Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 26-26)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لمّا أثبت الله حقيَّة القرآن وإعجازه بالدليل ، ووقع الايعاد للمنكرين له ، والوعد للمؤمنين به على أتمّ وجه وأبلغه ، أراد أن يشير إلى ردّ شبه الكافرين والمنافقين في ذلك " وهي أن ذكر الأشياء الحقيرة الخسيسة لا يليق بكلام الفصحاء ، فالقرآن لاشتماله عليها - كالنحْل والذباب والعنكبوت والنمل - ، لا يكون فصيحاً - فضلاً عن كونه معجزاً - . فأجاب : بأنّ الحقارة لا تنافي التمثيل بها ، إذ الشرط في المثال أن يكون على وفق الممثّل له من الجهة التي يستدعي التمثيل به كالعِظم والحقارة ، والشرف والخساسة ، لا على وفق من يوقع التمثيل ويضرب المثال ، لأن الغرض الأصلي منه ايضاح المعنى المعقول ، وإزالة الخفاء عنه ، وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ليساعد فيه الوهم العقل ولا يزاحمه ، فإنّ العقل الإنساني ما دام تعلّقه بهذه القوى الحسيّة ، لا يمكنه إدراك روح المعنى مجرّداً عن مزاحمة الوهم ومحاكاته ، لأنّ من طبعه كالشياطين الدعابة في التخييل وعدم الثبات على صورة . ولذلك شاعَت الأمثال في الكتب الإلهيّة ، وفشَت في عبارات الفصحاء من العرب وغيرهم ، وكثرت في إشارات الحكماء ومرموزاتهم ، وصحف الأوائل ومسفوراتهم - سيّما في العلوم الهندسية - ، تتميماً للتخيّل بالحسّ ، فهناك يضاعَف في التمثيل ، حيث يمثَّل أولاً المعقول بالمتخيل ، ثم يمثل المتخيل بالمرسوم المحسوس المهندس المشكَّل . ونحن نرى الإنسان ، إذا ذكر معنى وحده ، أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال ، فإذا ذكر التشبيه معه ، أدركه العقل مع معاونة الخيال ، ولا شكّ أن الثاني يكون أكمل ، وذلك لأن من طبع الخيال المحاكاة ، فلا يلوح معنى كما ينبغي إلاّ إذا ذكر مع المثال الصحيح . وهذا ممّا لا تخفى استقامته ولا تغبى صحّته على من به أدنى مسكة ، لكن ديدن المحجوج المبهوت ، والمحجوب المقطوع عن عالم الملكوت ، لفرط الحيرة والعجز ، يعوّل على المكابرة حيثما ينضغط في مضائق المغالطة لدى المناظرة أن يدفع الواضح المستقيم ، لسوء فهمه ، وآفة طبعه السقيم . @ وكمْ من عائبٍ قولاً صحيحاً وآفته من الطبع السقيم @@ فليس بمستنكر من الله سبحانه أن يمثّل الحقير بالحقير ، كما يمثّل الخطير بالخطير ، وإن كان الممثّل بالمحاكي أعظم من كل عظيم ، بل لغاية عظمته يحيط بالصغير كما يحيط بالعظيم ، ولا يعزب عن عمله ذرّة واحدة ممّا في الأرض والسماء ، ودقيقة من دقائقها ، كما لا تعزب عنه عظائم الأشياء وجلالها ؛ لأنه مع كل شيء لا بمزاولة ، وغير كل شيء لا بمزائله ، وهو أعلى من كلّ عالٍ في علوّه ، وأدنى من كلّ دان في دنوّه ، فلا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها في الحقارة والقلّة . فمن زعم أن التمثيل بهذه الأشياء الحقيرة ، لا يليق بالله ، فذلك لجهله بالأحكام الإلهيّة ، والأوصاف الربوبيّة ، ورحمته الواسعة ، لأنه تعالى هو الذي خلق بحكمته الكبير والصغير ، ورحمته في كل ما خلق وبرء عامّ لأنه أحكم جميعه ، وليس الصغير أخفى وأخفّ عليه من العظيم ، ولا العظيم أجلى له وأصعب عليه من الصغير ، بل الكلّ بمنزلة واحدة . فليس الكبير أولى بأن يضرب به مثلاً - كالفيل والبعير - إذا كان الأليق بحال الممثّل له تمثيله بالحقير - كالذباب والعنكبوت - . فإن كان المراد تقبيح عبادة الكفرة للأصنام ، وعدولهم عن عبادة الرحمن ، صلح أن يضرب لها المثَل بالذباب في عدم اقتدارهم على دفع المضرّة عنهم ، وببيت العنكبوت في وهن عقائدهم الباطلة ، وضعف أصولهم الفاسدة ؛ وفي هذا المقام ، كلّما كان المضروب به المثَل أضعف ، كان المثل أقوى وأحكم . وقد ضرب الله الأمثال في الإنجيل بالأشياء المحقَّرة ، فمثَّل غلّ الصدور بالنخالة ، والقلوب القاسية بالحصاة ، ومخاطبة السفهاء بإثارة الزنابير ، ومثّل بالزوان - وهو حب يخالط البر - ، وبالخردل والمنخل والأرضة والدود . قال تعالى : " مثَل ملكوت السماء ، كمثَل رجل زرع في قريته حنطةً جيّدة نقيّة ، فلمّا نام الناس ، جاء عدوّه فزرع الزوان ، [ فلما نبت الزرع وأثمر العشب غلب عليه الزوان ] فقال عبيد الزارع : يا سيّدنا ، أليس حنطة جيّدة نقيّة زرعت في قريتك ؟ . قال : بلى . قالوا : فمن أين هذا الزوان ؟ [ قال لهم : هذا فعل العدوّ . قالوا : أتريد أن نذهب ونقلع الزوان ؟ ] قال : لعلّكم إن ذهبتم أن تقلعوا الزوان تقلعوا معه الحنطة ، دعوهما يتربّيان جميعاً [ حتّى الحصاد ] فأمر الحصّادين أن يلتقطوا الزوان من الحنطة ، وأن يربطوه حزماً ، ثمّ يحرق بالنار ، ويجمعوا الحنطة إلى الخزائن . وأفسِّر لكم ذلك الرجل الذي زرع الحنطة الجيدة ، وهو أبو البشر ، والقرية هي العالم ، والحنطة الجيدة النقية هو نحن أبناء الملكوت الذين يعملون بطاعة الله ، والعدوّ الذي زرع الزون هو إبليس ، والزوان : المعاصي التي زرعها إبليس وأصحابه ، والحصّادون هم الملائكة ، يتركون الناس حتى تدنوا آجالهم فيحصدون أهل الخير إلى ملكوت الله ، وأهل الشرّ إلى الهاوية . وكما أن الزوان يلتقط ويحرق بالنار ، كذلك رسل الله وملكوته ، يلتقطون من ملكوته المتكاسلين وجميع عمّال الإثم ، فيُلْقونهم في أُتون الهاوية ، فيكون هنالك البكاء وصريف الأسنان ، ويكون الأبرار هنالك في ملكوت ربّهم ، مَن كان له أُذُن تسمع فليسمع " . قال : " وأضرب لكم مثلاً آخر يشبه ملكوت السماء : إنّ رجلاً أخذ حبّة خردل - وهي أصغر الحبوب - ، فزرعها في قرية ، فلمّا نبتت حتّى صارت كأعظم شجرة من البقول ، وجاء طير من السماء فعشّش في فروعها ، فكذلك الهدى ، مَن دعا إليه ضاعَف الله أجره وعظّمه ورفع ذكره ، ونجا به من اهتدى " . وقال : " لا تكونوا المنخل ، يخرج منه الدقيق الطيّب ويمسك النخالة ، كذلك أنتم ، تخرج الحكمة من أفواهكم وتُبْقون الغلّ في صدوركم " . قال : " قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ، ولا يلينها الماء ، ولا تنسفها الرياح " . وقال : " لا تدّخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسدها . ولا في البريّة حيث اللصوص والسموم ، فتسرقها اللصوص ، وتحرقها السموم . ولكن ادّخروا ذخائركم عند الله " . وقال : " تحفر ، فتجد دوابّاً عليها لباسها ، وهناك رِزقها وهنَّ لا تغزلن ولا تحصدن ، ومنهنَّ ما في جوف الحجر الأصمّ ، أو جوف العود ، ومن يأتيهنّ بلباسهنّ وأرزاقهنّ إلا الله - أفلا تعقلون " . وقال : " لا تثيروا الزنابير فتلدغكم ، كذلك لا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم " . فصل وأمّا العرب فقد اشتهر منهم التمثيل بالمحقّرات وبأحقر الأشياء ، فقالوا : فلان أسمَع من قراد ، وأطيَش من فراشة ، وأعزّ من مخّ البعوضة ، وأطير من جرادة ، وأفسَد منها ، وأجرء من الذباب ، وألجّ منه ، وأشبه به منه ، وأجمَع من الذّرة ، وأضبَط منها . ومثَّلوا أيضاً بما لا شيء أصغر منه كالجزء الذي لا يتجزّى ، وبما لا يدرك لتناهيه في الصغر إلا اللطيف الخبير ، أو بالمعدوم - وهو أخسّ من كلّ شيء ، لأنه لا شيء محض - ، فقالوا : " هذا أصغَر مقداراً من الجزء الذي لا يتجزّى " و " هذا أقلّ من اللاشيء في العدد " . وأمّا العجم ، فكتاب كليلة ودمنة وأشباهه شاهدة على ذلك ، وفي بعضها : " قالت البعوضة - وقد وقعت على نخلة عظيمة عالية وأرادت أن تطير عنها - : يا هذه ، استمسكي ، فإنّي أريد أن أطير . فقالت النخلة : والله ما شعرت بوقوعك ، فكيف أشعر بطيرانك " ؟ ! والعجب أن الجاهل المحجوج ، والغافل المبهوت ، لا يتعجّب من دقائق لطْف الله وعنايته وإحسانه في خلْق البعوضة والعنكبوت ، وجعل يتعجّب في التمثيل بها في الحقارة لشيء ! أَوَلا يرى عجائب البقَّة أو النملة أو النحل أو العنكبوت في اهتدائها إلى بناء مسكنها ، وفي حذقها في هندسة بيتها ، وفي جمعها الغذاء ، وادّخارها لنفسها ، وفي إلفها لزوجها ، وحزمها واحتياطها في خصائص أمورها وحاجاتها . فترى العنكبوت تبني بيتها على طرف ، فتطلب أولاً موضعين متقاربين ، بينهما فُرجة بمقدار ذراع فما دونه ، حتى يمكنه أن يصل بالخيط بين طرفيه ، ثم يبتدي فيلقي اللعاب الذي هو خيطه إلى جانب فيلتصق به ، فتعدو إلى الجانب الآخر ، فيحكم الطرف الآخر من الخيط ، ثم تحكم كذلك ثانياً وثالثاً ، وتجعل بينهما تناسباً هندسياً ، حتى إذا أحكم معاقِد القمط ورتّبَ الخيوط كاللُحمة ، اشتغل بالتسدية ، فيضيف السدى إلى اللُحمة ، ويحكم العقد على موضع التقاء السدى باللحمة ، ويراعي في جميع ذلك تناسب الهندسة ، ويجعل ذلك شبكة يقع فيها البقّ والذباب ، ويقعد في زاوية مترصداً لوقوع الصيد في الشبكة فإذا وقع بادر إلى أخذه وأكله . فإن عجز عن الصيد كذلك ، طَلَبَ لنفسه زاوية من حائط ، ووَصَلَ بين طرفيها بخيط ، ثم علّق نفسه منها بخيط آخر ، وبقي متمسّكاً في الهواء ينتظر ذبابة تطير ، فإذا طار ذباب رمى نفسه إليه فأخذه ، ولفَّ خيطه على رِجله ، وأحكمه ، ثم أكله . أفترى أن العنكبوت يعلم هذه الصنعة من نفسه وحدسه ، أو علَّمه آدمي ، أو لا هادي له ولا معلّم ؟ ! أفيشكّ ذو بصيرة أنّه مسكين عاجز عن الفكر ؟ ! وكذا النحل وعجائب الحكمة في بناء بيوته أكثر ، وما من حيوان صغير إلاّ وفيه من هذه العجائب ممّا لا يحصى . وذكر في الكتب العتيقة دويبة لا يكاد يجليها للبصر الحاد إلا تحركها ، فإذا سكنت فالسكون يواريها ، ثم إذا لوّحت لها بيدك حادت عنها وتجنّبت مضرّتها ؛ أفلا يشهد هذا الحيوان الضعيف بهويّته وشكله وصورته وهدايته وعجائب صنعه ، لعناية الباري ، وتعلّق رحمته وإحسانه به ؟ ! فصل اختلفوا في سبب نزول هذه الآية على أقوال : الأول : ما روي عن ابن عباس وابن مسعود : إن الله لمّا ضرب المثلين قبل هذه الآية للمنافقين - يعني قوله : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } [ البقرة : 17 ] وقوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [ البقرة : 19 ] ، قال المنافقون : " الله أعلى وأجلّ من أن يضرب الأمثال " فأنزل هذه الآية . أقول : ويحتمل أن المنافقين الذين كانوا في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) - لقصور حالهم واتّباعهم لقضايا عقولهم الناقصة ، أو لتشبّثهم بأذيال المتفلسفة النافين لعلمه بالجزئيات المتغيّرة - ، زعموا أن التمثيل بهذه الأشياء الجزئيّة لا يجوز ولا يمكن إلا بآلات ومشاعر جزئيّة ، فكيف يتصوّر أن يقع الوحي بها إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) عند عروجه بروحه إلى المقام الأعلى من عالم الحسّ والتخيُّل ، وتلقّيه للمعارف ، فوقعت الإشارة إلى دفع ما زعموه بأن التمثيل بها - وبما هو أقل قدراً وأنزل مرتبة منها - ، واقعٌ من الله ، ولكن العلم بحقيَّة ذلك ، وبكيفيَّة الوحي والإنزال ، لا يمكن إلاَّ لمن آمن بالله وآياته ، وعرف بكيفيّة تلقّي النبي ( صلى الله عليه وآله ) القرآن من لَدُنْهُ ، فيهتدي بذلك ؛ وأمّا الجاهل المغرور بعقله ، فيقع لأجله في الضلالة . الثاني : عن قتادة والحسَن : لما ضرَب الله المثَل بالذباب والعنكوبت ، تكلّم فيه قومٌ من المشركين ، وعابوا ذِكره ، فأنزلت . الثالث : عن ابن عبّاس أن هذا الطعن وقع من اليهود ، فإنّه لما نزل { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ } [ الحج : 73 ] . فطَعَن في أصنامهم بأنّها كالذباب ، وشبَّهت عبادتها ببيت العنكبوت ، قالت اليهود : " أيّ قدر للذباب والعنكبوت حتى يضرب الله بهما المثَل " ؟ فنزلت . قال القفّال : " الكلّ محتمل ، أمّا اليهود فلما في آخر هذه الآية : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ * ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ } ، وهذه صفتهم كما دلّت عليه قصّتهم ؛ وأمّا الكفّار والمنافقون فقد ذكر في المدثّر : { وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } [ المدّثر : 31 ] الآية . وهما المشار إليهما لأنّ السورة مكيَّة ، فقد جُمع الفريقان ، فإذا ثبت هذا ، فالكلّ محتمل في هذه الآية ، لأن الثلاثة كانوا متوافقين في ايذاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد مضى في هذه السورة إلى هٰهنا ذكر الثلاثة جميعاً " . ثم قال القفّال : " وقد يجوز أن ينزل ذلك ابتداء من غير سبب ، لأن معناه مفيد في نفسه " . فصل [ الحياء وكيفيّة نسبته إلى الله تعالى ] " الحياء " : صفة انفعاليّة تعتري الإنسان ، تنقبض معها النفس عن ظهور ما يشبه القبيح عند طائفة مخافة أن يعاب به ويُذمّ - وإن لم يكن قبيحاً في نفسه - ، وهو من الصفات المحمودة في الإنسان ، لتوسّطه بين طرفين مذمومين - وهما الوقاحة التي هي الجرأة على القبائح ، والخَجل الذي هو قصور النفس وانحصارها عن الفعل الحسن - . واشتقاقه من " الحياة " ، لأنّه انكسار للقوّة الحيوانيّة ، فيمنعها عن أفعالها ، فيقال " حيى الرجل " أي : انكسرت نفسه ، كما يقال : " حشي الحيوان ونَسِي " إذا اعتلّت حَشاه ونَساه . واعلم أنّ كلّ صفة تتّصف بها نفس الآدميّين بمشاركة البدن ، فهي مذمومة في الحقيقة ، كالشهوة والغضب ، والإحساس والتحريك ، والأكل والشُرب ، والضحك والبكاء ، والخجل والوجل والحياء ، لأن جميعها مما يعتريها النقص والفساد لأجل التضاد ، إلا أن المتوسّطة منها بين أطراف هذه الأوصاف والحالات - كالعفّة والشجاعة والحياء - ، لمّا كانت بمنزلة الخالي عنها - كالماء الفاتر بين الحارّ والبارد يقال له : لا حارّ ولا بارد . وهو بعدُ غير خارج عن جنس الأضداد ، بل له حصّة من كلّ منهما - ، عُدّت محمودة لأنّها شبيهة بالقوّة ، غير مقتضية لاشتغال النفس بها وانكبابها عليها ، فإنّ النفس كلّما لم تنفعل عن موجبات القوى ودواعيها ، فهي أقهر على قمعها باكتساب الهيئة الاستعلائيّة عليها ، بها يسهل لها الانقطاع عن هذا العالم ، والاتصال بأجنحة الكروبيّين . فقد عُلِم أنّ الحياء وما يجري مجراه من الصفات ، ليس من الكمالات الحقيقيّة للنفس - فضلاً عمَّا فوقها - وإله الكلّ أحقّ بأن ينزّه عمّا يوجب الانفعال والانقهار ، وهو الواحد القهّار . ولكنّه قد ورد في الأحاديث عن سلمان الفارسي - رضي الله عنه - عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) : " إنّ الله حييٌّ كريمٌ ، يستحيي إذا رفعَ العبد إليه يديهِ أن يردّهما صفراً حتّى يضعَ فيهما خَيراً " وقد جاء في الحديث أيضاً : " إن الله يستحيي من ذي الشيبةِ المسلمِ أنْ يعذّبه " ، فلا بدَ فيه من تأويل ؛ وقيل فيه وجهان : أحدهما - وهو القانون في أمثال ذلك - ، وهو أن يراد بها نفي المقابلات لتلك الصفات ومَباديها ، أو إثبات الغايات لها بدون تلك المبادي ، فإنّ كلّ صفة محمودة تثبت للنفس الإنسانيّة بمشاركة الجسم ، فلها مبدء انفعالي وغاية فعليّة وأضداد قبيحة . فالحياء - مثلاً - ، حالة وصفة عارضة للإنسان ، ولكن لها مبدء ومنتهى وضدّ ، أمّا المبدء ، فهو التغيّر النفساني ، والانفعال الجسماني الذي يعتريه من خوف أن ينسب إلى القبيح ؛ وأما النهاية : فهي أن يترك الفعل المنوط به ؛ وأما الضدّ : فهو الوقاحة أو الخجل . فإذا ورد الحياء في حق الله ، فليس المراد ذلك الخوف الذي هو مبدء الحياء ومقدّمته ومُعِدّه ، بل إمّا نفي ضده الذي هو الوقاحة ، أو ثبوت غايته الذي هو ترك الفعل المنوط به ، فقوله : { لاَ يَسْتَحْيي } أي : لا يدع ولا يمتنع ، لا كأحدنا إذا استحيى من شيء تركه وامتنع من فعله . وكذلك الغضَب ، له مبدء هو شهوة الانتقام في النفس ، وغَلَيان دم القلب في البدن ، وله غاية هي إنزال العقاب بالمغضوب عليه ، وله ضدّ هو الخوف والرضاء ، فإذا وصفنا الله تعالى بالغضب ، فليس المراد ذلك المبدء - أعني شهوة الانتقام وغَلَيان الدم - ، بل إمّا عدم الخوف ، كما في قوله تعالى : { وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا } [ الشمس : 15 ] أو عدم الرضاء ، كما في قوله : { وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ } [ الزمر : 7 ] . أو إنزال العقوبة . وثانيهما : أن لله تعالى وسائط منبعثة من ذاته إلى العباد - كالملائكة والرسل - ، وهم مستغرقون في شهود جلاله ، مستضيئون بنور وجهه وجماله ، لا التفات لهم إلى ذواتهم - فضلاً عن غيرهم - ، فهم خلفاء الله إلى عباده ، ونوّابه في سمائه وأرضه وبلاده ، من حيث أن وجودهم له ، وفعلهم فعله ، من أطاعهم فقد أطاع الله ، ومن أبغضهم فقد أبغض الله ، كما في قوله سبحانه : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] . وكما في قوله ( صلى الله عليه وآله ) : " مَنْ أطاعني فقَد أطاعَ اللهَ ، ومن أبغضَني فقَد أبغضَ الله " وكما روي عنه ( صلى الله عليه وآله ) أيضاً أنّه قال : " مَن رآني فقد رأى الحقَّ " . وهذا باب شريف يُنْتَفَعُ به في معرفة كثير من الآيات القرآنية ، وبه يصحّح كثير من المسائل الدينيّة - كاثبات الغضب والانتقام . والحياء والرحمة ، وكمسئلة البداء ، وإثبات الإرادة المتجدّدة ، وسنوح المشيئات المتغيرة في قضاء الحاجات ، وإجابة الدعوات ، وتنجية الغَرقى وإغاثة الملهوفين ، وإنزال الزلازل والعقوبات الإلهيّة من القحط والسَنَة وغيرها على الأعداء ، ومحاربة الكفَرة والفراعنة ، إلى غير ذلك من الحوادث المتجددة بالإرادات المتغيّرة . فعلى هذا يكون معنى : غَضب الله عليهم " أنّه غَضب ملائكةُ الله عليهم ، ومعنى : " فَيَنتقِم اللهُ منهم " أنّه تنتقم ملائكة العذاب وسدنة الجحيم منهم ، وهكذا قياس غيرهما . وهٰهنا وجه ثالث أدقّ من الوجهين الأولين ، وهو أنّ لكل موجود في هذا العالم من الجواهر والأعراض ، عوالم متعددة فوق هذا العالم ، نسبة الأسفل إلى الأعلى ، نسبة الشهادة إلى الغيب ، ونسبة البدن إلى الروح ، ونسبة الظلِّ إلى الشخص . مثاله : صورة المحسوس في الخارج : كثيفٌ ، مادي ، قابل للإنقسام ؛ فإذا ارتسم في القوّة الباصرة زال عنه كثير من النقائص ، وبقي الكثير - كأصل المقداريّة واللون ، والحاجة إلى المحلّ المركّب من الأضداد ، وشرائط المقابلة والوضع إلى ما أخذ منه أو ما في حكمه - ، وإذا ارتفع إلى عالم الخيال ، خلص عن بعض النقائص والعيوب ، وبقي البعض . ثم إذا جاء إلى عالم العقل ، تجرّد وتطهّر عن النقائص والعيوب كلّها إلا الإمكان والحدوث ، فإذا رجع إلى ما في علم الله ، وعالَم الأسماء الإلهيّة ، وصورة الأعيان الثابتة التي هي غير مجعولة ، تقدّس عن جهات الكثرة والإمكان كلّها ، فإن صورة علم الله - من حيث هي صورة علمه - ، واجبةٌ بوجوبه . وكذا الحال في جميع الذوات والصفات ، لأن العوالم المترتّبة في الشرف والدناءة ، كلها صور ما في علم الله ، ومنازل صفاته وآياته ، وهذه النقائص والشرور إنّما لحقتها في هذا العالم ، وفي المراتب النازلة ، لبُعدها عن منابع الخيرات . فصورة الغضَب إذا وُجدت في عالَم الأبدان ، عبارة عن ثَوَرَان دم القلب ، وانتشار العروق وارتفاعها بها إلى أعالي البدن ، كما ترتفع النار الذي يغلي في القدر ، فيحمرّ الوجه والعين ، والبشرة تحكي ما وراءها من حُمرة الدم ، كما تحكي الزجاجة لون الشراب الذي فيها . وإذا وُجدت في عالم النفس ، فهي عبارة عن حالة نفسانيّة توجب اشتعال نار الطبيعة ، وإحراق موادّ البدن ورطوباته ، وتفعل بها ما تفعل النار المحسوسة بالحطَب اليابِس ، ويتصاعد عند شدّة ناره دخان مظلم إلى معدن الفكر ، فتستولي ظلْمته على نور العقل ، وينطفي وينمحي في الحال بدخان الغضَب . وربما يتعدّى الإظلام إلى معادن الحسّ ، فتظلم عين الرجل حتّى لا يرى بعينه ، وتسودّ عليه الدنيا بأسرها ، ويكون دماغه ككهف ، كأُتون أُضرِمت فيه نارٌ فاسودَّ جَوَّه وحمي مستقرّه ، وامتلأت بالدخان جوانبه ، ولا يسكن عن ذلك بالموعظة وغيرها ، بل يفعل ذلك إلى أن يحترق جميع ما يقبل الاحتراق . وربما يشتد بحيث يفني الرطوبة التي بها حياة البدن ، فيموت صاحبه غيضاً ، كما تقوى النار في الكهف فيشقق فتنهّد أعاليه على أسافله ، وذلك لإبطال النار ما في جوانبه من القوة الممسكة الجامعة لأجزائه . فهذا حال الغضب الناشئ من النفس ، ولا ينفكّ عن انفعالات وكدورات وآلام يعود إليها ، حيث إنّه يسري حكم الغضب أولاً في البدن والمملكة وجنودها وقواها ، وبواسطتها يسري إلى عدوها . وأما إذا وجدت صورة الغضب في عالَم العقل ، فحقيقتها هي القهر على ما دون عالَمه ، قهراً يوجب خضوع النفوس التي هو فوقها ، وطاعة الطبائع والأجرام التي هي تحته من غير تغيّر ولا شوب انفعال ، لبراءَة عالَم العقل عن سنوح التغيّرات والانفعالات . وأما الغضب الإلهي ، فإنّما هو صفة قهّاريّته على الكلّ ، وغلبة نور أحديّته وفردانيّته ، التي لا مجال لوجود الكثرة والإمكان عنده ، ولا لظهور يتشارك في صفة الوجود لديه ، فيهلك كل شيء يوم القيامة لدى غضب الله الواحد القهّار ، ويضمحلّ كلّ ظلّ وفيء عند غلبة ظهور نور الأنوار ، وقد ورد في الحديث عنه ( صلى الله عليه وآله ) : " إن الله يغضب اليوم غضباً لم يغضب مثله " . واعلم أن النار - سيما نار الآخرة - صورة من صور غضب الله الساري في العوالِم ، وشررٌ من شرارة ناره ، ومظهَر من مظاهر قهره ، وكذا شرّ إبليس وشرور جنوده وأولاده مظهرٌ آخر فوقها ، والهاويةٌ مظهر دونها ؛ كما أنّ الماء - سيّما ماء الحياة والكوثر - صورة رحمته ، والعرش الذي على الماء محلّ استواء الرحمن صورة فوق ذلك . والمادّة الأولى دونَه ، والنبيّ الخاتم - صلوات الله وسلامه عليه وآله - لكونه رحمةً للعالمين ، هو المظهَر الجامع لشؤون الرحمة الإلهية ، كما أن في مقابله إبليس هو الجامع لجميع الشرور ، الحاوي هو وأولاده وجنود إبليس أجمعين لمظاهر الغضب وشؤونه إلى يوم الدين . وبالجملة ، ما من شيءٍ في هذا العالم ، إلاّ وينتهي أصله وسرّه إلى حقيقة إلهية وسرّ سبحاني ، وأصل ربّاني ، ومطلع أسمائي ، ومشرق قيّومي ، ويكون نحو وجوده في عالم الوحدة الجمعيّة الإلهية معرّى عن كل كثرة وشوب ، مبرّأ عن كل نقص وعيب . وهكذا في جميع ما ينسب إليه تعالى من الصفات التشبيهية - كالحياء والغضب والانتقام والرحمة ، والرضا ، والصبر ، والشكر ، والقبض والبسط ، والسمع والبصر ، والشوق ، واللطف - ، وما أشبهها . وكذلك اليد ، واليمين ، والقبضة ، والقلم ، واللوح ، والكتابة ، والذهاب ، والمجيء ، والجنب ، والقدم ، والوجه ، والعين ، والأعين - وما يجري مجراها - ، فمن عرف ما ذكرناه ، فتح على قلبه باب عظيم من علوم المكاشفات . فصل في تتمة القول في معنى قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْيي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } قيل : يجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة ، فقالوا : " أما يستحيي ربُّ محمّد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت ؟ ! " فجاء هذا الكلام على سبيل إطباق الجواب على السؤال - وهذا فنٌّ بديع من الكلام . واعلم أنّ ما لا يجوز عليه تعالى من المثالب والنقائص ، فيجب أن يسلب عنه تعالى ، ولا يجوز إطلاق ذلك السلب عليه على طريق الايجاب العُدُولي ، ولا على ايجاب سلب المحمول ، مثلاً ، لا يجوز عليه الجسميّة ، فيجب أن تسلب هي عنه ويقال : " ليس هو بجسم " ولا يقال : " هو لا جسم " أو " هو ليس بجسم " . لأن اثبات المعنى العدولي له ، وكذا ايجاب المفهوم السلبي عليه ، يستدعي اتّحاده به ، وذلك يستلزم أن يكون ذلك المعنى إمّا عين ذاته - إن كان ذاته بذاته مصداق ذلك المعنى ومطابَق حمله عليها - ، وهو محالٌ ، لكون ذاته تعالى حقيقة الوجود المجهولة التصوّر ؛ وإما عارضة لذاته إن لم يكن كذلك ، فيلزم التكثّر في صفاته ، وهو أيضاً مستحيل ، كما بيِّن في مقامه . ثم إنّه قال القاضي : ما لا يجوز على الله من هذا الجنس إثباتاً ، فيجب أن لا يطلق على طريق النفي أيضاً عليه ، وإنما يقال إنه لا يوصف به ، فأمّا أن يقال : " لا يَستحيي " ويطلق ذلك عليه فمحالٌ ، لأنه يوهم نفي ما يجوز عليه ، وما ذكره تعالى في كتابه من قوله : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [ البقرة : 255 ] . { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } [ الاخلاص : 3 ] . فهو بصورة النفي ، وليس بنفي على الحقيقة ، وكذلك قوله : { مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٍ } [ المؤمنون : 91 ] . وقوله : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } [ الأنعام : 14 ] . وليس كلّ ما ورد في القرآن اطلاقه جائزٌ أن يطلق في المخاطبة ، فلا يجوز أن يطلق ذلك إلاّ مع بيان أنّ ذلك محال . فإن قيل : أليس هذه الصفات منتفية عن الله تعالى ، فكان الإخبار عن انتفائها دالاًّ على صحتها عليه ؟ فنقول : هذه الدلالة ممنوعة ، وذلك لأن تخصيص هذا النفي بالذكر ، لا يدلّ على ثبوت غيره ، بل لو قُرن اللفظ بما يدلّ على انتفاء الصحّة أيضاً ، لكان أحسن من حيث المبالغة في البيان ، وليس إذا كان غيره أحسن أن يكون قبيحاً . و : " أنْ يَضْرِبَ " مجرور المحلّ عند الخليل بإضمار الجارة كـ " من " ، ومنصوب عند سيبويه بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها . وقيل : فيه لغتان " استحيَيتُه " و " استحيَيتُ منه " وهما محتملان . وفي الكشّاف : ضرْب المثَل : اعتماده وتكوينه ؛ من " ضرْب اللبن " و " ضرْب الخاتم " . وفي مجمع البيان : " إنّ الضرب يقع على جميع الأعمال إلاّ قليلاً ، يقال : " ضرَب في التجارة " ، و " ضرَب في الأرض " ، و " ضرب في سبيل الله " ، و " ضرَب بيده إلى كذا " ، و " ضرب فلان على يد فلان " ، إذا أفسد عليه أمراً أخذ فيه ؛ وضرب الأمثال إنّما هو جعلها لتسير في البلاد ، فيقال : " ضربتُ القول مثلاً " ، و " أرسلته مثالاً " ، وما أشبه ذلك " . فصل قوله تعالى : { مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً } قيل : " ما " إبهاميّة تزاد للابهام ، والشيوع والعموم ، وانسداد طرُق التقييد ، كقولك : " أطعِمني طعاماً مّا " أي : أيِّ طعام شئت ، أو مزيدة للتأكيد ، كالتي في قوله تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 159 ] . ولا نعني بالمزيد ، اللّغوَ الضائع - حاشا الكتاب الإلهي عن ذلك ، بل كلّه هدى وتبيان لقوله تعالى : { هُدًى لِّلنَّاسِ } [ البقرة : 185 ] . وقوله : { تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } [ النحل : 89 ] . وإنما يعنى به ما لم يوضع لمعنى مراد منه ، وإنّما وضعت لأن يذكر مع غيره فيفيد له وثاقة وقوّة ، فهو زيادة في الهدى غير قادح فيه . و " بَعُوضَة " : عطف بيان لـ " مَثَلاً " ، أو مفعول لـ " يَضْربَ " ، و " مثَلاً " حال تقدّمت عليه لأنها نكرة . أوْهُما مفعولاه لتضمّنه معنى الجعل . وقرِئت بالرفع على أنه خبر مبتدء محذوف ؛ وعلى هذا يحتمل في " ما " وجوه أُخر : أن تكون موصولة حُذف صدر صلتها ، كما حذِف في قوله ( " تَماماً " على الذي أحسَن ) . وموصوفة بصفة كذلك - ومحلّها النصب بالبدليّة على الوجهين . واستفهاميّة هي المبتدأ ، كأنّه لما ردّ استبعادهم ضرْبَ الله الأمثال قال بعده : " مَا البعوضةُ فما فوقَها حتّى لا يُضرب بها المثَل ، بل له أن يمثّل بما هو أحقَر من ذلك " ، ونظيره : " فلانٌ لا يبالي بما يهب ، ما دينار وديناران ؟ " . والبَعوض : أصله صفة على فَعول من " البَعْض " ، وهو القَطْع كالبضْع والعَضْب ، غلب استعماله على هذا النوع من الحيوان . وقوله : { فَمَا فَوْقَهَا } ، عطف لى " بعوضَة " أو " مَا " - إن جعل اسماً - . واختلفوا في ملاك هذه الفوقية : أهو الحقارة . أو الجثّة ؟ فقال بعضهم : المراد ما فوقها في الصِغر والقلّة ، كقولك لمن يقول : " فلان أسفل الناس وأنزلهم " : هو فوق ذلك . تعني به أبلَغ وأعرَق فيما وصف به من السفالة والخساسة . والمحقّقون على هذا ، لأن المقصد تحقير الأوثان ، فكلّما كان المشبّه به أحقر ، كان المقصود أكمل ، ولأنّه تعالى في بيان أنّه لا يمتنع من التمثيل بالشيء الحقير ، فما هو أشدّ حقارة كان أوْلىٰ بالبيان ؛ ولأنّ الشيء كلّما كان أصغر ، كان الاطلاع على أسراره المودعة فيه من الله أدلّ على لطفه وعنايته ، فالتمثيل به أقوى في الدلالة على كمال الحكمة من الدلالة بالشيء الكبير . أَوَلاَ ترى أن البعوضة من عجائب خلق الله ، فإنّها صغيرة جدّاً ، وخرطومها في غاية الصِغر ، ثمّ إنّه مع ذلك مجوّف ، ثم الخرطوم مع فرط صغره وكونه مجوَّفاً ، يغوص في جلد الفيل والجاموس - على ثخانته - ، كما يضرب الرجل إصبعه في الخبيص ، وذلك لما ركب الله تعالى في خرطومه السمّ . قال الربيع بن أنس : إن البعوضة تحيا ما جاعت فإذا سمنتْ ماتتْ ، فكذلك القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل ، إذا امتلأوا من الدنيا ريّاً أخذهم الله عند ذلك ، ثم تلا : { حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوۤاْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } [ الأنعام : 44 ] . وروي عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام أنّه قال : " إنّما ضرب الله المثل بالبعوضة ، لأن البعوضة على صِغَر حجمِها ، خلَق الله فيها جميع ما خلَق في الفيلِ - مع كِبَره - ، وزيادة عضوين آخرين ، فأراد الله سبحانه أن ينبّه بذلك المؤمنين على لطف خلقه وعجيب صنعه " . وربما قيل : كيف يضرب الله المثل بما دون البعوضة وهي نهاية في القلّة ؟ فيقال : " جناحه أصغر منها بكثير " ، وقد ضرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مثلاً للدنيا في قوله : " لو كانت الدنيا تزِنُ عند الله جناحَ بعوضةٍ لما سقى منها الكافر شربة ماء " ، وفي خلق الله حيوانات كثيرة أصغر منها - كما مر . وقال الآخرون : المراد فما هو أعظم منها في الجثّة - كالذباب والعنكبوت والحمار والكلب ، فإن القوم أنكروا تمثيل الله بكل هذه الأشياء ، واحتجّوا بأن لفظ " فوق " يدل على العلو . فإذا قيل : " هذا فوق ذلك " فمعناه ، أنّه أكبر منه . ويروى أنّ رجلاً مدح أمير المؤمنين علياً عليه السلام - والرجل مُتّهم فيه - ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : " أنا دونَ ما تقولُ ، وفوقَ ما في نفسك " . ثم إنّ ما يجري فيه الاحتمالان هو ما روي أيضاً " أنّ رجلاً بمِنى خرَّ على طنب فسطاط ، ودخل رهط من قريش على عايشة وهم يضحكون ، قالت [ عائشة ] : " ما يضحككم ؟ " . قالوا : " فلان خرَّ على طنب فسطاط فكادت عينه أو عنقه أن تذهب " . فقالت : " لا تضحكوا - إنّي سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها ، إلاّ كُتبت له بها درجة ، ومُحيت عنه بها خيطئة " " . فما عدا الشوكة وتجاوزها في الألم ، كالخرور على طنب الفسطاط ، وما زاد عليها في القلّة ، نحو نخبة النملة - وهي عضّتها - لقوله ( صلى الله عليه وآله ) : " ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كَفّارة لخطاياه حتى نخبة النملة " ، فقوله ( صلى الله عليه وآله ) : " فما فوقها " يحتمل المعنيين . فصل قوله تعالى : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ } " أمّا " : كلمة تجيء في شيئين أو أشياء ، يفصل القول بينهما ، ويؤكّد ما يصدّر بهما ، كقولك : " أمّا زيدٌ فمحسن ، وأمّا عمرو فمسيء " ، فـ " زيد " مبتدأ ، و " محسن " خبره ، وفيها معنى الشرط والجزاء ، ولذلك يجاب بالفاء . وتقديره عند سيبويه : " مهما يكن من شيء فزيدٌ محسن " أي : هو محسن ألبتة ، وأنّ الإحسان منه عزيمة ، ثم أقيم : " إمّا " مقام الشرط ، فصار " أمّا فزيدٌ محسن " ، ثم أخّر الفاء إلى الخبر لكراهة وقوع ما شأنه التعقيب في أول الكلام . فقوله : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } مبتدأ و { يَعْلَمُونَ } خبره ، وكذلك قرينه ، وفي تصدير الجملتين بها تعظيم لأهل الإيمان واعتداد بشأنهم وعلمهم ، وذمٌّ بليغ وإهانة للكافرين على ما قالوا ، وإسقاط لقولهم عن درجة الإعتبار ، والضمير في " إنّه " للمثل ، او لـ " أن يضرب " . و " الحَقُّ " : القول الصادق الذي لا يسوغ إنكاره ، أو الفعل الصائب الذي لا يجوز تخطئته ، أو العين الثابت الذي لا يحتمل زواله ، من قولهم : " حقَّ الأمر " إذا ثبت ووجب ، و { حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } [ يونس : 33 ] ، ومنه " ثَوبٌ محقَّق " أي : محكم النسج . يعني أن العرفاء بالله وتوحيده وملكوته ، وكيفيَّة إنزال الوحي منه على رسله ، يعلمون حقيَّة الوحي والإنزال ، وأنّ أكثره من باب ضرب الأمثال للناس ، وتصوير المعاني الكليّة في قوالب الأمثلة الجزئية لكي يهتدي به الخلائق إلى طريق معرفة الحقائق ، كما في قوله : { وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلْحَقَّ وَيَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } [ سبأ : 6 ] . وكقوله : { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ] . وقوله : " ماذا " إمّا كلمة واحدة منصوبة المحلّ على أنّها مفعول قدِّم على فعله ، كقولك : " ماذا قال زيد ؟ " وهو حينئذ بمعنى " ما " وحده . أو كلمتان مجعولتان إسماً واحداً ، أُولاهما مرفوعة المحل على الإبتداء ؛ وثانيتهما لكونها اسماً موصولاً ، بمعنى الذي يكون مع صلته خبراً لهما . فصل [ تحقيق في إرادته تعالى ] قد مرّ تحقيق الإرادة ، وأنّها في الحيوان كيفيّة نفسانيّة من جنس المحبّة والكراهة وسائر الأمور النفسانيّة ، ودرجتها في الوجود بعد العلْم وقبل القدْرة ، واختلفوا في أنها عين الشوق أو غيره . أقول : الحقّ أن الشوق في الحيوان الحسّي ، صورة الإرادة في الحيوان النطقي ، كما أنّ الشهوة والغضب في النفس الحسّاسة ، صورتان للمحبّة والكراهة في النفس العاقلة ، وصورتهما في المادة الحيوانية الجذب للملائم والدفع للمنافر ، وقد أشرنا إلى أنّ لكلّ صورة نفسانيّة مواطن كثيرة فوقها وتحتها ، وكلّما كانت أشدّ نزولاً ، صارت إلى الكثرة والتفرقة أقرب ، وكلّما كانت أعلى رتبة بحسب الوجود ، صارت إلى جهة الوحدة أميَل ، وعن عالَم الكثرة والتفرقة أبعَد . فالإرادة في الواجب تعالى ، عين علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره ، والجميع عين ذاته بذاته . وقال الإمام الرازي في تفسيره الكبير : الإرادة ماهيّة يجدها العالم من نفسه ، ويدرك التفرقة البديهيّة بينها وبين علمه وألمه ولذته ، وإذا كان الأمر كذلك ، لم يكن تصور ماهيّتها محتاجاً إلى التعريف . وقال المتكلِّمون : إنّها صفة تقتضي رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر - لا في الوقوع ، بل في الإيقاع - واحترزوا بالقيد الأخير عن القدرة . واختلفوا في كونه تعالى مريداً ، مع اتفاق المسلمين على اطلاق هذا اللفظ على الله تعالى . فقال النجّار : إنّه معنى سلبي ، معناه أنه غير مغلوب ولا مستكره . ومنهم من قال : إنّه أمرٌ ثبوتي ، وهؤلاء اختلفوا ؛ فقال الجاحِظ والكعبي وأبو الحسين البصري : معناه علْم الله باشتمال الفعل على المصلحة أو المفسدة ، ويسمّون هذا العلم بالداعي أو الصارف . وقال أبو الحسن الأشعري وأتباعه وأبو علي وأبو هاشم وأتباعهما : إنه صفة زائدة على العلم . ثم القسمة في تلك الصفة أنها إما أن تكون ذاتية ، وهو القول الثاني للنجار ، وإما أن تكون معنوية ؛ وذلك المعنى إما أن يكون قديماً ، وهو قول الأشعرية ، أو مُحْدَثاً ؛ وذلك المحدَث اما أن يكون قائماً بالله تعالى ، وهو قول الكرامية ؛ أو قائماً بجسم آخر ، وهذا القول لم يقل به أحد ؛ أو يكون موجوداً لا في محل ، وهو قول أبي علي وأبي هاشم وأتباعهما " - انتهى ما ذكره . وفي كتاب الأربعين ذكر تقسيم المذاهب في ارادته تعالى هكذا : إما أن يكون نفس ذاته وهو قول ضرار ، وأما أمراً سلبياً - أي كونه غير مغلوب ولا مكره - وهو أحد قولي النجّار ، وإما أمراً ثبوتياً - إما معللاً بذاته وهو القول الآخر له ، وإما بمعنى قديم ، وهو مذهب أصحابنا ، وإما بمعنى حادث ، إما قائم بذاته تعالى وهو قول الكرامية ، أو موجود لا في محل وهو قول الجبائية وعبد الجبار من المعتزلة ، أو قائم بذات غير الله ولم نر أحداً ذهب إليه . ثم أبطل القول الأول ؛ بأنّا نعلمه ونشكّ في كونه مريداً ، والثاني ، بلزوم كون الجماد مريداً ، والخامس والسادس ؛ بلزوم التسلسل في الإرادات ، والخامس - خاصَّة - ؛ بأنّه لا يقوم الحادث بذاته ، والسادس ؛ بأنّه يلزم عرَض لا في محلّ ، وبأنّ نسبة ما لا محلّ له إلى جيمع الذوات سواءً ، وكون ذاته تعالى لا يوجب اختصاصه به . أقول في كلّ ما ذكره في بطلان هذه الأقوال نظر : أمّا ما ذكره أولاً ، فغير منافٍ لعينيّة الإرادة لذاته ، لأن مراده من العلم به تعالى ، إن كان بالكُنه فغير واقع ، وإن كان بوجهٍ ، فلا ينافي العلْم بوجه الشيء الشكّ في ثبوت ما هو عينه في الواقع له . وأما ما ذكره في ابطال الثاني ، فمدفوعٌ ؛ بالفرق بين السلب والسلبي ، إذ معنى كون الإرادة سلبيّة ، أنها عبارة عن سلب العجز مطلقاً أو المغلوبيّة ، أو كونه مكرهاً كذلك كما ذكره أولاً ، فعلى هذا لا يصدق على الجماد . وأمّا ما ذكره في إبطال الخامس والسادس ؛ فلهم أن يرتكبوا التسلسل في الإرادات ، لأنّها مُعِدّات بعضها لبعض ، والفاعل لها جميعاً هو الله ، ولا يسدّ بذلك دليل اثبات الصانع ، للفرق بين الفاعل والمُعِدّ ، فالحاجة إلى المرجّح والمخصّص المُعِدّ ، لا يدفع الحاجة إلى الصانع المريد المفيد ، كما أن الفلاسفة - مع كونهم ذهبوا إلى مثل هذا التسلسل في الحوادث المُعِدّة - أبطلوا القول بالتسلسل في العلل الموجبة ، وأثبتوا به الصانع ، لكن لزم عليهم ما لا يلزم على هؤلاء المتكلّمين ، وهو اثبات محلّ قديم لتلك الحوادث المتسلسلة غير الباري تعالى . والذي يلزم على هؤلاء شيءٌ آخر ، وهو لزوم كونه تعالى محلّ الحوادث التي هي الإرادات المتجدّدة ، واستحالة ذلك غير مقطوعة عندهم ، بل ممّا له وجهٌ وجيهٌ ، يمكن بيانه بحيث لا تنثلم به قاعدة التوحيد الإلهي ، وتنضبط أحديّته عن وصْمة التغيّر والتجدّد والتكثّر في ذاته - تعالى عنها علوّاً كبيراً - ، وليس هٰهنا موعد بيانه . وذكر الشيخ الجليل أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني في باب المشيئة والإرادة من كتاب التوحيد من كتب الكافي عن أبي الحسن عليه السلام : " إنّ لله إرادتين ومشيئَتين : إرادةُ حتمٍ ، وإرادةُ عزمٍ . يَنهي وهو يشاءُ ، ويأمرُ وهو لا يشاءُ . أوَما رأيتَ أنّه نَهى آدمَ وزوجتَه أنْ يأكلا منَ الشجرةِ وشاءَ ذلك ، ولو لم يشأ أن يأكُلا لما غلبت مشيئتُهما مشيئةَ اللهِ تعالى ، وأمر إبراهيمَ أن يذبحَ إسحق - ولم يشأ أن يذبحه - ، ولو شاءَ لمَ غلبت مشيئة ابراهيمَ مشيئةَ اللهِ تعالى " . وبذلك خرج الجواب عما ذكره في ابطال الخامس خاصة . وأمّا ما ذكره في ابطال السادس خاصّة فنقول في دفعه : إنّ الإرادة كالعلم والقدرة وغيرهما من الصفات ، ليس المراد بها المعنى المصدري ، بل كما أن العلم عبارة عمّا به ينكشف المعلوم لدى العالِم ، فكذا الإرادة ، ما به يترجّح أحد طرفي الشيء المقدور عند القادر ، أو أحد المقدورين المتساويين عنده في المقدوريّة ، وكما ان لعلمه تعالى مراتب ومنازل ، وأخيرة مراتبه وجود الموجودات الزمانيّة المكانيّة ، بمعنى أنّ وجودها بعينه نحو معلوميّتها ، ونحو علمه تعالى بها هذا العلم الزماني ، فكذلك لإرادته - جلّ ذكره - مراتب ومنازل ، وأخيرة مراتب الإرادة ، هي بعينها ذوات الموجودات الحادثة ، بمعنى أن كَلاً منها بهويّته مراد الله ، وبه يريد الله غيره ، لأنّ به يتخصّص وجود ذلك الغير ويترجّح على عدمه ، فكلّ منها ارادة ومراد باعتبارين ، كما أنّه عِلْم ومَعلومٌ باعتبارين . فمراتب إرادته تعالى مضاهيةٌ لمراتب علومه ، بل هي هي عند التحقيق ، وإدراك هذا المقام يحتاج إلى تصفية الذهن ، وتجريده عن أنظار المعطِّلين وأقاويل المبتدِعين . ولعلّ ما ذكرناه في توجيه كلامهم ، ممّا غفلوا عنه غفلة تامَّة ، وذهلوا عنه ذهولاً عريضاً ، إلاّ أن غرضنا في ذلك كشف الحق ودفع الباطل بأي وجه كان . ولا يبعد أن كان لهؤلاء القوم أشياخٌ متقدّمون ، وكانت لهم علوم صحيحة غامضة عن أفهام هؤلاء الآخرين ، ولهم كلمات متوافقة المعاني والرموز ، متخالفة الظواهر لاختلاف عاداتهم في طريق التعليم وبيان الرمز ، والمتأخّرون حيث لم يبلغوا شأوَهم ولم يصلوا إلى مقامهم ، حرّفوا الكلم عن مواضعه ، وذهبوا إلى ما ذهبوا ، وسلكوا طريق الجدال ، وشحنوا كتبهم بمثل هذه الأقوال ، زعماً منهم أن في ذلك نصرة الدين ، إلاّ أنّهم حرّكوا سلسلة الشياطين ، وخذلوا وأذلُّوا أولياء اليقين ، وأضاعوا سيرة السالكين في مناهج الآخرة ، ومسالك الدين . واعلم أن الكلام في صفاته تعالى طويل ، وتحقيق عينيَّتها لذاته تعالى ، أو غيريَّتها له تعالى ، غامض دقيق ، قد مرّت إليه إشارة في المفاتيح الغيبية ، وسيقع الرجوع إلى تحقيقها مرّة بعد أخرى زيادة في التوضيح وإبلاغاً في التذكير والتنقيح . قوله جلّ اسمه : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } ، يحتمل أن يكون جواباً لـ " مَاذَا " على أنهما مصْدران ، أي : إضلال كثيرٌ وهداية كثيرةٌ ؛ وإنّما وُضع الفعل موضع المصدر ، للإشعار بالحدوث والتجدّد ، فإنّه لمّا حكى الله عنهم استحقارهم لكلام الله بقوله : { مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } أجاب عن ذلك بهذا القول . ويحتمل أن يكون بياناً للجملتين المصدّرتين بـ " أمّا " ، وتسجيلاً بأن العلم بكونه حقّاً هدى وبيان ، والجهل به والإنكار لحسن مورده ضلالٌ وإضلالٌ ، وكثرة كلّ من الفريقين في أنفسهم لا تنافي وصف المهتدين بالقلّة بالقياس إلى أهل الضلال ، كما قال تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [ سبأ : 13 ] . وربما قيل : " القَليل من المهتدين عدداً كثيرٌ في الشرف والفضيلة " ، فسمّوا بها ذهاباً إلى الحقيقة ؛ وكثرة الضالّين من حيث العدد قلّة لهم في الحقيقة . عن ابن مسعود : " السواد الأعظم هو الواحد على الحقّ " ، فالمهتدون أكثر حقيقة لأنّهم على الحقّ ، والضالّون على الباطل ، فهم أقلّ حقيقة ، وإن كانوا أكثر عدداً كما قيل : @ قليلٌ إذا عُدّوا ، كثيرٌ إذا شدُّوا @@ وقيل أيضاً : @ إنّ الكِرامَ كثيرٌ في البلادِ وإن قَلُّوا ، كما غيرهم قُلٌّ وإن كثروا @@ واعلم أنّ هذا كلام محقَّق ومعنى مبرهَن عليه ، إذ قد حقِّق في مقامه بالبرهان ، وذهب إليه جمع من أهل الحكمة والعرفان ، أن العقل الواحد بالفعل كلّ الموجودات التي دونه ، وأن الحقيقة النوعيّة الموجودة في عالَم العقل مع وحدتها العقليّة ، تحيط بجميع الأعداد والجزئيّات التي دونها ، وأن النفس الناطقة على وحدتها وتجرّدها ، هي عين جميع قواها المدرِكة والمحرّكة على كثرتها وتَخالفها وتفاوت مراتبها ونشآتها . فصل ( في الهداية والاضلال ) اعلم إن مسألة الإضلال وما يجري مجراه إلى الله في هذه الآية وفي غيرها ، صارت معارك للآراء ومصارع للأهواء ، غرقت في بحارها أفهام الأكثرين ، ولم ينج من مهاوي أنظارها إلاّ أقلّ الأقلّين ، فلنتكلّم هٰهنا في تحقيق الإضلال كلاماً مشبعاً يكشف نقاب الارتياب والامتراء ، ويتجلّى به وجه