Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 35-35)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أي ثمر النخيل ، اكتفاءٍ به لأنه علم أن الأعناب في حكم النخيل أو ثمر أحد المذكورين ، أو الجنات بالتأويل المذكور . والنكتة في إثبات هذه الغاية فيما نحن بصدده ، من تطبيق هذه الآية على أحوال الأرواح الإنسية بحسب المعاد ، هي أنه كما أن الغرض الأصلي من غرس الأشجار وتحصيل الثمار ، هو التقوّتُ بها ، والترقي إلى غاية النشوء الصوري والأشدّ الظاهري ، وكذلك الغرض من تحصيل المعارف والصور العلمية الحاصلة بماء الإفاضة الفاعلية ، وعين الإستفاضة القابلية ، هو تكميل النشأة الثانية الإنسانية ، وبلوغها إلى غاية فطرتها الروحية وأشد حقيقتها المعنوية . وقريء " ثمره " بفتحتين وضمتين ، وضمة وسكون . وفي الكشّاف : " الضمير لله تعالى ، والمعنى : ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر ، ومما عملته أيديهم من الغرس والسقي والآبار وغير ذلك من الأعمال ، إلى أن بلغ الثمر منتهاه وابّان أكله ، يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه ، وفيه آثار من كد بني آدم " . وفيه أيضاً : " أصله : " من ثمرنا ، كما قال : " وجعلنا ، وفجّرنا " فنقل الكلام من التكلّم إلى الغيبة على طريقة الإلتفات " . { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } : وقريء : " ما عملت " من غير راجع ، وهي في مصاحف الكوفيين ، وعند قراء الحَرَمَينَ والبصرة والشام مع الضمير ، و " ما " فيها موصولة عطف على " ثَمرِهِ " أي : والذي عمِلَته أيديهم ، من أنواع الأشياء المتخذة من النخيل والعنب الكثيرة منافعها ، وقيل : يعني الغروس والزروع التي عملتها أيديهم ، وقاسوا حراثتها . ولك أن تجعل " ما " فيها نافية ، يعني : هذه الثمار مع صورها ومنافعها وخصائصها ، ليست ما عملته أيدي الناس ، بل هي فائضة من عالم قدرة الله بواسطة ملائكته المسخَّرين لإنشاء الصور النوعية ، يقال لها : " أرباب الأصنام " في لسان الإشراق ، وتسمى عندهم بأسامي " كخُرداد " و " مُرداد " و " أردي بِهِشْت " وأمثال هذه ، ولها في لسان الشريعة أسامي : " كملك المياه " و " ملك الجبال " و " ملك الرياح " ونظائرها . وفيه أيضاً إشارة إلى مسألة المعاد ، وردّ شبهة أهل الجحود والعناد ، حيث إن وجود الصور الأخروية ، إنما كان بإنشاء الله بيد سدنة الجنان ، وملائكة الرحمة والرضوان ، وكما أن أعمال يد الإنسان في غرس الأشجار وبث البذور للثمار ، مِمَّا لا دَخْلَ لها في إيجاد الصور النباتية ، بل إنما كانت نوعاً من الحركة والرياضة ممّا لَهُ مدخلية في استجلاب رحمة الله ، التي يكفي فيها أدنى مرجِّح يخرج به من محض الإمكان للشيء المتساوي طرفا وجودِه وعدمه . فكذلك التفكّرات الإنسانية ، والنّيات والعقائد الحاصلة من القوة المفكّرة ، التي هي بمنزلة يد معنوية للنفس الفاكِرة ، مما لا دخل لها في توليد النتائج والصور الكسبية ، ولا تحصل هي بتعمّل أيدي القوة الناطقة ، بل