، والشهوية ، والغضبية - كالجهل والفسق والجور - فليعلم أنْ ليس كل جهل موجباً للحرمان الدائم عن البقاء الأخروي ، ولا كل رذيلة سبباً للعذاب الأبدي ، بل الجهل المضاد لليقين مع العناد والإصرار ، والرذيلة الراسخة الباتكة لعصمة النجاة ، وأما باقي الضروب من الجهالات فيه لا توجب الحرمان عن رحمة الله بالغفران ، فاعتقادنا في صاحب الكبيرة : أنَّه لا يجب على الله تعذيبه وأنَّه مما يمكن لضرب منه أن ينال رحمة ربه - على ما مرّت الإشارة إليه - وأنَّه سبحانه يغفر لمن يشاء بفضله ، ويعذب من يشاء بعدله . وأما الإيمان بالملائكة فمن أربعة أوجه : أولها : الإيمان بوجودها ، وهذا مما لا خلاف لأحد من المسلمين بل المليِّين كلهم ، وأما البحث عن نحو وجودها وحقيقتها - أنها روحانية محضة أو جسمانية ، أو مركبة من القبيلتين ؟ ( القسمين - ن ) وبتقدير كونها روحانية إمّا عقول صريحة ، أو نفوس مدبِّرة للأجرام ، أو مركبة من القسمين ؟ وبتقدير كونها جسمانية فهي أجسام لطيفة أو كثيفة ؟ فإن كانت لطيفة فهي أجسام نورانية أو هوائية ؟ وإن كان كذلك فكيف يمكن أن تكون مع لطافة أجسامها بالغة في القوة إلى الغاية القصوى ؟ فذلك مقام العلماء الراسخين في علوم الحكمة القرآنية والبرهانية . الوجه الثاني : أن يعتقد أنَّهم معصومون مطهَّرون { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ النحل : 50 ] ولا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ، فإنَّ لذَّتهم بذكر الله ، وأُنسهم بعبادته ، وغذاؤهم التسبيح والتقديس ، وكما أنَّ حياتنا الدنيوية بالنَّفس والاستنشاق فحياتهم بذكر الله والمعرفة والطاعة له . ومنهم الملائكة السماويون ، وأعلى منهم الكروبيون ، وهم العاكفون في حظيرة القدس ، ولهم حالة الهيمان ، بل حالهم الفناء عن أنفسهم ، وعدم الالتفات إلى ذواتهم وإلى هذا العالم والآدميين ، لقصر نظرهم عن غير الله واستغقراقهم بجمال الحضرة الإلهية وجلال ذاته الأحدية . ولا يستبعد أن يكون في عباد الله من يشغله جلال الله عن الالتفات إلى آدم وذرّيته فقد روي عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : " إنَّ لله أرضاً بيضاء مسيرة الشمس فيها ثلاثون يوماً - هي مثل أيام الدنيا ثلاثون مرة - مشحونة خلقاً لا يعلمون أنَّ الله يعصى في الأرض ولا يعلمون أنَّ الله خلق آدم وإبليس " رواه ابن عباس ( رضي الله عنهما ) . فاستوسع مملكة الله ولا تغترّ بكلام المتشبهين بأهل العلم ، الجاهلين بأكبر خلق الله وأشرفه ، المقصرين بهمتهم الدنية على عالم الحسّ والخيال - وإنهما النتيجة الأخيرة من مقدمات عالم الملكوت ، وهما القشر الأقصى عن اللب الأصفى - ومن لم يجاوز عن هذه الدرجة فكأنه لم يشاهد من الزمان إلاَّ قشريته ومن عجائب الإنسان إلاَّ بشريته . وأدنى منهم الملائكة العنصريون من أرباب الطبايع العنصرية من خزّان المطر ، وزواجر السحاب ، وصواعق البروق ، ومشيعي الثلج والبرد ، والهابطين مع قطر المطر إذا نزل ، والقوّام على خزائن الرياح ، والموكلين بالجبال والمثقلين مثاقيل المياه والأرض . ودونهم رسل الله المتوسطون من الملائكة السماوية إلى أهل الأرض بمكروه ما ينزل من البلاء ، ومحبوب الرخاء ، ومنهم السفرة الكرام البررة وحفظة الكرام الكاتبين ، ومنهم ملك الموت وأعوانه من النازعين للصور من المواد الغير المستعدة ، ومنهم منكر ونكير للأشقياء ، ومبشر وبشير للسعداء ومنهم الطائفون بالبيت العمور ، ومنهم مالك وسدنة النيران ورضوان وخزنة الجنان ، ومنهم الزبانية ، الذين إذ قيل لهم : { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ } [ الحاقة : 30 - 31 ] ابتدروه سراعاً ولم ينظروه . وأدون من الجميع سكان الهواء والأرض والماء ، وبالجملة ما من موجود إلاَّ ومعه ملكان : أحدهما على يمينه والآخر على شماله { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ ق : 21 ] والسائق ملك يباشر التحريك إلى الدار الآخرة والشهيد ملَك يدرك به النفع والضرّ ، والخير والشر . وأكثر ما ذكرنا مقتبس من الصحيفة الملكوتية لمولانا وسيدنا زين الساجدين والموحّدين ، وسيد العابدين والعارفين - سلام الله عليه وعلى جده وجدّ أبيه وعمه وأبيه والأطهار من بيته قدّس الله أرواحهم أجمعين - . والوجه الثالث : أن يعلم بأنهم كلّهم وسائط بين الله وبين الخلق ، كل قسم منهم موكل على قسم من أقسام هذا العالم ، بل ما من نوع من الأنواع الطبيعية إلاَّ وله ملك موكل ، هو واسطة رحمة الحق وجوده عليه ، ذو عناية بأشخاص ذلك النوع وهياكله وأصنامه ، وهم المسمَّون عند قدماء الحكماء - المقتبسون أنوار الحكمة من مشكاة نبوّة الأنبياء سلام الله عليهم أجمعين - بـ " أرباب الأصنام " وعند أفلاطون ( افلاطن - ن ) بـ " المثل النورية " وإليهم الإشارة في قوله تعالى : { وَٱلصَّافَّاتِ صَفَّا * فَٱلزَّاجِرَاتِ زَجْراً } [ الصافات : 1 - 2 ] . وقال : { وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَٱلْحَامِلاَتِ وِقْراً } [ الذاريات : 1 - 2 ] . وقال : { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً * فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } [ المرسلات : 1 - 2 ] . وقال : { وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً } [ النازعات : 1 - 2 ] . وفي تفسير هذه الآيات التي أقسم الله فيها بطوائف من الملائكة أسرار شريفة عزيزة تدق عن أفهام أكثر العلماء - فضلاً عن غيرهم - لا يكشف المقال عن وجوهها قناع الإجمال لشرفها وعزّتها . والوجه الرابع : أن يعلم ويؤمن بأن كتب الله المنزلة إنَّما وصلت إلى الأنبياء ( عليهم السلام ) بواسطة ضرب من الملائكة ، كما قال الله تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [ التكوير : 19 - 21 ] . فهذه الوجوه لا بدّ منها في حصول الإيمان بالملائكة ، فكلما كان غوص العقل في هذه المراتب أشدّ كان إيمانه بالملائكة أتم ، وأكثر الخلق معرضون عنه مع دعواهم الإيمان . وأما الإيمان بالكتب فلا بدّ فيه من أمور أربعة : أولها : أن يعلم أن هذه الكتب وحي من الله تعالى إلى رسوله ، وأنَّها ليست من باب الكهانة ، وإلقاء الشياطين والأرواح الخبيثة ، ولا من باب السحر ، والفرق بين هذه الأمور خاف عن ( على - ن ) الجمهور . وثانيها : أن يعلم أنَّ الوحي وإن كان بواسطة الملائكة المقدسين فإنَّ الله لم يمكّن أحداً من الشياطين من إلقاء شيء من ضلالاتهم في أثناء هذا الوحي الظاهر ، وعند ذلك يعلم أن من قال : إنَّ الشيطان ألقى قوله : " تلك الغرانيق العلى " في أثناء الوحي فقد قال قولاً عظيماً ، وطرق الطعن والتهمة إلى القرآن . وثالثها : أن يعلم أنَّ هذا القرآن لم يتغير ولم يحرَّف ، ودخل فيه فساد قول من قال : " إنَّ ترتيب هذا القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان " فإنَّ من قال به أخرج القرآن عن كونه حجَّة . ورابعها : إنَّ القرآن مشتمل على محكم ومتشابه ، وإنَّ محكمه يكشف عن متشابهه . وأما الإيمان بالرسل : فلا بدَّ فيه من أن يعلم أنَّهم معصومون من الذنوب كلها - كبيرها وصغيرها ، عمدها وسهوها - وأن يعلم أن النبي ( صلّى الله عليه وآله ) أفضل من الملائكة السماوية والأرضية ، وأما الكروبيون ففي تفضيل النبي ( صلّى الله عليه وآله ) عليهم خلاف بين العلماء ، ولأرباب المكاشفات في ذلك مباحث غامضة شريفة أوردناها