Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 58-58)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

" سلام " مبتدأ محذوف الخبر ، لدلالة " لهم ما يدعون " عليه ، كأنه قال : " لهم ما يدعون ولهم سلام " ، ويجوز أيضاً أن يكون بدلاً من " ما يدّعون " ، و " قولاً " مفعول به ، أي : يقول الله قولاً يسمعونه من رب رحيم ، فنودوا بدوام الأمن والسلامة مع سبوغ النعمة والكرامة ، أو مفعول مطلق ، أي : يقال لهم قولاً من جهة رب رحيم . بمعنى أنه سبحانه يسلم عليهم بلا واسطة ، أو بواسطة الملائكة ، تعظيماً وتكريماً لهم ، وعلى تقدير البدلية ، يكون اشعاراً بأن ذلك غاية ما يتمنونه وغاية منى أهل الجنة أن يسلّم الله عليهم ، ولهم ذلك من غير منع . وعن ابن عباس : الملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين . وقيل : إن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب ، يقولون : " سلام عليكم من ربكم الرحيم " . وفي الكشاف قيل : " ما يدّعون " مبتدأ وخبره " سلام " ، بمعنى : ولهم ما يدّعون سالم خالص لا شَوْبَ فيه ، و " قولاً " مصدر مؤكد لقوله : " ولهم ما يدّعون سلام - أي عِدَة - من رب رحيم " ، والأوجه أن ينتصب على الاختصاص ، وهو من مجازه . وقرئ : " سلم " . في قراءة ابن مسعود : " سلاماً ، نصباً على الحالية ، أي : لهم ما يدّعون سالماً . مكاشفة برهانيّة قد سبقت الإشارة إلى أن الإنسان إذا مات عن الدنيا ولذّاتها ، وصفت نفسه عن دَرَن الشهوات ، وتنوّرت بأنوار العبودية والطاعة ، وتخلّقت بأخلاق الله ، وبلغت مقام الفناء في التوحيد ، فحشر إلى ربه وتسرمد بسرمديته ، ونفذ حكمه في العالم على حسب التابعية ومقام الرضا ، واستشرقت ذاته اللطيفة الصافية باشراق نور المحبة في أرجائها ، فتكرم بكرامة التكوين والإيجاد ، فتسخّر له ما في الملك والملكوت ، ويسمع دعاؤه ودعوته في عالم الجبروت ، لكونه وليد القدس وخليفة الله في أرضه ، ويكون ممن أمر الله سبحانه بواطن الملكوت والروحانيين وعباده المسبّحين بأن يسجدوا له كلهم ، بقوله : { ٱسْجُدُواْ لآدَمَ } [ البقرة : 34 ] . ويكون ممن يطيع له الملكوت ويسجدون له كما سجد الملائكة كلهم لأبيه آدم حين أمرهم الله بسجوده ، كما في قوله تعالى : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ ص : 71 - 72 ] ، وها هنا يظهر سرّ ما ورد في الحديث عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " أن العالم يستغفر له من في السماء ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر " . وبالجملة ، الإنسان إذا انخرط في سلك المقربين ، يصير نفس تصوره لكل ما يتمناه نفس وجود ذلك الشيء في العين ، كما أن قبل ذلك يعمّ لكل أحد إذا تصور شيئاً وتمنّاه خضع له في عالم توهمه ، ويكون نفس تصوره لشيء وجوداً خيالياً ذهنياً له ، فلكل أحد ها هنا ما تشتهي نفسه في خياله وضميره ، إلاّ أن ضميره وباطنه في غاية القصور ، وارادته وهمّته في غاية الضعف ، فيكون للأشياء بالقياس إليه وجود كالعدم ، وحضور كالغيبة ، وأما في الآخرة فإذا قوي روح الإنسان بالعلم والإيمان ، وتخلص عن قيود الإمكان ورقّ الحدثان ، وسلاسل الذنوب وغلّ العصيان ، كان الذهن له خارجاً ، والعلم عيناً ، والغيبة حضوراً ، فيحضر ويوجد له دفعة واحدة كل ما يهمّه ويهواه ، هذا هو المراد بقوله تعالى : { ولهم فيها ما يدّعون } . ثم اعلم أنه " ورد في الحديث في خبر أهل الجنة : أنه يأتي إليهم الملك بعد أن يستأذن منهم في الدخول عليهم ، فإذا دخل ناولهم كتاباً من عند الله بعد أن يسلّم عليهم من الله ، فإذ في الكتاب لكل إنسان يخاطب به : من الحي القيوم إلى الحي القيوم ، أما بعد : فإنّي أقول للشيء " كن " فيكون ، وقد جعلتك اليوم تقول للشيء " كن " فيكون . فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فلا يقول أحد من أهل الجنة لشيء " كن " إلاّ ويكون " . تأييد كشفي قال بعض أهل المعرفة في شرح هذا الحديث : إن قوله ( صلى الله عليه وآله ) : " فلا يقول أحد من أهل الجنة لشيء كن إلاّ ويكون " جاء ( بشيء ) نكرة ، فَعَمّ ، وغاية الطبيعة تكوين الأجسام وما تحمله مما لا تخلو عنه وتطلبه بالطبع ، وغاية النفس تكوين الأرواح الجزئية في النشآت الطبيعية ، فما أعطى العموم إلاّ للإنسان الكامل حامل السر الإلهي ، فكل ما سوى الله شطر من الإنسان الكامل - فاعقل إن كنت تعقل - . ومن أراد أن يعرف كماله ، فلينظر في نفسه وأمره ونهيه وتكوينه بلا واسطة لسان ولا جارية ولا مخلوق غيره ، فهو على بينة من ربه في كماله ، فإن أَمَرَ أو نهى ، أو شرع في التكوين بواسطة جارحة من جوارحه ، فلم يقع شيء من ذلك ، أو وقع في شيء دون شيء ، ولم يعم - مع عموم ذلك بترك الواسطة - فقد كمل ، فلا يقدح في كماله ما لم يقع في الوجود عن أمره بالواسطة ، فإن الصورة الإلهية بهذا ظهرت في الوجود ، فإنه أمر عباده على ألسنة رسله وفي كتبه ، فمنهم من أطاع ومنهم من عصى ، وبارتفاع الوسائط لا سبيل إلاّ الطاعة خاصة ، كما قال ( صلى الله عليه وآله ) : " يد الله مع الجماعة " ، وقدرته نافذة ، ولهذا إذا اجتمع الإنسان في نفسه حتى صار شيئاً واحداً ، نفذت همته فيما يريد ، وهذا ذوق أجمع عليه أهل الله قاطبة ، انتهى كلامه . وقال في موضع آخر : " بالوهم يخلق كل إنسان في قوة خياله ما لا وجود له إلاّ فيها ، وهذا هو الأمر العام الفاشي ، والعارف يخلق بالهمّة ما يكون له وجود من خارج محل الهمة ، ولكن لا تزال الهمة تحفظه ولا يؤودها حفظ ما خلقته ، فمتى طرأ على العارف غفلة عن حفظ ما خلق ، عدم ذلك المخلوق " انتهى . وقال الغزالي في رسالة المضنون به على غير أهله ، " إن النوم مستحقر لأجل انقطاعه ، فلو كانت دائمة لم يظهر الفرق بين الخيالي والحسي ، لأن التذاذ الإنسان بالصور من حيث انطباعها في الخيال والحس ، لا من حيث وجودها في الخارج ، فلو وجد في الخارج ولم يوجد في حسّه بالانطباع ، فلا لذة له ، ولو بقي المنطبع في الحسّ وعُدم في الخارج لدامت اللذة ، وللقوة المتخيّلة قدرة على اختراع الصور في هذا العالم ، إلاّ أن صورها المخترعة متخيلة ، وليست بمحسوسة