إنما تفيض الصور من واهبها بإذن الله ، والأفكار وتعمّلاتها معدات للنتائج لا محصّلات ، وهذه الصور المحصّلة العقلية ( العلمية ) والعقائد الحقة ، ستصير عند البعث والنشور صُوَراً وأشخاصاً عينيّة ، على شكل وهيآت حسيّة نورانية جنانية ، يتَنعَّم بها السعداء ، أو قبيحة مؤلمة مؤذية جحيمية ، يتعذب بها الأشقياء ، وهي أيضاً مما خلقها الله تعالى وأنشأها وأبدعها بجهات فاعلية ، من ملائكة الرحمة أو العذاب ، بيد سدنة الجنان ، أو النيران ، من غير تعمّل بشري وتصرّف حيواني . فانظر كيف روعي في الكتاب العزيز هذه المناسبات ، بين عالَمَي الغيب والشهادة ، والدنيا والآخرة ، ثم كرِّر النظر وأعِدِ التفكُّر أيها العارف المستبصر في فوائد هذه الآية ، ولطائف نكاتها ، ودقائق أسرارها ، لتظهر لك حكمة بعد حكمة ونور بعد نور . فتأمل كيف شبّه الهيولانية الساذجة من العلوم ، الميتة بموت الجهل البسيط ، المستعدة للحياة العقلية ، الباقية في تلك الدار ، القابلة لأنوار العلوم وثمار الأسرار ، التي هي بمنزلة صور الجنان وخيرات حسان ، لم يطمثْهُنَّ إنسٌ قبلَهم ولا جانٌ ، ولا يمسَهُنَّ إلاّ المطهَّرون ، من أدناس عالم المواد والأركان ، بالأرض اليابسة الميتة ، لغلبة الجمود والبرد واليبس ، التي هي كالنفوس الجامدة الباردة الفظّة الغليظة الساكنة من الفكر ، وشبَّه إحياءها بإفاضة مياه العلوم بإحياء الأرض بنزول الأمطار ، لأن من الماء كل شيء حي . فالماء مطلقاً يوجب الحياة مطلقاً ، وكل نوع منه يوجب نوعاً مناسباً له من الحياة ، فالماء الجسماني يوجب الحياة الجسمانية ، والماء الروحاني أي العلم يوجب الحياة العلمية الأخروية . واعلم أن " الماء " مادة الحياة ، وأما صورتها فهو " النار " على مراتبها ، و " النور " من جملة مراتبها ، ففي الحياة الأرضية النباتية ، كما لا بد من ماء سماوي كالأمطار ، وماء أرضي كالعيون والأنهار ، كذا لا بد فيها من نار سماوية كأَشِعة الشمس وغيرها ، ونار أرضية هي إحدى العناصر الأربعة ، المجتمعة بالإزدواج لحصول المزاج . وهكذا في الحياة الأخروية على طبقاتها ودرجاتها ، كما لا بد من مياه العلوم الفائضة من العالم الأعلى ، ومياه العلوم الكامنة في النفس المتبوعة فيها بالمذاكرة والمراجعة ، والكد والتعب ، فكذلك لا بد من نار علوية عقلية ، هي شعاع العقل الفعّال ، ونار سفلية نفسية هي اشتعال النفس الزكية ، وقوة حدسها المتفاوتة في أفراد الناس ، البالغة في بعضهم إلى غاية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار العقل الفعّال ، الذي هو نور ، إذا اتصل به العقل المستفاد كان نوراً على نور . ثم تأمل كيف أشار سبحانه إلى إخراج العلوم الجزئية والمعارف الجمهورية ، التي بها يتعيّش جمهور الناس ويحيا أوساطهم ، من القلوب بالكد والتعب والتكرار ، بإخراج العيون من بطون الجبال والأحجار اليابسة ، ونبوع الماء الزلال من التربة الكدرة ، فعلم بذلك أن من القلوب كحجارة يتفجر منه الأنهار ، أي أنهار العلوم والمعارف ، كما أشار إليه