في بعض كتبنا العرفانية . وأن يعلم أنَّ بعض الأنبياء أفضل من بعض لقوله تعالى : { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } [ البقرة : 253 ] . ومن الناس من أنكر ذلك متمسكاً بقوله تعالى : { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] . وقد ذكر المفسرون وجوهاً من الجواب لا يطمئن بها القلب ، وقد حضر عندنا وجه وجيه لا أسمح بها حذراً من سوء فهم الناظرين . وأن يعلم أنَّه تعالى بعث الأُميَّ العربي محمداً ( صلّى الله عليه وآله ) برسالته إلى كافّة العرب والعجم ، والجن والإنس ، فنسخ بشريعته الشرائع ، وجعله سيد البشر وألزم الخلق تصديقه في جميع ما أخبر عنه في الدنيا والآخرة ، وألزمهم اتّباعه والاقتداء به فقال : { وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ } [ الحشر : 7 ] فلم يغادر صلّى الله عليه وآله شيئاً يقرِّبهم من الله تعالى إلاَّ أمرهم به وهداهم سبيله ، ولا شيئاً يبعدهم عن الله إلاَّ نهاهم عنه وعرّفهم طريقه ، ويعلم أنَّ تلك الأمور لا يرشد إليها مجردّ العقل والذكاء ، بل أسرار تكاشف بها من حظيرة القدس قلوب الأنبياء . ويعلم أنَّه يجب عليهم أن ينصبوا بعدهم خليفة ، وينصوا عليه نصّاً لا يبقى لأحد مجال الشك فيه والطعن به ، وذلك لعدم بقاء وجوده العنصري دائماً ، والمادة التي تقبل صورة النبي ( صلّى الله عليه وآله ) يقع في قليل من الأمزجة على الشذوذ ، فلا بدَّ من الاستخلاف بالنص الجلي لوجود إمام تقتدي به الأُمّة بعده . ويشترط أن يكون الإمام معصوماً من الذنوب ، مؤيداً من عند الله بأوصاف كمالية يندر اجتماعها - بل آحادها - في شخص واحد ، فيكون بها يستحق خلافة الله في العالم الأرضي ، ثم السماوي ، لكونه إنساناً إلهياً متصلاً بالملإ الأعلى ، تكاد تكون عبادته عبادة الله ، وذلك لجموم المناقب الربانية في قلبه ، ولكثرة ظهور الأفعال الإلهية من فمه وأسنانه ، ويده ولسانه ، وسيفه وسنانه ، كالعلم الأتمَّ والقدرة الكاملة ، والشجاعة والكرم ، والزهد والمروة ، والفصاحة البالغة حدّ الإعجاز ، ولخلوّه وتقدسه من النقائص والعيوب النفسانية المضادة للخلافة ، والرذائل الخُلقية المنافية للإمامة ، كالكفر والجهل ، والسفاهة والفظاظة ، والغلظة والكبر والنفاق ، وعن العاهات والأمراض الخَلقية المنفرة لطبايع الأمة ، كالعمى والعرج ، والحكة والأبنية ، وغيرها من المعاصي كالظلم والفسق ، وجمع المال للادخار . ويجب أن يعتقد أنَّ اجتماع تلك الفضائل والكمالات جملة ، والتنزّه عن تلك النقائص والرذائل جميعاً ، لم يتفق لأحد بعد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) إلاَّ لأخيه وابن عمّه علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام ، فيكون هو الإمام والخليفة بعد الرسول - دون غيره - لقوله تعالى : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 124 ] . ولِما قال الله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } [ المائدة : 55 ] . وقد نزلت الآية باتفاق المفسّرين في حقه ( عليه السلام ) ولِما نصّ عليه النبي ( صلّى الله عليه وآله ) بولاية الأمة في حجة الوداع ، وهو آخر عهده بالحديث المشهور ، أو لأحاديث نبوية كثيرة متواترة الجهة آحادية الأفراد ، دالّة على إمامته اللازمة لذاته ، المستغنية عن البيعة والإجماع . وهكذا يكون وقوع المناصب الآتية من قبل الله ، فكما أنَّ النبي نبيّ ولو لم تتفق عليه أمة ، فكذا الإمام إمام وإن لم يبايعه أحد ، والحكيم حكيم وإن لم يعرف قدره الجهال ، والعالم عالم سواء سئل أم لا ، والعجب خفاء هذا الأمر الجلي على العقلاء الذين جعلوا الخلافة والولاية - وهو أمر