المطلوب عن مكمن الاحتجاب والاختفاء ، ليكون تحقيقه دستوراً لغيره من الصفات الجارية مجراه ، وأصلاً مرجوعاً إليه فيما يجيء من معاني الآيات النازلة من هذا الباب . ولنذكر أولاً ما ذكره أرباب الأفكار وأصحاب الأنظار من البحث والإلزام والردّ والإبرام ، ثم نضيف اليها ما هو طريقة أهل الحكمة والتحقيق ، ثم نذيّل ذلك بايراد لمعة من بوارق نور التجريد ، وقطرة من بحار عالم التأييد . فنقول : قد ذكر أهل اللغة أن همزة الإفعال ، قد تجيء لتعدية غير المتعدّي ، كما في " خرَج " و " أخرَج " . وقد تجيء لعكس ذلك فينقل المتعدي إلى غير المتعدي كما في " كَببتُه فأكبَّ " ، وقد يجيء لمجرد الوجدان ، تقول : " أتيتُ أرض فلان فأعمرتها " أي : وجدتها عامرة . إذا ثبت هذا ، فقولنا ، " أضلَّه الله " ، لا يمكن حمله إلاَّ على وجهين : أحدهما : صيَّره ضالاًّ . والثاني : أنّه وجده ضالاًّ . فعلى الأول ، إما أن يراد به " صيَّره ضالاًّ عن الدين " ، أو " صيَّره ضالاًّ عن الجنّة " . ثمّ إن معنى الإضلال عن الدين في عرف اللغة ، عبارة عن الدعاء إلى ترك الدين وتقبيحه في عينه ، أو ايقاع الوسوسة في قلبه ، وهذا هو الإضلال الذي أضافه الله تعالى إلى الشيطان فقال : { إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ } [ القصص : 15 ] . وقال حكاية عنه : { لأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } [ النساء : 119 ] . وقال : { وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا } [ فصّلت : 29 ] . إلى غير ذلك من الآيات التي أضاف الله فيها الإضلال إلى إبليس ؛ وأضاف الإضلال إلى فرعون وغيره أيضاً كما في قوله : { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ } [ طه : 79 ] . وقوله : { وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ } [ طه : 85 ] . ثمّ إنّ الإجماع متحقَق من هذه الأمَّة - بل من الأمم كلّها - ، على أن الإضلال بهذا المعنى لا يجوز على الله ، لأنّه ما دعى أحداً إلى الكفر ، بل نهى عنه وزجر وتوعَّد بالعقاب عليه ، كما أنّه رغَّب في الهداية وأمَر بالهدى ووعد بالثواب ، وعند هذا افتقر أهل الجبر والقدر إلى التأويل ، وفتحوا باب التصرّف في الأقاويل . أما أهل الجبر وأصحاب أبي الحسن الأشعري ، فلعدم التزامهم قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين ، ولا محافظتهم على القوانين العقلية ، حملوا الإضلال المنسوب إليه تعالى على كونه خالق الضلال والكفر فيهم ، فصدّهم عن الايمان وحالَ بينهم وبينه ؛ وربما قالوا : " هذا هو حقيقةُ اللفظ بحسب اللغة ، لأنّ الإضلال عبارة عن جعل الشيء ضالاًّ ، كما أن الإخراج والإدخال عبارتان عن جعل الشيء خارجاً وداخلاً " . وقالت المعتزلة : هذا التأويل غير جائز لغةً وعقلاً ؛ أمّا اللغة فلوجوه : أحدها : أنه لا يقال لمَن منع غيره عن سلوك الطريق جبراً : " أنه أضلَّه " ، بل يقال " صرَفه ومنَعه " ، وإنما يقال : " أضلَّه " ، إذا أغواه ولبَّس عليه . وثانيها : أنه وصف ابليس وفرعون وغيرهما بالإضلال ، وهم ما كانوا خالقين للضلال في قلب أحد بالاتّفاق ، مع إنّ إطلاق لفظ " المضلّ " عليهم ، على سبيل الحقيقة اللغويّة دون المجاز وثالثها : أن الإضلال في مقابلة الهداية ، فكما صحّ أن يقال : " هديته فما اهتدى " ، وجب صحَّة أن يقال : " أضللته فما ضلَّ " وإذا كان كذلك ، استحال حمل الإضلال على خَلْق الضلال . أقول : وهذه الوجوه الثلاثة في غاية السقوط والاندفاع عند من أحاط بمذاهب الفريقين وأغراضهما : أما اندفاع الأول : فلأنّ غرضهم منْ خَلق الضلال فيهم ، ومنعهم وصدّهم عن السبيل ، هو إنشاء الوسوسة في قلوبهم ، كما في قوله تعالى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [ الشمس : 7 - 8 ] . فعندهم هو الموسوِس بالحقيقة . وأما إندفاع الثاني : فلأنّ نسبة كل فعل عندهم إليه تعالى بالخَلْق ، وإلى غيره بالكَسْب ؛ ولا اختصاص لذلك بهذا اللفظ ، فالحال في : " أضلّ الله " ، و : " أضلَّ فرعون " ، وغيره ، كالحال في : " هَدى الله " ، و : " هَدى رسولُه وأولياؤه " ، وفي غيرهما من الأفعال المنسوبة إليه تعالى تارةً وإلى غيره أخرى . وأما إندفاع الثالث : فبأن " هديته فما اهتدى " و " أضللته فما ضلّ " ، إنّما يصحّان فيما إذا كان الهادي والمضلّ من الممكنات ، وأمّا إذا كان الفاعل هو الله ، بلا مدخليّة أحد ، فالتخلّف عمّا أوجبه محال . وأما أدلّتهم العقليّة : فأوّلها : إنّه تعالى لو خلَق الضلال في العبْد ، ثم كلَّفه بالإيمان ، لكان قد كلّفه بالجمع بين الضدّين ، وذلك سَفَهٌ وظلم ، وهما محالان عليه تعالى . وثانيها : لو كان تعالى خالقاً للجهل ، وملبّساً على المكلّفين ، لما كان مبينّاً لما كلّف به العبد ، والإجماع متحقق على كونه تعالى مبينّاً . وثالثها : إنّه لو كان كذلك ، لم يكن لانزال الكتب وبعثة الرسل إليه فائدة ، بل كان عبثاً وسفهاً . ورابعها : إنّه على مضادّة كثيرة من الآيات ، نحو قوله تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [ المدّثر : 49 ] و : { مَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ } [ الكهف : 55 ] . وقال : { فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ } [ يونس : 32 ] . و { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } [ الأنعام : 95 ] . وخامسها : إنّه تعالى ذمَّ إبليس وحزبه ومن سلك سبيله في الإضلال والإغواء ، وأمر بالاستعاذة منهم بقوله : { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ … مِن شَرِّ ٱلْوَسْوَاسِ } [ الناس : 1 - 4 ] { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ } [ المؤمنون : 97 ] . { فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } [ النحل : 98 ] . فلو كان الله فاعل الضلال ، لوجبت الاستعاذة منه كما وجبت منهم ، ولاستحقّ المذمّة كما استحقّوا ، وأن يتخذوه عدوّاً كما وجب اتّخاذ إبليس عدوّاً - بل حصّته تعالى في جميع ذلك أكثر ، فإنّه المؤثّر في الضلال ، بل يلزم تنزيه إبليس عن هذه القبائح كلّها واحالتها على الله ، فيكون الذنب منقطعاً عنه بالكليّة وعائداً إلى الله تعالى - سبحانه عما يقوله الظالمون علوّاً كبيراً . وسادسها : إنّه تعالى أضاف الإضلال عن الدين إلى غيره ، وذمّهم لأجله ، فقال : { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ } [ طه : 79 ] . { وَأَضَلَّهُمُ ٱلسَّامِرِيُّ } [ طه : 85 ] . { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ } [ ص : 26 ] . وهكذا في كثير من الآيات ، فإن كان المضلّ الحقيقي أو المشارك القويّ في الإضلال هو الله ، فكيف ذمّهم عليه ؟ ! وسابعها : إنّه تعالى يذكر هذا الضلال جزاء لهم على سوء صنيعهم ، وعقوبة عليهم ، فلو كان المراد به ما هم عليه من الضلال ، لكان ذلك عقوبةً وتهديداً بشيء هم عليه مقبلون ، وبه ملتذّون ومغتبطون ، ولو جاز ذلك ، لجاز العقوبة بالزنا على الزنا ، وبشُرب الخمر على شُرب الخمر - وهذا غير جائز - . وثامنها : إنّ قوله تعالى : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ * ٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } [ البقرة : 26 - 27 ] ، صريحٌ في أن هذا الإضلال فُعِل بهم بعد فسقهم ونقضهم عهد الله باختيار أنفسهم ، فيكون مغائراً لفسقهم وكفرهم . وتاسعها : إنّه تعالى ذكر أكثر الآيات التي فيها ذكر الضلال منسوباً إلى العصاة الضلال على ما قال { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ } و { يُضِلُّ ٱللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ } [ غافر : 34 ] . فلو كان المراد بالضلال المضاف ، هو ما هم فيه ، كان ذلك إثباتاً للثابت ، - وإنّه محال - . فهذه هي الوجوه التي ذكرها صاحب التفسير الكبير عنهم ، ولم يُجب عنها مع كونه أشعريّ المذهب ، بعيداً عن الإعتزال . وأقول في الجواب عنها : أمّا مجملاً ، فهو أنّها مكرّرة لا خصوصيّة لها بهذا المقام ، بل تجري في جميع الأفعال الجارية مجرى الإضلال ، كالختم والطبع والإعماء والإصمام وغيرها - المنسوبة تارةً إلى الله وتارةً إلى العبد - ، وما منْ فعْل يحدث في هذا العالم - وهو عالم الظلمات والشرور ، وعالَم الجهل والغرور - ، إلاّ ويعتريه نقصٌ وآفةٌ وقصورٌ ، ويصحبه شرٌ وفتنةٌ وفتورٌ ، والعالَم الذي كلّه خيرٌ ونورٌ ، عالَم آخَر فيه دار السرور . وأمّا تفصيلاً ، فلكلّ من هذه الوجوه وجه دفع - إمّا بالنقص ، وإمّا بالمعارضة ، وإمّا بالحلّ - . أمّا الجواب عمّا ذكروه . أولاً : فبأنّ التكليف للكلّ بالإيمان ظاهراً على لسان الرسول والكتاب ، لا ينافي الشقاوة الأزليّة الثابتة للبعض بالقول الحتم ، والقضاء الحاكم بإبعاد من هو أهل للطرد والرجم ، بحسب الفطرة النازلة والقلب القاسي ، والجوهر المظلم الرديّ . وأما عن الثاني : فبأنّ نور التبيين والهداية من قِبَله تعالى ، عامٌّ لجميع صحائف القلوب ، كنور الشمس الذي من قِبَلها عامٌّ شامل لجميع صفحات القابليات ، لكن الجهل والالتباس ، كالظلمة والكدورة ، ناشيان من تراكم الحُجُب والقساوة والكثافة والظُلمة . وأما عن الثالث : فبأنّ فائدتهما بالذات ، راجعةٌ إلى أهل الإيمان ، بتنوير قلوبهم نوراً فوق نور ، وإصعادهم بالحبل المتين ، والعروة الوثقى ، عن هاوية الجهل والغرور ، وظلمات مضائق هذه القبور ؛ وفائدتهما بالقياس إلى المطرودين بالعَرَض ، إعراضهم عن الذكر الحكيم ، زيادة في بُعدهم وطردهم ومعاداتهم لأهل اللطف والكرامة ، ليفرحوا بما هم عليه من عمارة هذه الدار ، والسعي في تحصيل الأرزاق والأقوات ، وصرف العمر في المعاملات والزراعات ، خدمة لأهل الحقّ من حيث لا يشعرون . وأما عن الرابع : فبأنّ الآيات الواردة على موافقته ، ليست بأقلّ من الآيات الواردة على مضادّته بحسب الظاهر ، فالاعتضاد والتأييد بها ، ليس بأقلّ من القدح والجرح بما يقابلها في ظاهر الأمر ، وتلك مثل قوله [ تعالى ] : { وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [ الجاثية : 23 ] . وقوله : { فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ } [ الروم : 29 ] . قوله : { وَمَآ أَنتَ بِهَادِي ٱلْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ } [ النمل : 81 ] . { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [ يس : 7 ] . { وَمَا تُغْنِي ٱلآيَاتُ وَٱلنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 101 ] . { وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي ٱلْقُبُورِ } [ فاطر : 22 ] . إلى غير ذلك من آيات كثيرة في هذا الباب . وأما عن الخامس : فبأنّ المعنى الواحد كما تختلف أحواله بحسب اختلاف