بقوله تعالى : { وَإِنَّ مِنَ ٱلْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ ٱلأَنْهَارُ } [ البقرة : 74 ] . وعُلِم أيضاً ، أن منها كحجارة أو أرض يتشقق فيخرج منه الماء ، وهو قلب يظهر عليه في بعض الأوقات عند انخراق حجب البشرية ، فيظهر منه بعض لطائف المعاني وأنوار العلوم . ويُعلَم أيضاً بالمقايسة ، أن منها ما هو كالحجارة القاسية ، التي لا يتفجر منها أنهار العلوم ، ولا يؤثر فيها شيء من الآيات والأخبار ، ولا يرققها بالتليين نكتة من الحكم والمواعظ وفي قلوب أكثر أهل الدنيا وعامة الخلق ، ومنها ما هو أشد قسوة وأصلب ، وهي القلوب التي في الكدورة والصلابة كالحديد البارد ، لا يؤثر فيها شيء من النصيحة والتعليم للتليين ، ولا الزجر ولا الضرب للإنقياد والطاعة ، إلاّ القتل والعذاب بنار الجحيم ، وهكذا الحديد يستعصي على قبول الطرق وطاعة الحداد ، فيستحق بذلك دخول النار وتليينها بإذن الله ، فعند ذلك يقبل كل طارق يطرق منه ، وها هنا أسرار أُخَر لا يمكن التصريح بها . ثم تأمل وتدبَّر كيف ضرب الله مثلاً لروح الإنسان وقلبه ، بجنّات جعل فيها من كل الثمرات من نخيل العلوم وأعناب المعارف ، لكونه مخلوقاً في أحسن تقويم ، مستعداً لجميع الكمالات والكرامات ، قابلاً لجميع الفضائل وجملة الشمائل المحسنات ، مكرماً بعلم جميع الأسماء والصفات ، منوراً بأنوار التجليات ، الحاصلة له في مظاهرها العقلية والخيالية والحسَّية ، من عالم الصورة والمعنى والشهادة والغيب ، كما في قوله تعالى : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } [ البقرة : 266 ] . وفي القرآن آيات كثيرة ، دالة على تمثيل ما يصل إليه الإنسان من ثمرات عقائد الإيمان ، ونتائج اكتساب العلم والعرفان في الآخرة عند رفع الحجاب بالجنات والأنهار ، والأشجار والحُور العِين والصُوَر الحسان ، وغيرها من الأمثال التي لا يعلمها أحد من الخلق ، إلاّ الراسخون في العلم ، كما قال : { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ } [ العنكبوت : 43 ] . وقوله : { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } [ 35 ] : إشارة إلى الحث والترغيب إلى معرفة هذه الأمثال والنعماء الإلهية ، ووجه ذلك ، أن الشكر من جملة مقامات الدِّين ، وأجزاء الإيمان واليقين ، فإن الإيمان ليس كما ظُنَّ باباً واحداً ، بل هو نَيِّفٌ وسبعون باباً ، أعلاها شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، كما أن الإنسان ليس موجوداً واحداً ، بل هو نَيّف وسبعون موجوداً ، أعلاها القلب والروح ، وأدناها إماطة الأذى عن البشرة ، ككون الإنسان مقصوص الشارب ، مقلوم الأظفار ، نقي البشرة عن الخَبَثْ ، حتى يتميز عن البهائم المرسَلَة ، المتلوثة بأرواثها ، المستكرهة الصور بطول مخالفها وأظلافها . وهذا مثال مطابق للإيمان ، ذكره بعض العارفين لأن الإيمان بالحقيقة محصل حقيقة إنسان ، بل هو عند الكاملين في الحكمة ، والراسخين في المعرفة عين الإنسان الحقيقي ، ففي التطبيق يقال : الإيمان