Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 49-49)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قرء ابن كثير وورش ومحمد بن حبيب عن الأعشى ، وروح وزيد عن يعقوب " يخصمّون " بادغام التاء في الصاد مع فتح الخاء ، وقرء أبو عمرو بفتح الخاء أيضاً إلاّ أنه يشمه الفتح ولا يشبعه ، وقرء أهل المدينة غير ورش " يخْصمون " ساكنة الخاء مشددة الصاد ، وقرء حمزة " يخصمون " ساكنة الخاء من خصمه ، وقريء " يخصمون " مكسورة الصاد " وَيَخِصِمون " اتباع الياء الخاء في الكسر . كَشفٌ إلهامي قد أشرنا في الآية السابقة أن سرّ القيامة من الأسرار العظيمة التي لا يمكن كشفها للمحبوسين في حبس هذا الزمان والمكان ، والمسجونين بسجن هذا العالم مع هذه الأقران ، ولم يجز للأنبياء ( عليهم السلام ) كشفها للناس ما داموا في قبور هذه الحواس { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ * إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } [ النازعات : 42 - 45 ] ، يعني لا رخصة لهم في كشف حقيقتها ، بل لهم أن ينذروا بأهوالها وشدائدها وبعض حالاتها وأشراطها ومقدماتها . ولهذا ذكر الله تعالى ها هنا شيئاً من أشراطها ومقدماتها ، ونبّه على أنهم - أي المحجوبين بقيود هذه النشأة الفانية - ما يمكنهم أن ينظروا من حالاتها إلاّ صيحة واحدة - أي نفخة واحدة - وهي النفخة الأولى التي تأتيهم بغتة وتفنيهم كلهم وهم يخصّمون ، يشتغلون بخصوماتهم في شهواتهم ومجادلاتهم في معاملاتهم ومتاجرهم ، يتبايعون في الأسواق ويتنافسون بالأموال والأقوال ، ويتفاخرون بالأنساب والألقاب ، وسائر ما يتشاجرون فيه ويتخاصمون به . وبالجملة ، تبغتهم وهم في أمنهم وغفلتهم كما ورد في الحديث : " تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه ، فما يطويانه حتى تقوم ، والرجل يرفع أكلته إلى فيه ، فما تصل إلى فيه حتى تقوم ، والرجل يليط حوضه ليسقي ماشيته فما يسقيها حتى تقوم " . وقيل : وهم يختصمون هل ينزل بهم العذاب أم لا ؟ . ومعنى يَخِصِّمون : يخصم بعضهم بعضاً . وقيل : تأخذهم وهم عند أنفسهم يَخِصِّمُون في الحجة في أنهم لا يبعثون . رَمْزٌ عَرْشي " الصَّيحة " : ضَربٌ من النفخة ، وهي النفخة التي يصحبها شدة وهلاك وعذاب ، واللفظ كما مرّ مستعار لتأثير الفاعل الحق في إنشاء الصور ، وإفادة الأرواح ، إما في هذا العالم بوساطة ملك روحاني أو روح بشري ، أو في عالم الآخرة تشبيهاً له بالنفخ في مادة النار - كالفحم وما أشبهه - الموجب تارة لاشتعال النار الكامنة ، أو حصولها في الفحم بسبب مجاورته لنار أخرى ، وتارة لخمودها . وذلك أن النفوس الحيوانية الإنسانية بمنزلة نيران أو أنوار ملكوتية حاصلة في مواد الأبدان ، ولطائف أعضائه الدخانية والبخارية ، المجاورة بسبب صفائها ولطافتها لنار عالم الملكوت ، حادثة فيها عند حصول الاستعداد التام والتسوية بالنفخ الإلهي ، كما في قوله تعالى : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي } [ الحجر : 29 ] أو بواسطة عبده المقرب كما في قوله تعالى : { فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [ آل عمران : 49 ] . وكما أن المادة الدخانية المجاورة