باطني - على ميل الطبايع ، واتفاق الجماعة على شخص ، مع أن طبائعهم مجبولة على طاعة الشهوات ، راغبة عمّا به يحصل القربات ، ويستحق للمثوبات . ويجب أيضاً أن يعلم ويعتقد أنَّ الاستحقاق لهذا الأمر بعد علي ( عليه السلام ) إنَّما وقع لأولاده المعصومين الموصوفين بالإمامة للأمّة ، والطهارة والعصمة صلوات الله عليهم أجمعين ، وذلك لتحقق الشرائط المذكورة التي معظمها العلم بالأمور الباطنية ، والأسرار الخفية ، والاجتناب عن زخارف هذه الدار الدنية ، ولنصّ كل سابق على لاحق ، وهلمَّ جرّا إلى صاحب هذا العصر والزمان وهو المهدي القائم بالقسط والعدل على بواطن أهل العلم والإيمان ، ثم على ظواهر الخلائق من الإنس والجان في آخر الزمان ، إذ به يملأ الله الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً ، فيكون وجوده ثمرة هذا العالم وكماله ، وإذا عدم عنه زال كل شيء بزواله ، لِما ثبت أنَّ وجود الإنسان الكامل علة غائية لوجود هذا العالم ، لكونه الغرض الأصلي من خلق الطبائع والأركان ، ومن فضالته خلقت بواقي الأكوان ، فإذا زالت العلة زال المعلول . وهذه المقاصد الشريفة إنَّما انكشفت لنا بطريق الاعتبار والاستبصار ، وتتبع الآثار والأخبار ، لا بطريق الأبحاث الكلامية ، والاستدلال بالمقال عند مخاصمة الرجال ، ومعارضة القيل والقال والله الهادي إلى سبيل السداد ، وبه الاستعاذة من الغواية في الاعتقاد . وأما الإيمان باليوم الآخر : فهو أن يعلم أنَّه يفرق بالموت بين الأرواح والأجساد ، ثم يعيدها إليها عند الحشر والنشور ، فيبعث من في القبور ويحصّل ما في الصدور ، فيرى كل مكلّف ما عمله من خير أو شرّ محضراً ، ويصادف دقيق ذلك وجليله مستطراً في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاَّ أحصاها ، ويعرف كل واحد مقدار عمله بمعيار صادق يعبّر عنه بالميزان ، وإنْ لم يساو ميزان الأعمال ميزان الأجسام الثقال ، كما لا يساوي ميزان العلوم سائر الموازين كالعَروض والأسطرلاب والشاقول والشاخص وغيرها ، ثم يحاسبون على أقوالهم ، وأفعالهم ، وضمائرهم ، ونياتهم ، وعقائدهم مما أبدوه أو أخفوه فإنَّهم متفاوتون إلى مناقَش منعه في الحساب وإلى مسامح فيه ، وإلى من يدخل الجنة بغير حساب . ثم يساقون إلى الصراط وهو جسر ممدود بين منازل الأشقياء والسعداء أحدّ من السيف وأدقّ من الشعر ، يخفّ عليه من استوى في الدنيا على الصراط المستقيم ، الذي يوازيه في الخفاء والدقة ويعثر به من عدل عن سواء السبيل إلاَّ من عُفي عنه بحكم الكرم ، وإنَّهم عند ذلك يسألون عن أديانهم وأفعالهم فيسأل الله الصادقين عن صدقهم والمنافقين عن نفاقهم . ثمّ يساق السعداء إلى الرحمن وفداً ، والمجرمون إلى جهنم ورداً ، ثم يحكم بإخراج الموحدين من النار بعد الانتقام ، حتى لا يبقى في النار من في قلبه مثقال ذرّة من الإيمان ، ويخرج بعضهم قبل تمام العقوبة والانتقام لشفاعة الأنبياء ، والعلماء ، والشهداء ومن له رتبة الشفاعة . ثم يستقرّ أهل السعادة في الجنة منعمين أبد الآبدين ، ممتعين بالنظر إلى وجه الله الكريم ، ويستقرّ أهل الشقاوة الأبدية في النار مرودين تحت أنواع العذاب ، مطرودين مبعدين عن جمال الله ذي الجلال والإكرام . وهذه العقائد ممّا ليست منكشفة إلاَّ على العلماء الراسخين ، وليس لغيرهم منها شيء إلاَّ الأسامي أو التقليد المجرّد كالعوام من أهل الإسلام ، والعناد والاستنكار كما للمتحجبين بالإنكار عن متابعة ذوي البصائر والأنوار ولا شكّ في أنَّ الانقياد والتسليم لما أتى به الأنبياء والأولياء صلوات الله عليهم ، والتعويل على الفؤاد أدنى إلى النجاة من الفطانة البتراء للعقول المحتجبة بالبصيرة الحولاء . ولا