كالإنسان الحسي ، وفَقْدُ شهادة التوحيد منه يوجب بطلانه بالكلية ، كما يوجب فقد الروح بطلان الإنسان الحقيقي بالكلية ، والذي ليس له إلاّ شهادة التوحيد وشهادة الرسالة ، هو كإنسان مقطوع الأطراف ، فاقد العينين ، فاقد الحواس ، ليس فيه إلاّ أصل الروح بالقوة . وكما أن مَن هذا حاله قريب من أن يموت ، فتزايله الروح الضعيفة الناقصة ، فكذلك حال مَنْ اكتفى بأصل الإيمان من غير تحصيل الأعمال المورثة للأخلاق والمَلَكات ، من الصبر والشكر ، والتوكل ، والرضاء بالقضاء وغيرها من المقامات ، فهو قريب من أن تنقلع شجرة إيمانه بقواصف الرياح عند زلزلة الساعة ، أي القيامة الصغرى ، التي تخصّه ، في مقدمة قدوم ملك الموت ومشاهدة أهوالها وحالاتها ، وعند القبر والبعث في القيامة الكبرى التي تعمّه . فكل إيمان لا يثبت في اليقين القلبي أصله ، ولم تنتشر في الأعمال فروعه ، لم يثبت عند تصادم الأهوال وتزلزل الأحوال دوامه ، وعند ظهور ناصية ملك الموت ، وطلوع صباح القيامة من مغربها قيامه ، وخيف عليه سوء الخاتمة - نعوذ بالله - إلاّ ما سُقي بماء الطاعات ، والتأملات القدسية على توالي الأيام والساعات ، والتعرض دائماً لنفحات ألطاف الله ، حتى رسخ وثبت أصلها في أرض القلب ، وفرعها في سماء الأحوال والمقامات والدرجات ، كما أشار إليه بقوله : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي ٱلسَّمَآءِ } [ إبراهيم : 24 ] وقوله : { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ } [ إبراهيم : 27 ] . إذا تقرر هذا ، فالشكر كسائر المقامات ، ينتظم من ثلاثة أمور : عِلْم وحالٌ وعَمَل ، وهكذا جميع المقامات ، لأنها منتظمة من علوم وأحوال وأعمال ، وهذه الثلاثة إذا قيست بعضها إلى بعض ، لاح للظاهرين من الناظرين ، أن العلوم تُراد لأجل الأحوال ، والأحوال تُراد للأعمال ، فالعمل هو الأفضل عندهم ، وهو الغاية لديهم . وأما عند أرباب البصائر ، فالأمر بالعكس من ذلك ، فالأعمال تُراد للأحوال ، والأحوال للعلوم ، فالأفضل هي العلوم ، ثم الأحوال ، ثم الأعمال ، لأن الأعمال غايتها الأحوال ، وهي ترجع إلى تصفية القلب عن العوائق ، وتصقيل وجهه عن الكدورات والحُجُب . ثم نفس التصفية والتصقيل ليست كمالاً وغاية مطلوبة ، لأنها أمر عدمي ، بل تُراد لأجل أن يتمثل فيها صورة الحق - وهي العلوم الحقيقية - . وأمّا آحاد هذه الثلاثة : فالأعمال قد تتساوى وقد تتفاوت ، إذا أضيف بعضها إلى بعض ، وكذا آحاد الأحوال ، وكذا آحاد المعارف . وأفضل المعارف علوم المكاشفة ، أي علوم التوحيد من أحوال المبدء والمعاد ، وأحوال الملائكة والرسل والكُتُب ، وأهل الإنتماء إلى الوحي ( صلوات الله عليهم أجمعين ) . وإذا ثبت أن الشكر كباقي مقامات السالكين ، ينتظم من علم وحال وعمل ، وأن العلم هو الأصل المقصود من الأعمال والأحوال ، فلأجله يكون الحال ، ولأجل الحال تكون الأعمال ، وكما أنه المقصود الأصلي والغاية القصوى ، فكذا هو المُورّث المنتج لما سواه ، فهو الأول والآخر ، والمبدء