للنار الحسية ، إنما تصير ناراً مشتعلة بواسطة نفخات متعددة ، بعضها يحصل لها أصل الحرارة والكون ، وبعضها شدة التسخين والنارية ، وبعضها التنوير والإضاءة ، فكذلك خلق الله في مادة الإنسان صوراً ثلاثاً بالنفخات الثلاث . فبالنفخة الأولى تتولد قوة النماء والتغذّي ، وبالثانية تتولد قوة الحس والحركة ، وبالثالثة تتولد قوة النطق وإدراك المعقول . ففي الأولى كان الإنسان بمنزلة النائم ، وفي الثانية بمنزلة ( حيران ) ذي هيمان ، كمن تنبّه من نوم شديد ، وفي الثالثة ينبعث من نوم الغفلة ويستيقظ من رقدة الجهالة قائماً منتصباً لطلب العلوم ومعرفة الأحوال ، والتفطّن بحال من أوجده وبعثه من نومه الجمادي ، وسنته النباتية ، وحيرته الحيوانية ، شاكراً لنعمته تعالى ، عارفاً بحقه ، طالباً لخدمته ، سالكاً سبيل قربه وجواره ، منخرطاً في سلك عباده الصالحين . وإنما يستكمل بعد الإنتباه بكمال بعد كمال ، من ساعده التقدير ووافقه التدبير بإضافات ونفخات أخرى رحمانية ، وإلهامات وإعلامات تترى سبحانية ، يرتقي بكل منها من عالم إلى عالم ، ومن نشأة إلى نشأة أخرى ، حتى بلغ الغاية القصوى ، ويرجع إلى ربه الأعلى ، بعد استنارته بنوره القدسي ، رجوع النار الكامن في الحطب بعد حصولها بالنفخات ، واشتعالها إلى نار عظيمة هي فوق هذا العالم الأدنى . فالعالم بمنزلة شجرة ثمرتها " الإنسان " ، والإنسان كشجرة ثمرتها " العقل النظري " ، وهو " كلمة طيبة " أصلها ثابت وفرعها في السماء ، وهو أيضا كشجرة ثمرتها " العقل الفعّال " و " الروح القدسي " ، الذي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، وهذا الروح القدسي كشجرة ثمرتها " لقاء الله الواحد القهار " يهدي الله لنوره من يشاء من عباده ، فارتقى نور العبد إلى نور الرب بعد أن هبط منه وحصل بنفخه في مكامن الكون . فإذا علمت هذا فاعلم ، أن وحدة النفخ وكثرته ، باعتبار وحدة المتعلق به وكثرته ، ولما كان لمجموع النفوس والأرواح - بل لجميع العالم - وحدة بها يكون الجميع أمراً واحداً - كما ثبت في مقامه - فتكون النفخات المتعلقة بها نفخة واحدة . وأيضاً قد ثبت وتحقق وانكشف وتنور ، أن التعاقب والتجدد والتكثر والتعدد الواقعين في هذا العالم بحسب الحضور والغيبة في المكانيات ، والمضي والحالية في الزمانيات ، إنما يكونان بالقياس إلى الموجودات الواقعة في هذا العالم ، لتقيد ( ليعتد ) وجود كل منها بمادة مخصوصة ، وانحصاره في زمان معين ، وأما بالقياس إلى العوالي والشواهق العقلية والنفسية ، وما هو فوق الإمكان ووراء الحدوث ، فالمتغيّرات الزمانية كلها كآن واحد ، والمختلفات المكانية كلها كنقطة واحدة ، فعلى هذا كون النفخات الكثيرة حسب كثرة المواد والأزمنة ، نفخة واحدة بالقياس إليه لا يحتاج إلى مؤنة بيان وبرهان ، وللاشعار بأن جميع الممكنات حاصلة من فيض واحد من جانب الحق ، ونفخة واحدة وكلمة جامعة هي كلمة " كن " ، وعبر عن انبساط الفيض النوري الوجودي عنه تعالى على هياكل الممكنات بـ " النفس الرحماني " المشتمل على الحروف الوجودية ، والكلمات الكونية ، الطالع من أفق شمس الحقيقة في صباح نور الأزل ، المنتشر ضوئه في أهوية الهويات الممكنة ، وسطوح