المحالّ والقوابل ، كذلك تختلف بحسب اختلاف المبادي والفواعل ، بل هذا أشدّ في الاختلاف - كما تقرّر في مقامه - ، فالشيء الواحد ، ربما يذمّ ويمدح بالنظر إلى قابِلَيْن ، وكذا يقبح ويحسن بالقياس إلى فاعلين . أوَلا ترى أن إهلاك قوم مؤمنين وإيلامهم مدّة في الدنيا ، قبيحٌ من الإنسان ، حسَنٌ من الله واقعٌ منه ، فلا منافاة بين كون الإضلال مذموماً فعله من غيره تعالى ، وممدوحاً منه ، لأنّ ذاته بريء من الأغراض الفاسدة ، والأوصاف الرديئة ، فكلّ ما يفعله هو محض الخير والصلاح ، ورعاية حال الأنام ، وملاحظة حسن النظام . فمن قال : " القبيح ليس منه بقبيح " ، كأنّه أراد ما ذكرناه ، لأنّ كلّ ما يفعله ففيه مصلحة الكلّ ، وحكمة الإيجاد ، وخير العباد والبلاد ، وسياقة الخلْق إلى منزل الرشاد وطريق المعاد . وأما عن السادس : فبِمثل ما ذكرناه من أن الذمّ راجع إلى العباد ، لأن فعل القبيح يؤثر فيهم بالتغيير والتصريف لِما هم عليه من ضعف الوجود وقوّة القابليّة ، فيغيّرون خلق الله ، ويتغيّرون عن الفطرة التي كانوا عليها ، ويعدلون عن الصراط المستقيم إلى طريق الهاوية والجحيم . وأما عن السابع : فبأنّ سبق الأعمال القبيحة ، والمعاصي المظلمة والإعراض عن الحق ، والخوض في الباطل ، يؤدّي بالشخص إلى أن يَسْوَدّ باطنه ويقسو قلبه بالكليّة ، فينتهي حال من هو كذلك ، إلى أن لا تؤثر فيهم الهداية والإرشاد ، ولا تنجع لهم الآيات والنذُر ، فيقعون في الضلال البعيد في الدنيا ، ويحترقون بنار الوعيد في الآخرة جزاءً لما كانوا عليه ، وذلك بما كسبت قلوبهم . وأما عن الثامن : فبأنّ الفسق ونقض العهد ، وإن كانا من جملة ما استحقّوا به ظلمةً في القلب ، وضلالاً عن الطريق ، لكن الدوام عليهما ، وعدم التوبة عنهما ، أوجب عليهم تسبّبهما لظلمة زائدة وضلال بعيد ، وهذا التسبّب ليس بمعنى الفاعليّة والايجاد ، بل بمعنى الوسيلة والإعداد ، فالفاعل الحقيقي عندهم هو الله ، والأفعال السابقة مقرّبات ومُعدّات ، أو علامات ومناسبات . وأما عن التاسع : فبأنّ الضلال للفاسقين والمسرفين حاصل بنفس الإضلال المنسوب إليه تعالى ، وإثبات الثابت ليس بمستحيل إذا كان بنفس ذلك الإثبات ، لا بإثبات مجدّد ، وقد تقرّر في العلوم العقليّة ، أن تحصيل الحاصل بنفس التحصيل الأول غير مستحيل . فهذه هي التي سنحت في جواب أدلّة المعتزلة واعتراضاتهم على بطلان تأويل الجبريّة ، وسيأتي تمام الاستبصار ، وما يهتدي به أهل الاعتبار . ثمّ لمّا ذكروا تلك الاعتراضات على بطلان تأويلهم قالوا : فوجب المصير إلى وجوه أخرى من التأويل ، وذكروا تلك الوجوه : الأول : إنّ الرجل إذا ضلّ باختياره عند حصول شيء ، من غير أن يكون لذلك الشيء أثرٌ في إضلاله ، فيقال لذلك الشيء : " إنه أضلّه " ، قال تعالى في الأصنام : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ } [ إبراهيم : 36 ] . أي ضلّوا بهنّ ؛ وقال : { وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً } [ نوح : 23 - 24 ] . أي ضلّ بهم كثيرٌ من الناس ؛ وكذلك قوله : { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِيۤ إِلاَّ فِرَاراً } [ نوح : 6 ] . وقوله : { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] . فالإضلال على هذا المعنى ، يجوز أن يُنسب إلى الله تعالى على معنى أنّ الكافرين ضلّوا بسبب الآيات المشتملة على الامتحانات . والثاني : إنّ الإضلال هو التسمية بالضلال ، فيقال : " أضلَّه " أي : سمَّاه ضالاًّ ، وحكَم عليه به ، و " أكفَر فلاناً " إذا سماه كافراً . قال الكميت : @ وطائفةٌ قد أكفَروني بحبِّكم وطائفةٌ قالوا : مسيءٌ ومذنبٌ @@ وقال طرفة : @ ومَا زال شُربي الرّاحَ حتى أضلَّني صديقي وحتى ساءَني بعضُ ذالِكا @@ أراد : سمّاني ضالاًّ ، وهذا الوجه ما ذهب إليه قطرب وكثير من المعتزلة ، ومن أهل اللغة من أنكره . ويجاب عن هذا التأويل ؛ بأنّه مع كونه في غاية البُعد ، لا يفي بدفع الإشكال ، فإنّ من سمّاه بذلك وحكَم به عليه ، فلو لم يأت بالضلال ، لانقلَب علُمه جهلاً ، وخَبَرُه كِذباً ، وذلك محالٌ ، فالمفضي إلى المحال - وهو عدم إتيان المكلف به - ، يكون محالاً ، فإتيانه بالضلال يكون واجباً ؛ وهذا عين الجبر الذي تفرّون منه فإنّه ملاقيكم لا محالة ، وبه يخرج الجواب عن الوجه الأول لهم كما يعرف بالتأمّل … ، مع أن كلّ عاقل يعلم ببديهةِ عقلِهِ سقوطَ الوجهين . والثالث : أن يكون الإضلال هو التخلية ، وترك المنع بالقهر والجبر . فيقال : " أضلّه " أي : خلاّه وضَلاَلَهُ ، كما يقال : " أفسد فلانٌ ابنه " إذا لم يتعهّده بالتأديب . وأُجيب عنه : إنّ التخلية وترك المنع من الولد ، إنّما يسمى إضلالاً ، إذا كان الأحسن به أن يمنعه عن ذلك ، وهٰهنا الأمر بخلاف ذلك ، لأنّه تعالى لو فعلَ بالمكلف خلاف ما فَعله - بأنْ منعه جبراً عن هذه المفسدة - ، لأدّى إلى مفسدة أخرى أعظم من الأولى ، سيّما على قاعدة أن الأصلح واجب عليه تعالى - كما ذهبوا إليه - فكيف يقال : إنّه تعالى أفسد المكلّف وأضلّه بالمعنى المذكور ؟ ! والرابع : إن الضلال والإضلال هو العقاب والتعذيب ، بدليل قوله تعالى : { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ } [ القمر : 47 - 48 ] . فوصفهم الله بالضلال يوم القيامة ، وذلك لا يكون إلاَّ عذابهم ، وقال تعالى : { إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وٱلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي ٱلْحَمِيمِ } [ غافر : 71 - 72 ] { كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلْكَافِرِينَ } [ غافر : 74 ] . فسّر ذلك العذاب بالضلال . والجواب عنه : إنّا لا نسلّم مجيء الضلال بمعنى العذاب ، أمّا قوله تعالى : { إِنَّ ٱلْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } [ القمر : 47 ] ، أي في ضلالٍ عن الحق في الدنيا ، وفي سُعُرٍ في الآخرة ، وهكذا القياس في غيره كما ذكره القفّال وغيره . والخامس : أن يحمل الإضلال على الإهلاك والإبطال ، كقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 1 ] . قيل : أهلكها وأبطلها من قولهم : " ضلَّ الماءُ في اللبن " إذا صار مستهلكاً فيه ، وقوله تعالى : { وَقَالُوۤاْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ السجدة : 10 ] . والجواب : بأنّ هذا التأويل غير لائق بهذا الموضع ، لأن مقابلة قوله : { وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } يمنع عنه . قالوا : فهذه الوجوه الخمسة إنما ذكرت إذا حمل الإضلال على الإضلال عن الدين . والسادس : أن يحمل الإضلال على الإضلال عن الجنّة ، قالوا : هذا في الحقيقة ليس تأويلاً ، بل هو حمل على الظاهر ، فإنّ الآية تدلّ على أنّه تعالى يُضلّهم ، وليس فيها دلالة على أن الإضلال عمّا ذا يكون ، فنحن نحمله على أنّه عن طريق الجنّة ، وهو اختيار الجبائي . أقول : لا يخفى على من له بصيرةٌ دينية ، أنّ طريق الجنة هو بعينه طريق المعرفة واليقين ، والضلال عنه بعينه ضلال عن الدين ، وكذا المشي على صراط الجنّة هناك ، هو نفس السلوك لسبيل الحقّ هٰهنا ، والتفاوت بينهما ليس إلاّ في الكون والبروز ، والخفاء والكشف . السابع : أن تحمل الهمزة لا على التعدية ، بل على الوجدان كما مرّ إبتداء . وأجيب : بالمنع ، وبأنّ إثبات هذه اللغة ممّا لا دليل عليه ، سيّما وقد عديّ بالباء ، والإضلال بمعنى الوجدان لا يتعدّى به . الثامن : أن يكون هذا القول في تمام قول الكفّار ، كأنهم قالوا : مَاذَا أرَادَ اللهُ بهذا التمثيل الَّذي لا تظهر فيه فائدة ؟ - ثم قالوا : - يُضلّ به كثيراً ويَهدي به كَثيراً ، ذكروه تهكّماً ، ثم قال تعالى جواباً لهم : وَمَا يُضلّ به إلاّ الفاسِقين . أي ما أضلّ إلاّ الفاسق . وأجيب عنه بوجهين : أحدهما : إنّه يوجب تعليل النظم ، لأنّ قوله : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ } كلام الله من غير فصْل بينهما ، بل مع واو العطف ، على أن الفاعل فيه ضمير مستتر عائدٌ إليه تعالى ، و " الفاسقين " مفعوله ، وضمير " به " راجع إلى " أنْ يَضربَ مثَلاً " أو إلى المثَل نفسهن فالإشكال باقٍ . وثانيهما : هبْ أنّه هٰهنا كذلك ، لكن ما يصنعون بقوله في المدثر : { كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ المدّثر : 31 ] . إذ لا شكّ إنّه قول الله تعالى ؟ قالت الجبريّة في هذا المقام - مداراة مع أهل الاعتزال - : لقد سمعنا كلامكم ، واعترفنا بجَودة الإيراد وحُسْن الترتيب وقوّة الكلام ، ولكن ماذا نعملُ ولكن أعداءٌ ثلاثة يشوّشون عليكم هذه الوجوه الحسنة ؟ أحدها : مسألة الداعي ، وهي أن القادر على العلم والجهل والاهتداء والضلال لِمَ فعَل أحدهما ولم يفعل الآخر ؟ وثانيها : مسألة العلم ، وهو أنّ خلاف ما علِمه الله في الأزل محال ؛ فكما اعترفنا لكم بقوّة الذكاء وحسن الكلام ، فأنصفوا أيضاً ، واعترفوا بأنّه لا وجه لكم عن هذين الوجهين ، فإنّ التعامي والتغافل لا يليق بالعقلاء . وثالثها : إنّ فعْل العبد لو كان باختياره ، لَما فعَل إلاّ الذي أحبّه وأراده ، لكن أحد لا يريد إلاّ تحصيل العلم والاهتداء ، ويحترز كل الاحتراز عن الجهل والضلال ، ثم حصل عنه خلاف ما قرّره . فإن قيل : اشتبه عليه الكفر بالايمان ، والعلم بالجهل ، فلذلك فعَل ما فعَل . قلنا : ظنّه في الجهل أنه علم ، إن كان باختياره أولاً ، فقد اختار الجهل والخطأ لنفسه ، وذلك غير ممكن ، وإن اشتبه عليه ذلك بسبب ظنّ آخر متقدم عليه ، لزم أن يكون قبل كلّ ظنّ ظنّ - إلى لا نهاية - وهو محال . إشراق نور قرآني طلع من أفق عالم رحماني [ كلام أهل التحقيق في القَدَر وأفعال العباد ] اعلم يا حبيبي - أيّدك الله بنور تأييده ، وسدّدك بقوّة تسديده - أنّ الكلام من أهل الكلام قد بلغ إلى هذا المقام ، ولم يبق لأحد من الجانبين لهم من السهام إلاّ ورماه إلى الآخر طلباً للإفحام ، فتلاطمَ حينئذ أمواج بحري الجبر والقدَر ، وانكسرت سفائن البحث والنظر ، وغرقت فيها أكثر العقول والأفهام ، وضاعت دون الفلاح بضاعة أفكار الأقوام ، ولم ينجح ولم يتنقح هذا المبحث لأحد من المناظرين ، ولم ينفتح هذا الباب المغلق بمفاتيح أنظار أولئك المتفكرين . وذلك لأنّهم سلكوا في طلب المقاصد لأعَلَى مسالكها ، ودخلوا بيوتاً علميّة لم يأتوا من أبوابها ؛ فمسلك العلم واليقين ، ليس كمسالك الظنّ والتخمين ، وباب حقائق الإيمان ومعارف القرآن ، ليس باب تحصيل البراعة في التكلّم والبيان ، ولا يفي بذلك الإحاطة بالمشهورات والمتداولات ، وحفظ ما يستحسنه جمهور الناس من المنقولات ، بل بالتجرّد والإخلاص ، وطول المهاجرة عن الخلق ، واليأس عمّا في أيديهم ، والخلوة مع الله بالذكر القلبي ، والفكر اللطيف ، ودوام