يبعد أن يكون قوله : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ } إشارة إلى ترك التعويل بسبب الاعتماد على فطانة العقل المشوبة بالهوى ، المنبعثة عن غلبة القوة الوهمية فيكون هذا - أي الوهم - أحد معاني الطاغوت ، ويكون الاستمساك بالعروة الوثقى إشارة إلى هذا الانقياد والتسليم والمتابعة للأنبياء والأولياء ( عليهم السلام ) ، والتعويل عليهم في أمر الدين وخصوصاً فيما أفادوا من قبل الله في أمر المعاد ، حيث لا سبيل للعقل بقوته الفكرية إلى شيء منه . تتمة وقال بعض أرباب القلوب ( القول - ن ) : " إنَّ عروة الوثقى لكل طائفة من المؤمنين شيء آخر : للعوام التوفيق للطاعة ، وللخواص مزيد العناية بالمحبة كما في قوله : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] . ولخاص الخاص جذبات الألوهية التي تنفيه عن الظلمات الوجودية بنور الربوبية ، كما شرح الله تعالى حقيقة الآية بتاليها ، والمراد به أنَّ السالك يبلغ عقيب الرياضات والأربعينات إلى مقام من مقامات الفناء والبقاء لا يمكنه الرجوع منه ، فلا يجري عليه أحكام تلوّنات الرد والقبول ، ولا أقسام تغيرات الفراق والوصال ، بل يكون مستهلكاً عن الناسوتية متمكّناً في اللاَّهوتية ، فالعروة الوثقى التي لا انفصام لها على الحقيقة والتمام في هذه الجذبة الإلهيّة ، التي أشير إليها في الحديث النبوي ( صلّى الله عليه وآله ) : " جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين " إذ الثقلان وأعمالهما جسمانيّة فانية من عالم الحدوث ، وجذبة الحق روحانية باقية في ( من - ن ) عالم القدم ، فلا يجوز عليها الانفصام والانقطاع والنفاد ، فالمجذوب لا يتخلص منها أبد الآباد " . المقالة الخامسة عشرة : في قوله سبحانه : { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وفيه قولان : الأول : إنَّه يسمع قول من يتكلم بالشهادتين وقول من يتكلم بالكفر ، ويعلم ما في قلب المؤمن من المعارف الإيمانية والعلوم الربانيّة ، وما في قلب الكافر من العقائد الخبيثة والظنون الباطلة . القول الثاني : روى العطاء عن ابن عباس قال : " كان رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود ، الذي ( التي - ن ) كانوا حول المدينة ، وكان يسأل الله تعالى ذلك سرّاً وعلانية ، لساناً وقلباً ، فمعنى قوله : { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } انه سميع بدعائك - يا محمد - عليهم بحرصك واجتهادك . ويؤيد هذا ما روي أنه ( صلّى الله عليه وآله ) لما رأى عدم اهتدائهم بنوره ، وقبولهم لدعوته استشعر أنّه من جهته لا من جهتهم ، فزاد في الرياضة والمجاهدة والفناء في المشاهدة ، فأوحى الله تعالى إليه بأنّ هذه الصفات ( أي الطهارة من لوث البقية المانع من التأثير في النفوس وسلامة الاستعداد ، عن النقص في الأصل والكمال الشامل لجميع المراتب بالعلم هي الصفات الكائنة في ذاتك ، الثابتة في جوهر قلبك المقدّس ، المتّصف بجميع الصفات الملكوتيّة والأسماء اللاهوتية ، المقتضية للعبودية التامة والدعوات والمناجاة . وكلها معلومة مسموعة له تعالى مشكورة عنده ، سواء كانت موجبة لإسلامهم وذلك عند الصلاحية والقبول بحسب الفطرة الأصلية والسعادة الأزلية أو لم تكن ، وذلك لعدم استعدادهم بحسب الفطرة رأساً أو لاحتجاب قلوبهم بالريون المستفاد من اكتساب الرذائل الراسخة ، والهيئات الغاسقة ، والملكات المظلمة المتراكمة على افئدتهم ، فلا تهلك نفسك على عدم إيمانهم لشدّة الرياضة ، فإنَّه من جهتهم إمَّا لعدم استعدادهم لقبول الرشاد ، وإمّا لوجود المانع فيهم لشدة الاحتجاب وكثافة الحجاب ، فيكفيك أنَّ الله سميع بدعائك ، عليم بطهارة ذاتك وصفاتك .