قوابل الماهيات الاستعدادية ، المنقسم باعتبار كل موطن من مواطن القرب والبعد ، ومنزل من منازل العلو والسفل ، إلى الجواهر العقلية والنفسية والطبيعية ، والأعراض الكمية والكيفية والنسبية . ثم اعلم بعد ذلك ، أن من الجائز أن يكون نفخة واحدة إحياء لقوم وإهلاكاً لآخرين - إما بحسب الإختلاف في نحو الصدور من النافخ رحمة وغضباً ، كاختلاف نفخة من الإنسان توجب حصول النارية ، وأخرى منه توجب إخمادها - كما مرت إليه الإشارة في قوله تعالى : { فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } [ يس : 29 ] . وإما بحسب اختلاف القوابل مع وحدة النفخ ، بأن تكون نفخة واحدة رحمة على قرية وغضباً على أخرى ، وحياة لقوم وممات للآخرين ، أو يكون راحة لأحد ، في وقت وكراهة ومشقة له في وقت آخر ، أو يكون مكروهاً لطائفة في أعينهم وهو خير لهم ، أو محبوباً عندهم وهو في الواقع شر لهم ، كما في قوله تعالى : { وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ } [ البقرة : 216 ] الآية . ألا ترى كيف أخرج الله الجنين من مضيق بطن أمه إلى فضاء العالم وهو مكروه له ، مع كونه عين الرحمة له ، حيث غفر ذنوبه الطبيعية التي اقترفها ، وسيئآته المادية التي اجترحها ، منذ كونه نطفة وعلقة - من تلطخه بالأنجاس وتغذيه بدم الحيض وهو أنجس المحرّمات ، وإخلاده إلى أرض الرحم بصحبة الظلمات - فطهره عن تلوث الأنجاس والاخباث ، وعوض له عن دم الحيض بلبن سائغ شرابه من منبع نهر كالسلسبيل ليتغذى به بدنه . وتتقوى قواه الجسمانية فيستريح في سعة العالم ، ويتعيّش في فضاء الأرض من حين تبدلت هذه الأرض عن أرض الرحم ، ويتبوء منها حيث يشاء ، فخرج من ذنوبه السابقة كيوم ولدته أمه . وكذلك إذا بلغ درجة العلم والتميز ، وخرج من نوم الجهالة ، غفر الله له ما تقدم من ذنوب الجهل والنقصان . وسيئات العمى والحرمان ، وطهّره عن دَنَس الغباوة والضلالة ، وعوّض له من الأغذية الجسمانية منذ أخذت في النقصان والقصور بالأغذية النفسانية التي هي ألوان المعارف والتصورات والأغراض الإنسانية . ومن ها هنا ينبغي أن يعلم ويتحقق ، أن إله الدنيا والآخرة لما كان واحداً وسنّته لا تتبدل ولا تتحول ، فإذا كان منذ كون الإنسان وخلقه من لدن كونه جماداً ونباتاً ومضغة وعلقة إلى تمام خلقته وكمال عقله ، كل صيحة من الله وقعت عليه ، أو نفخة نفخت فيه يوجب له تحولاً من حياة دنيّة إلى حياة هي أشرف وأعلى ، فالظاهر أن إماتة الله وتوفيّه للإنسان ، وإخراجه إياه عن بطن هذا العالم يوجب له حياة كاملة تامة لا قصور معها ولا زوال ، ولا آفة ولا مرض ولا حزن ، فيستحكم عند ذلك رجاؤه ، ويقوى طمعه في جود الله ، بين الصيحة العظيمة وأن كانت ذات تهويل وفزع أكبر وزلزلة عظيمة صعق بها من في السموات والأرض ، إلاّ أن جانب المغفرة أرجح وفضاء الرحمة أبسط وأوسع ، فربما تكون هذه الصيحة لطفاً لطائفة - وإن كانت سخطاً لأخرى - أو تكون إماتة في نشأة وهي بعينها إحياء في نشأة أخرى ، كما أن موت الحواس حياة للعقل ، وموت الإرادة حياة الحقيقة ، لأن الدنيا والآخرة متقابلتان - ما يوجب فناء أحداهما فهو يوجب بقاء الأخرى - وسيأتيك زيادة كشف في تفسير النفخة الثانية .