والغاية ، فهو يورث الحال ، والحال يورث العمل ، فقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون } [ البقرة : 52 ] معناه الأصلي عند العارف العالم بأسلوب الدين ، والفاهم للسان القرآن المبين : لعلكم تعلمون علماً ناشئاً من حال ناشٍ من عمل مشروط بعلم مقدّم . إذ لا بد أولاً في الشكر ، من معرفة النعمة وأنها من المُنعِم ، ثم الحال ثانياً ، وهو الفرح الحاصل بإنعامه ، ثم العمل ثالثاً ، وهو القيام بما هو مقصود المُنْعِم ومحبوبه ، ويتعلق ذلك العمل بالقلب ، وبالجوارح وباللسان ، ولا بد للإحاطة بحقيقة الشكر ، من بيان هذه الأمور الثلاثة على وجه الإجمال ، لأن التفصيل فيها غير لائق بهذا المقام . أما بيان العلم الذي هو الأصل ، فهو أنه علم متعلق بثلاثة أمور : بعين النعمة ، وَوَجه كونها نعمةً في حقّه ، وبذات المنعم ، ووجود صفاته التي بها يَتُم الإنعام ويصدر منه على من سواه ، فإنه لا بد من نعمة ومنعِم ومنعَم عليه ، تصل إليه النعمة من المنعِم بقصدٍ وإرادة ، فهذه الأمور لا بد من معرفتها في حق غير الله . وأما في حق الله ، فلا يتم إلاّ بأن يعرف أن النعم كلها منه وهو المنعِم ، والوسائط مسخّرون مِن جهته ، فيحتاج في مقام الشكر إلى العلم بتوحيد الأفعال ، بعد معرفتها على التفصيل والترتيب من العقول وترتيبها ، والنفوس الكلية وأغراضها ومراتبها ، والأجرام الفَلَكية وأشواقها وحركاتها ، ثم الوسائط العنصرية بسائطها ومركباتها . وهذه المعرفة وراء التوحيد والتقديس ، إذْ دَخَلَ التوحيد والتقديس فيها ، لأن المرتبة الأولى في معارف الإيمان التقديس ، ثم إذا عرف ذاتاً مقدَّسةً فيعرف أنه لا مقدَّس إلاّ واحد ، وما عداه غيرُ مقدَّس وهو التوحيد ، ثم يعلم أن كل ما عداه في العالم فهو موجود من ذلك الواحد فقط ، فالكل نعمة منه ، فتقع هذه المرتبة في الرتبة الثالثة ، إذ ينطوي فيها مع التقديس والتوحيد ، كمال القدرة المقتضي لأن لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله ، فتمام المعرفة في الشكر ينفي الشرك في الأفعال . مثاله : أن من أنعم عليه ملِكٌ من الملوك بشيء ، فإن رأى المنعَمُ عليه لوزيره أو سَاعِيه دخلاً في إيصاله إليه ، فهو إشراكٌ به في النعمة ، فلا يرى النعمة منه مطلقاً ، بل بوجه منه ، وبوجه آخر من غيره ، فيتوزَّعُ شكر فَرَحه وحاله عليهما ، فلا يكون موحداً في حق الملك ، نعم لا ينقص عن توحيده في حقّه وكمال شكره نعمته ، أن يرى أنها وصلت بتوقيعه بالقلم على الورق ، ولا يشكرهما لعلمه بأنهما مسخّران تحت قدرته ، وكذا لو علم أن الوزير والساعي الموصل والخازن أيضاً ، مضطرون من جهة الملك في الإيصال ، لأنه إذا عرف ذلك ، كان نظره إليهم كنظره إلى القلم والورق ، فلا يورث ذلك شركاً في توحيده في إضافة النعمة إليه ، فكذلك من عَرَفَ الله وعَرَفَ أفعاله ، علم أن الشمس والقمر والنجوم مسخَّراتٌ بأمره ، وكذا العقل والنفس - اللذان هما فوق هذه الأمور - مسخران بيد قدرته ، كالقلم والقرطاس في يد الكاتب ، وكذا الحيوانات لها اختيارات ، في نفس اختيارها مسخّرات له ، فإذا عرفتَ الأمور هكذا ، فقد عرفت الله وعرفتَ فعله ونعمته عليك ، وكنت مُوحِّداً وقدرت على شكره ، بل كنت بهذه المعرفة بمجردها شاكراً لله . ومما يدل على أن أصل العلم بهذا الوجه شكر تام لله ، ما ذُكِر أنه قال موسى ( عليه السلام ) في مناجاته : " إلهي ، خلقت آدم بيدك ، وفعلت كذا وكذا ، فكيف شَكَرَك ؟ " فقال الله تعالى : " من علم أن ذلك منّي فكانت معرفته شكراً " . فإذن ، لا شكرَ إلاّ بأن تعرف أن الكل منه ، فإن خالجك رَيْب في هذا لم تكن عارفاً إلاّ بالنعمة لا بالمنعم ، فلا تفرح بالمنعم وحده بل بغيره ، فبقدر نقصان معرفتك ينقص حالك في الفرح ، وبنقصان فَرَحك ينقص عملُك ، فهذا بيان هذا الأصل . وأما بيان الأمر الثاني : فهو الحال المستمدة من أصل المعرفة ، وهو الفرح بالنعم مع هيئة الخضوع والتواضع ، وهذا أيضاً في نفسه مرتبة من الشكر ، لأنه فعل مُنبيءٌ عن تعظيم المنعم ، ولكن إنما يكون شكراً ، إذا كان حاوياً شرطه ، وشرطه أن يكون فرحك بالمنعم لا بالنعمة وَلاَ بالإنعام ، وهذا أيضاً أمر عظيم ، وإمارته أن لا يفرح من الدنيا إلاّ بما هو مزرعة للآخرة ، ويُعينُ على طاعة الله وطلب التقرب إليه ، ويحزن بكل نعمة تلهيه عن ذكر الله ، وتصدُّه عن سبيله . ولهذا قال الشبلي : " الشكر رؤية المنعم لا رؤية النِعَم " ، وقال الخواص : " شكر العامة على المطعم والملبس والمشرب ، وشكر الخاصة على واردات القلوب " . وهذه رتبة لا يدركها كل من انحصرت عنده اللذات في لذة البطن والفرج ، ومدركات الحواس من الألوان والطعوم والروائح ، وخلا عن لذة القلب ، لأن القلب لا يلتذ في حال الصحة والسلامة إلاّ بذكر الله ومعرفته ولقائه ، وإنما يلتذ بغيره إذا مرض بسوء العادات والإنحراف عن الصراط المستقيم ، كمن يلتذ بأكل الطين ، لإنحراف مزاجه عن نهج الإستقامة ، وكمن يستبشع الحلاوات ويستحلي المرارات ، لمرض عرض له ، فهذا بيان الأمر الثاني . وأما الأمر الثالث ، فهو العمل بموجب العلم والحال على وجه يؤدي إلى الكمال من العلم ، فالعلم هو الأول وهو الآخر ، لأن هذه الأمور الثلاثة متعاكسة في الوجود الحدوثي والبقائي ، أي الإبتدائي والرجوعي ، وذلك لأن العلم بالنعمة والأنعام وكونهما من المنعم ، لو لم يكن أصلاً ، لم يترتب عليه الفرح بالنعمة من حيث كونها من المنِعم ، وإذا لم يحصل الإنتعاش والفرح لم ينبعث منه العمل . فإذا علمت هذا في الإبتداء ، فاعلم عكسه في الرجوع ، فأن فائدة العمل إصلاح القلب وصفاؤه عن المشوِّشات ، واستقامته عن الإنحراف عن جادة الحق والصراط المستقيم ، وتوسّطه بين الأطراف الموجبة لِهَواهَا في أسفل درك الجحيم ، وفائدة إصلاح القلب ، أن ينكشف له جلال الله في ذاته وصفاته وأفعاله . فعُلِم من ذلك ، أن ضرباً من العلوم بمنزلة عبيد وخدم ، يُرَاد لأجل الأعمال والأحوال ، وهي العلوم العملية المتعلقة بكيفية الأعمال البدنية والقلبية ، وضرباً منه بمنزلة الملوك والسلاطين ، وهي المستخدمة منه لغيرها ، فأرْفَعُ العلوم " علوم المكاشفة " ، وهي معرفة الله سبحانه والإيمان به وبصفاته وأفعاله ، وهي الغاية القصوى التي تُطلب لذاتها وتُنال بها السعادة العظمى ، بل هي عين السعادة ، ولكن قد لا يشعر القلب في الدنيا بأنها عين السعادة ، وإنما يَشْعُرُ بِهَا في الآخرة ، فهي المعرفة الحُرَّة التي لا قيد لها ولا يتقيّد بغيرها . وهي مخدومة الجميع ، وغيرها عبيد وخدم لها ، فإنها إنما تُرَادُ لأِجلها ، وكان تفاوتها بحسب نفعها بالإضافة إلى معرفة الله ، فإن بعض المسائل والمعارف يُفْضي إلى بعض ، إما بواسطة أو وسائط ، حتى ينتهي إلى العلم الإلهي ، فكلما كانت الوسائط بينه وبين معرفة الله أقل ، كان أفضل . وأما الأحوال ، فيُعنىٰ بها أحوال القلب ، من تصفيته وتطهيره عن شوائب الدنيا وشواغل القلب ، حتى إذا اطَّهر وصَفا ، اتضحت له حقيقة الحق ، فإذن فضائل الأحوال ، بقدر تأثيرها في إصلاح القلب وتصفية لوحه ، لأن يحصل له المعارف الإلهية ، وهكذا تترتب الأعمال في تأكيد صفاء القلب وجلب الأحوال ودفع الحجب والظلمات المانعة عن المكاشفات عنه . فكما أن الحالة القريبة أو المقرّبة من صفاء القلب أفضل مما دونها لا محالة ، فكذا الأعمال بحسب مراتبها في التأثير في صفاء القلب ، والدفع لما يجذبه إلى زخارف الدنيا ، والطاعة والمعصية عند المحققين بالعقائد الشرعية والقواعد الدينية ، اسمان موضوعان لباعث صفاء القلب ، وباعث كدورته وظلمته على درجاتها ، إذ المعاصي من حيث التأثير في ظلمة القلب وقساوته ، تكون كبيرةً وصغيرةً متفاوتةً جداً ، وكذا الطاعات في تنوير القلب وتصفيته وترقيقه ، فدرجاتها بحسب تأثيراتها ، وذلك يختلف باختلاف الأحوال . فإن قلت : فقد حثّ الشرع على الأعمال وبالَغَ في ذِكْر فضلها . قلنا : إن الطبيب إذا أثنى على الدواء لم يلزم منه أن الدواء مراد لعينه ، ولا على أنه أفضل من الصحة والشفاء الحاصلين به ، ولكن الأعمال علاج لمرض القلوب ، ومرض القلب مما لا يُشْعَرُ به غالباً ، فالحثّ على الأعمال يوجب إقدام العباد عليها ، ولكل عمل خاصية في القلب ، فيترتب على فعل الحسنات وترك المحظورات ، ما هو مقصود الشريعة من تصفية الباطن ، الموجبة لسياق الخلق إلى جوار الله ومعرفته وقُربه . فهذه خلاصة ما ذكره بعض علماء الآخرة وحجج الإسلام ، نقلناها ليتحقق معنى الشكر ، ليتضح عند التدبر ، أن العمدة في باب الشكر هو معرفة نِعَمِ الله تعالى ، وكيفية صدور أفعاله سبحانه ، على وجه يتقدَّس ويتعالى عن التكثير والتجسيم في البداية ، وعن التعليل والتشريك في الغرض والنهاية ، ويندرج فيه تقديس الذات عن شوائب الإمكان ، وتوحيده عن مثالب التركيب والنقصان . ولهذا أشار سبحانه بعد الحثّ على الشكر ، إلى ما يتوقف عليه ، بل يتحقّق به ، من العلم بأن أسباب النِعَم كلها منه ، وكيفية صدور الأفعال عنه ، على وجه لا يوجب كثرةً وإمكاناً ، ولا يقدحُ في وَحْدانية ذاته ، ولا تقدّس صفاته بقوله : { سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } [ يس : 36 ] :