الصحبة مع أنوار القرآن ، وكثرة التشوّق إلى عالَم الملكوت ، والتماس الاطلاع على غرائب أسرار الإيمان . فإذا بقي الإنسان على مثل هذه الحالات ، فيوشك أن تأتيه أنوارٌ متتاليةٌ عقليةٌ أشرَقت على قلبه من سَماء الملكوت ، ولوامعُ متواردة طلع ت عليه من أفق الجبروت ، فتنكشف له بها جملة من خبايا حقائق أنوار الإيمان - كثُرت أو قلَّت - ، واطَّلع على طائفة من خفايا أسرار العلم والعرفان - نقصت أو كملت - . واعلم أن كلام أهل الحقيقة في هذا المقام بلَغ منتهاه ، وأقدام أرباب البصيرة والكشف رسخت في مستقرّه ومرتقاه ، وكان نصيبهم فيه من الكأس الأوفى والقدح المعلّى ، فشربوا من بَرد عين اليقين ، وأفاضوا جرعه للعطاش السالكين . فقالوا - كما وقعت الإشارة إليه - : إن الله تعالى متجلٍّ للخلق بجميع صفات كماله وأسمائه ، ومفيض على عباده وعوالِمه بكل نعوت جماله وجلاله ، فأول ما تجلّى تجلّى في ذاته لذاته ، فظهر من تجلّيه عالم أسمائه وصفاته ، فهي أول حجب الأحديّة ؛ ثم تجلّى بها على عالم الجبروت ، فحصلت من تجلّيه أنوار عقليّة وملائكة مهيميّة قدسيّة ، وهي سرادقات جبروته ؛ ثمّ تجلّى من خلف حجب تلك الأنوار على عالم الملكوت الأعلى والأسفل ، ثمّ على أشباحها الغيبيّة والمثاليّة ، ثمّ على عالم الطبيعية السماويّة والأرضيّة . ولكل من هذه العوالِم والحضَرات منازلٌ وطبقاتٌ متفاوتةٌ ، وكلّما وقع النزول أكثر ، قلَّت الأنوار الأحديّة بكثرة هذه الحُجب الإمكانية أكثر ، وتراكمت النقائص والشرور بمصادمات الاعدام والقصورات أشدّ وأوفر . أوَلا ترى أن كلاًّ من الصفات السبعة الإلهيّة - الّتي هي أئمّة سائر الصفات وأصول الكمالات - ، تكون في الذات الأحديّة بريئةً من النقيصة والإمكان والكثرة والحدْثان ، ثمّ إذا وقعت ظلالها في هذا العالم الأدنى ، صحِبتْها الآفات والشرور ، ولَزمتها الأعدام والنقائص والقصور والدثور ، وإذا ارتفعت هذه الصفات بارتفاع موصوفاتها وذواتها عن عالَم الأجسام إلى عوالم النفوس والعقول ، زالت عنها الشوائب والنقائص بقدر ارتفاعها ، وعلى حسب درجات وجوداتها تخليصاً وتطهيراً ، وإذا رجعَت إلى عالَم الأسماء ، وجاوزت بكلماتها الطيّبات وصحائفها العاليات الى الحضرة الإلهية ، تطهّرت عن الشوائب كلّها ، وبلغت حدّ الكمال ، وخلصت عن الكثرة والانحلال ، وعادت إلى إقليم الوحدة والوصال ، والانخراط في صفّ أنوار الجمال والجلال ، والاضمحلال في سطوة قهر المهيمن المتعال . إذا تقرَّر هذا ، فلنرجع إلى تحقيق الجبر والقدر فأقول : إنّ نسبة أفعال العباد كلّها إلى الله ، إن وقَع من العارف المحقّق ، فهو حقٌّ وصوابٌ ، وإن وقع من الجاهل المتكلّم ، فهو باطلٌ وخطأ ، وكذا تنزيه الله عنها جميعاً ، إن وقع من السابقين الأولين والحكماء الشامخين ، والعرفاء الراسخين فهو أدبٌ وتجريدٌ ، وإن وقع من الحكيم الباحث ، أو المتكلّم القوّال من أهل الاعتزال ، فهو سوء أدب وتعطيل ، وفتْح باب التأويل في أكثر الآيات ، وسدّ عظيم لطريق الاهتداءِ بأنوار التنزيل . أما نسبة البعض كالخيرات إليه تعالى ، والبعض الآخر كالشرور إلى غيره ، فمّما له وجهٌ عند الطائفتين الأوليين ، كلٌ بحسب حاله ومقامه ، وأما لو وقع من غيرهما من أصحاب الفكر أو الرواية ، فيوشك أن يكون فيه قرْع باب الثنوية في الاعتقاد ، ولا يأمن قائله من أن يحجب عن نور الحقّ يوم المعاد . وأما المقلِّد العامي المسلِم السليم ، فهو أدنى إلى النجاة في معاده من جهة اعتقاده ، وأقرب إلى السلامة لاقتصاده ، بل هو مسلمٌ معذورٌ ، وليس بمفتونٍ ممكورٍ . فالأشاعرة ، حيث نسبوا الأفعال إلى الله تعالى ، فقد أساؤوا الأدب وتجاسروا في حقّ الحقِّ ، وما عرفوا حكمة الايجاد وترتيب النظام وجهلوا علْم التكليف ، فكيف أجابوا عمّن سئلهم من المكلّف الذي قيل له : " افعَلْ " أو " لا تَفْعَل " ؟ وبمن تعلَّق الأمر والنهي ؟ وإلى من توجَّهت الشريعة النبوية ؟ فكانت الشريعة كلّها هباء وعبثاً ، وغاية السعي والطاعة ضائعاً وهذراً . وليس متعلَّق التكليف ما يسمّونه بالكَسْب ، إذ لا تأثير له عند من يقول به ، بل الذي يتعلّق به التكليف ، وتناط به الشريعة ، اقتدارٌ لطيف من العبْد مندرج في الاقتدار الإلهي ، كاندراج نور الكواكب والسراج في نور الشمس ، فيعلم بالدليل أن للكوكب نوراً منبسطاً على وجه الأرض ، لكن ما ندركه لسلطان نور الشمس ، كما يعطي الحسّ في أفعال العباد أنّ الفعل لهم حسّاً وشرعاً ، وأن الاقتدار الإلهي مندرجٌ فيه يدركه العقل بالبرهان ، ولا يدركه الحسّ ، كاندراج نور الشمس في نور الكوكب - وهو عين نور الشمس والكوكب لها مَجلى - . فالنور كلّه للشمس ، والحسّ يجعل النور للكوكب ، وعلى الحقيقة لا نورَ إلاَّ نور الشمس ، فاندرج نوره في نفسه ، إذ لم يكن ثمة نور غيره ، والمَرائي - وإن كان لها أثر - فليس ذلك من كونها نوراً ، فالنور له أثر من كونه نوراً بلا واسطة ، ويكون له أثر آخر في مرآة تجلّيه يحكم بخلاف حكمه من غير واسطة ؛ فنور الشمس إذا تجلّى في البدر ، يعطى من الحكم ما لا يعطيه منه بغير الواسطة ، ولا شكّ في ذلك . وكذلك الاقتدار الإلهي إذا تجلّى في العبيد ، فظهرت الأفعال على الخْلق ، وهو وإن كان بالاقتدار الإلهي ، ولكن يختلف الحكم ، لأنّه بواسطة هذا المجلّى الذي كان مثل المرآة بتجليه . وكما ينسب النور الشمسي إلى البدر في الحسّ - والفعل لنور البدْر وهو للشمس - ، فكذلك ينسب الفعْل إلى الخلْق في الحسّ ، والفعْل انما هو لله في نفس الأمر ، ولاختلاف الأثر تغيّر الحكم النوري في الأشياء ، كذلك يختلف الحاكم في أفعال العباد . ومن هٰهنا يُعرف التكليف إلى من توجّه وبمن تعلّق ، وإذا كان الأمر بين الشمس والبدْر بهذه المثابة من الخفاء ، وأنه لا يَعْلَم ذلك كل أحد ، فما ظنّك بالأمر الإلهي في هذه المسألة مع الخلق من الخفاء . فمَن وقَف على هذا العالم ، فهو من أعلى علامات السعادة ، ومن فقَد مثْل هذا فهو من علامات الشقاوة ، وأريد بهذا سعادة الأرواح وشقاوتها المعنوية ، وأما السعادة الحسيّة والشقاوة الحسيّة ، فعلاماتها الأعمال المشروعة بشرطها - وهو الاخلاص - ، قال الله تعالى : { وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ } [ البينة : 5 ] . وقال : { أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } [ الزمر : 3 ] … والأعمال التي بخلافها . فمن عرف نسبة العقل - الذي هو أمير المشاعر والحواسّ - إليها ، عرف نسبة الاقتدار الإلهي إلى إقتدار الناس ، وسرّ { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [ الإنسان : 30 ] . وروى الشيخ الجليل محمد بن يعقوب الكليني - رحمه الله - في كتاب التوحيد من كتب الكافي عن أبي الحسن الرضا عليه السلام " قال الله : يابنَ آدم - بمشيئتي كنتَ أنتَ الذي تشاءُ لنفسكَ ما تشاءُ ، وبقوّتي أدّيت [ إليّ ] فرائضي ، وبنعمتي قويتَ على معصيتي ، جعلتكَ سميعاً بصيراً قويّاً ، ما أصابك من حسنةٍ فمن اللهِ ، ومَا أصابكَ من مصيبة فمن نفسكَ ، وذلكَ إنّي أولى بحسناتِكَ منكَ ، وأنتَ أولى بسيّئاتِكَ منّي ، وذلك انّي لا أسئَل عمَّا أفعَل وهُم يُسئلون " . ولعلّك إن كنت ذا بصيرة ، تستفيد من هذا الحديث القدسي حقّية ما ذكرنا لك سابقاً ، أن النقائص والقصورات اللازمة في هذا العالَم لبعض الصفات المنسوبة إلى الحقّ تارةً ، وإلى الخلْق أخرى ، إنّما نشأت ولزمت من خصوصيّة هذا الموطن ، فعادت إلينا لا إلى الصفة الإلهية ، وهو معنى قوله تعالى : " أنْتَ أولى بسيّئاتك منّي " . ومعنى قوله : " لا أسئَل عما أفعل " إن الأفعال الصادرة منه بلا واسطة ، وكذا الصفات الإلهيّة الثابتة له في مقام التوحيد قبل عالَم الكثرة ، ليست فيه شائبة النقص والقُبح حتى يرد فيها السؤال ، لأنّ عالم الإلهيّة كلّه نور وكمال ، وليس معناه - كما توهّمه قوم - أن صدور القبيح منه حسَن ، وأن السؤال عن قبحه حرام وبدعة ، لأن العالم ملكه ، وملكه ، له أن يفعل في ملكه كلّما يريد - وإن كان قبيحاً - . هذا ما زعمته الأشاعرة ، وهو عندنا أكثف الاعتقادات وأفحشها - تعالى وتقدّس كبرياؤه عمّا يقوله الظالمون المتجاسرون في حقّه علوّاً كبيراً - . تمثيلٌ : ذكره بعض أصحاب القلوب تقريباً للطبائع والأفهام ، وتسهيلاً لفهم التوحيد الأفعالي على العقول فيما يضاف إلى الجمادات والأعجام ، فإنّ الحجاب عن إدراك هذا التحقيق أمران : أحدهما : إختيار الإنسان والحيوان . وثانيهما : ما ينسب إلى الجمادات وسائر الأجرام . أما الأول : أن نسبة ارادة الإنسان إلى مشيئة الله ، كنسبة إدراك الحواسّ إلى إدراك العقل ، كما في قوله : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [ الإنسان : 30 ] . ونسبة مصادر أفاعيلها من الأبدان والأعضاء ، كنسبة الجوارح إلى القلب الذي هو أمير الجوارح ، كما دلّ عليه قوله [ تعالى ] : { يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الفتح : 10 ] . وقوله : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } [ التوبة : 14 ] . وقوله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [ الأنفال : 17 ] . وأما الثاني : فقد انكشف لدى البصائر المستنيرة ، أنّ الشمس والقمر ، والغيم والمطر ، والأرض وكلّ حيوان وجماد ، مسخَّرات بأمره ، ومقبوضات بقبضة قدرته ، كالقلم الذي هو مسخر للكاتب ، وعلمه وارادته وقدرته وقوته التي في عصبه وأصبعه ، كما أن علمه ومشيئته وارِدَتان عليه من خزائن غيب الملكوت وكتابة قلَم اللاهوت - على ترتيب ونظام ، وتقدّم وتأخّر ، من الأعلى فالأعلى ، إلى ا [ لا ] دنى فالأدنى ، حتّى انتهى أثر القدرة من احدى حاشيتي الوجود إلى الأخرى ، ومن القلم الأعلى إلى القصب الأدنى . وهذا مما يشاهده من انشرح صدره بنور الله ، ويسمع بسمعه المنور من يدرك ويفهم تسبيح الجمادات وتقديسها ، وشهادتها على أنفسها بالعجز والمسخريّة بلسان ذَلق أنطقها الله به ، الذي أنطق كلّ شيء بلا حرف وصوت ، ما لا يسمعه الذين هم عن السمع لمعزولون . فقال بعض الناظرين من هذا المشكاة للكاغد - وقد رآه أسودّ - لِمَ تَسَوّد وجهَك ، وتشوّش بياضك بهذا السواد ؟ فقال بلسان الحال : سلوا هذا المداد الذي ورد عليَّ وغيَّر هيئتي وجِبِلّتي . فقال للمداد : لِمَ فعلتَ ذلك ؟ فقال : كنت مستقراً في قعر الدواة ، لا صعود لي بنفسي عن ذلك المقعر ، فوردت عليَّ قصبة تسمى " القلَم " ، فرقّاني من مقعري ، ولولا نزوله ما كان لي صعود . فقال للقلم : لِمَ فعلتَ ذلك ؟ فقال : كنت قصَباً نابتاً في بعض البقاع ، لا حركة منّي ولا سعي ، فورد عليّ قهرمان سكّين بيد قاطع ، فقطعني عن أصلي ، ومزّق عليَّ ثيابي وشقّ رأسي ، ثمّ غمسني في سواد الحبر ومرارته . فقال للسكين : لِمَ فعلت ؟ فأشار إلى اليد . فاعترض عليها فقال : ما أنا إلاّ لحم ودم وعظم ، حرّكني فارس يقال له القدرة ، فاسألها . فلما سألها عن ظلمها وتعدّيها على اليد فأشارت إلى الإرادة . فقال لها : ما الذي قوّاك على هذه القدرة الساكنة المطمئنّة ؟ فقالت : لا تعجل لعلّ لنا عذراً وأنت تلوم ، فإنّي ما انبعثت ولا انتهضت بنفسي ، ولكن بعثني حُكم حاكم وأمر جازم من حضرة القلب ، وهو رسول العلم على لسان العقل بالإشخاص للقدرة ، والإلزام لها في الفعل ، فإنّي مسكين مسخّر تحت قهر العلم والعقل ، فلا أدري بأيّ جرم سخّرت لهما ، والزمت لهما الطاعة ، لكنّي أدري أن تسخيري إيّاها بأمر هذا الحاكم العادل أو الظالم . فأقبَلَ على العلْم والعقْل والقلْب ، مُطالباً لهم ومُعاتِباً ايّاهم على سبب استنهاض الإرادة وإنهاضها للقدرة . فقال العقل : أمّا أنا فسراج ما اشتعلتُ بنفسي ، ولكنّي أُشعلت . وقال القلب : أمّا أنا فلوح ما انبسطت ، ولكنّي بُسطت ، وما انتشرت ولكنّي نشرني من بيده نشر الصحائف . وأمّا العلم فقال : إنّما أنا نَقْش في منقوش ، وصورة صوّرت في بياض لوح القلب لما أشرق العقل ، وما انخططت بنفسي ، فكمْ كان هذا اللوح قبلي خالياً فَسَلِ القلم عني ، واسأله عن هذا . فرجع إلى القلم تارةً أخرى بعد قطع هذه المنازل والبوادي ، وسير هذه المراحل والمقامات ، فوقع في الحيرة حيث لم يعلم قلماً إلا من القصب ، ولا لوحاً إلاّ من العظم والخشب ، ولا خطّاً إلاّ بالحبر ، ولا سراجاً إلاّ من النار ، وكان يسمع في هذا المنزل هذه الأسامي ولا يشاهد شيئاً من مسمّاها . فقال له العلْم : زادك قليل وبضاعتك مزجاة ، ومرْكبك ضعيف ، فالصواب لك أن تؤمن بهذه المسمّيات ايماناً بالغيب ، وتنصرف وتدع ما أنت فيه . فلمّا سمع السالك ذلك ، استشعر قصور نفسه ، فاشتعل قلبه ناراً من حدّة غضبه على نفسه لمّا رآها بعين النقص ، ولقد كان زيته في مشكاة قلبه يكاد يضيء ، ولو لم تمسسه نار لقوّة استعداده وكبريتيّة في مادته ، فلمّا نفخ فيه العلم بحدّته اشتعل زيته ، فأصبح نوراً على نور ، فقال له العلم ؛ اغتنم الفرصة وافتح بصرك ، فلعلّك تجد على هذه النار هدى . ففتح بصره ، فرأى القلم الإلهي كما سمع نعته من العلم إنه ليس من قصب ولا خشب ولا له رأس وذَنب ، وهو يكتب على الدوام في صحائف قلوب الأنام أصناف العلوم والحقائق ، وكان له في كل قلب رأس ، ولا رأس له ، فقضى منه العجب ، فودّع عند هذا العلم وشكره ، وقال : لقد طال مقامي عندك ، إنّي عازم على السفر إلى حضرة القلم . فلمّا جاءه وقصّ عليه القصص وسأله : " ما بالك تخطّ على الدوام في القلوب من العلوم ما تبعث به الإرادات إلى أشخاص القدرة ، وصرفها إلى المقدورات ؟ " فقال : لقد نسيت ما رأيت في عالَم الملك ، وسمعته من جواب القلم عن سؤالك ؟ قال : لَم أنْس . فقال : جوابي مثل جوابه ، لتطابق عالَمي الملك والملكت ، إنّما سمعت : " إن الله خلَق آدم على صورته " ، فاسأل عن شأن الملقب بـ " يمين الملك " ، فإنّي مقهور في قبضته مسخَّر ، فلا فرق بين قلم الآدمي والقلم الإلهي في معنى التسخير ، إنّما الفرق في ظاهر الصورة والتصوير . قال : ومَنْ يمين الملك ؟ قال القلم : أما سمعت قوله تعالى : { وَٱلسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] . هو الذي يردّدها ، فاسأل اليمين عن شأنه وتحريكه للقلم . [ فسافَر السالك من عنده إلى اليمين ، حتى شاهده ورأى من عجائبه ما يزيد على عجائب القلم … فسأل اليمين عن شأنه وتحريكه للقلم ] فقال : جوابي ما سمعتَ من اليمين الذي في عالَم الشهادة ، وهو الحوالة على القدرة . فلمّا سار إلى عالَم القدرة ، فرأى فيه من العجائب ما استحقر عندها ما قبْل ذلك ، فسألها عن تحريك اليمين . فقالت : أنا صفة ، فاسأل " القادر " إذ العهدة على الموصوفات لا على الصفات . وعند هذا كاد أن يزيغ ويتنطق بالجرأة على السؤال ، فثُبَّت بالقول الثابت ، ونودي من سرادقات الحضرة : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] ؛ فغشيته الحضرة ، فخرّ صِعقاً ، فلما أفاق قال : سُبحانَكَ ما أعظمَ شأنكَ ، تبتُ إليك وتوكّلت عليكَ ، آمنتُ بأنّك الملك الجبّار الواحد القهّار ، فلا أخاف غيرك ولا أرجو سواك ، ولا أعوذ إلاّ بعفوك من عقابك ، وبرضاكَ من سخطك وبكَ منكَ ، فأقول : اشرحْ لي صدري لأَعرِفَك ، واحللْ عقدة الصمت من لساني لأُِثني عليك . فعند هذا رجع السالك ، واعتذر عن أسئلته ومعاتبته ، فقال لليمين والقلم والعلم والإرادة والقدرة وما بعدها : اقبلوا عذري ، فإنّي كنت غريباً في بلادكم ، ولكلّ داخل دهشة ، فما كان إنكاري عليكم إلاّ عن قصوري وجهلي ، والآن قد صح عندي عذركم ، وانكشف لي أنّ المتفرد بالملك والملكوت ، والعزّة والجبروت ، هو الواحد القهّار ، والكلّ تحت تسخيره ، وهو الأول والآخر ، والظاهر الباطن . فهذا هو الكلام في تفسير الإضلال . فصل قوله : { وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } قد مرّ الكلام في معنى الهداية ، وقد جاء الهُدى على وجوه : أحدها : الدلالة والبيان : قوله [ تعالى ] : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [ الإنسان : 3 ] . وتانيها : الدعوة إلى الحقّ . { وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] . أي : لتدعوا . { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] . أي : داع يدعوهم إلى ضلال أو هدى . وثالثها : التوفيق بالألطاف المشروعة للمؤمنين بسبب ايمانهم ، في مقابلة الإضلال بمعنى الخذلان للكافرين بكفرهم ، كما في قوله تعالى : { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [ محمد : 17 ] . وقوله : { وَيَزِيدُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱهْتَدَواْ هُدًى } [ مريم : 76 ] . { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [ البقرة : 285 ] . وقوله : { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّالِمِينَ } [ ابراهيم : 27 ] . ورابعها : الهدى إلى طريق الجنَّة . قوله : { يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ المائدة : 16 ] . وخامسها : التقديم . يقال : " هَدى فلانٌ [ فلاناً ] " إذا قدّمه أمامه . وهوادي الخيل : أعناقها ، لأنّها تتقدّمها . وسادسها : هَداه ، أي : سمّاه مهتدياً وحكم عليه . قوله : { إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } [ آل عمران : 73 ] . وقوله : { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي } [ الأعراف : 178 ] . أي : من حكم الله عليه بالهدى فهو المستحقّ بأن يسمى مهتدياً . فهذه هي الوجوه التي ذكرها المعتزلة ، وقد انكشف عليك حالها فيما تقدّم في باب الاضلال . وعند الجبرية للهداية وجهٌ آخر ، وهو كون الهدى بمعنى خلْق الهداية والعلم ، في مقابلة الإضلال ، بمعنى [ خلْق ] الضلالة والجهل ، كما أنّ الله هو المحيي والمميت ، بمعنى خالق الحياة والموت . قالت المعتزلة : إن هذا غير جائز لغةً ، إذ لا يقال لمَن حمل غيره على سلوك الطريق جبراً وكرهاً : " إنّه هداه إليه " ، وإنّما يقال : " ردّه إلى الطريق المستقيم " . وذكروا وجوهاً أخرى مكرّرة الايراد والاندفاع لا نطوّل الكلام بذكرها تفصيلاً . ويكفي للجميع جوابٌ واحد ، وهو أنّا نعلم يقيناً بالقواطع البرهانية ، أن خالق الأشياء كلها هو الله - إما بلا واسطة ، أو بواسطة - ، والتي تمسّكتم بها وجوهٌ لغويّة أو نقليّة قابلة للاحتمال ، والمحتمل لا يعارض القاطع ، فوجب المصير إلى ما يقضي به العقل المنير ؛ أو ما يسمع بالقلب السليم ممن عنده علم من الذكر الحكيم ، كما قال تعالى : { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] . قوله جلّ اسمه : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَاسِقِينَ } الْفِسق ، أصله الخروج ، من قولهم : " فَسَقَتْ الرطبة من قشْرتها " أي : خرجت ، فكأنّ الفاسق هو الخارج عن الطاعة ، وتسمى الفأرة " فُويسِقة " لخروجها لأجل المضرّة . وعند الخوارج أنّه كافر ، وعند المعتزلة أنّه لا مؤمن ولا كافر ، لأن الإيمان عندهم عبارة عن مجموع التصديق والإقرار والعمل ، والكفر تكذيب الحقّ وجحوده ، فجعلوه قسماً ثالثاً نازلاً بين منزلَتي المؤمن والكافر ، لمشاركته كلاًّ منهما في بعض الأحكام . واحتجّ المخالف بقوله تعالى : { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ } [ الحجرات : 11 ] . وقال : { حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ } [ الحجرات : 7 ] وصاحب الكشاف - لاعتزاله - فسّر الفاسقين بالخارجين عن حدّ الايمان ، معتضداً بقوله تعالى : { إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ التوبة : 67 ] . وتبَعه البيضاوي جرْياً على عادته في الاتباع . وهذه المسئلة طويلة مذكورة في الكلام . ومرتكب الكبيرة فاسقٌ خارج عن أمر الله بالاتفاق ، وله درجات : الأول : الذي لا يميّز بين الحقّ والباطل ، والجميل والقبيح ، ساذجاً عن العقائد الرديئة ، غير مستمرّ الشهوة ؛ وهو سريع القبول للعلاج ، قريب المبادرة إلى التوبة . الثاني : أن يكون قد عرف ذلك ، لكنّه يتعاطاه انقياداً لشهوته ، وإعراضاً عن صواب رأيه ، لاستيلاء الداعية الشهويّة عليه ، بل زيّن له سوء عمله ، لكن علم تقصيره فأمره أصعب ، ورجوعه أبعد . الثالث : أن يعتقد في قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق أنّها مستحنسةٌ ، وأن ما يعتقده ويفعله حقٌّ وجميلٌ ، وتعوّدَ ارتكابها والإنهماك فيها من غير مبالاة بها ، فهذا يكاد يمتنع اصلاحه ، ولن ترجى توبته إلا على الندور ، وذلك لتضاعف أسباب الضلال . والرابع : أن يكون مع إدامته على الفسوق ورسوخه في العصيان ، يرى الفضيلة فيما يفعله من كثرة الشر واستهلاك النفوس ، ويعتقد أن ذلك موافق للشريعة ، ويباهي به ، ويظن أن ذلك يرفع في قدره . وهذا أصعب المراتب وأشدّها غوراً وتعمّقاً في الباطل . فقيل للأول من هؤلاء : " ضَالٌّ " فقط . وللثاني : " ضَالٌّ وفاسِقٌ " . وللثالث : " ضَالٌّ وفَاسِقٌ وظَالِمٌ " . وللرابع : " ضَالٌّ وفاسقٌ وظالمٌ وشرّيرٌ " أي : شيطان مَريد . والثلاثة الأُول ممَّن لا يُسلب عنهم اسم الايمان ، لأتّصافهم بالتصديق الذي هو مسمّى الإيمان ، وربما جازت التسمية به للرابع عند طائفة تمسّكاً بظاهر قوله تعالى : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } [ الحجرات : 9 ] . وتخصيص الإضلال بالفسَّاق ، يدلّ على تعليقه بالوصف ، وترتُّبه على فسقهم وخروجهم عن دائرة أهل الايمان والصلاح ، فأدّى بهم العدول عن منهج الحق والصواب ، إلى الإصرار على الباطل والخطأ ، وصرفهم إلى الضلال البعيد والإضلال . وقرئ : " يُضَّلُّ " على البناء للمفعول ، و " الفاسِقُون " بالرفع .