ولا منطبعة في القوة الباصرة ، فلذلك لو اخترع صورة جميلة في غاية الجمال ، وتوهم حضورها ومشاهدتها ، لم تعظم لذته ، لأنه ليس بصيراً مبصراً كما في المنام . فلو كانت له قوة على تصويرها في القوة الباصرة ، كماله قوة على تصويرها في القوة المتخيلة ، لعظمت لذّته ، ونزلت منزلة الصورة الموجودة في الخارج ، ولم تفارق الدنيا الآخرة في هذا المعنى إلاّ من حيث كمال القدرة على تصوير الصورة في القوة الباصرة ، فكلما تشتهيه فيحضر عنده في الحال ، فتكون شهوته بسبب تخيله ، وتخيله بسبب ابصاره ، أي بسبب انطباعه في القوة الباصرة ، ولا يخطر بباله شيء يميل إليه إلاّ ويوجد في الخيال ( الحال - ن ) ، أي يوجد له بحيث يراه . وإليه الإشارة بقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " أن في الجنة سوقاً تباع فيه الصُّوَر " ، والسوق عبارة عن اللطف الإلهي الذي هو منبع القدرة على اختراع الصور بحسب المشيّة ، وانطباع القوة الباصرة بعدها انطباعاً ثانياً إلى دوام المشية ، لا انطباعاً هو بمعرض الزوال من غير اختيار كما في النوم في هذا العالم . وهذه القدرة أوسع وأكمل من القدرة على الإيجاد عن خارج الحسّ ، لأن الموجود في خارج الحسّ لا يوجد في مكانين ، وإذا صار مشغولاً باستماع واحد ومشاهدته ومماسّته ، صار مستغرقاً محجوباً عن غيره ، وأما هذا فيتسع اتساعاً لا ضيق فيه ولا منع ، حتى لو اشتهى مشاهدة النبي ( صلى الله عليه وآله ) - مثلاً - ألف شخص في ألف مكان في حالة واحدة لشاهدوه كلما خطر ببالهم في الأمكنة المختلفة ، وأما الإبصار الحاصل من شخص النبي ( صل الله عليه وآله ) الموجود في خارج الحسّ ، فلا يكون إلاّ في مكان واحد ، وحمل أمور الآخرة على ما هو أوسع وأتم للشهوات وأوفى لها أَوْلىٰ . ولا ينتقص عن رتبتها في الوجود انتفاء وجودها من الخارج ، فإن وجودها مراد لأجل حظه ، وحظه من وجوده في حسّه ، فإذا وجد فقد توفر حظه ، والباقي فضل لا حاجة إليه ، وإنما يراد لأنه طريق المقصود ، وقد تعيّن كونه طريقاً في هذا العالم الضيق القاصر ، أما في ذلك العالم ، فيتسع الطريق ولا يتضيق " انتهى كلامه . مباحثة عقلية إن هذا النحرير الخبير قد تتبع أثر كلام فاضل المشّائين أبي علي بن سينا في تحصيل مسألة المعاد الجسماني ، حيث قال في أواخر كتابه المعروف بالشفاء ، بعد أن صحح اعتقاده بالمعاد بكون بعض الأجرام السماوية موضوعاً لتخيلات المتوسطين في السعادة والأشقياء ، وفي جميع ما اعتقدوه من الأحوال الأخروية ، أو سمعوه من الإنذارات في الدنيا ، من أحوال القبر والبعث والثواب والعقاب بهذه العبارة : " إن الصورة الخيالية ليست أضعف عن الحسيّة ، بل تزداد عليها تأثيراً وصفاءاً كما يشاهد في المنام ، فربما كان المحلوم به أعظم شأناً في بابه من المحسوس ، على أن الأخرى أشد استقراراً من الموجود في المنام بحسب قلة العوائق وتجرد النفس وصفاء القابل ، وليست الصورة التي ترى في المنام بل والتي تحسّ في اليقظة - كما علمت - إلاّ المرتسمة في النفس ، إلاّ أن إحداهما تبتدئ من باطن وتنحدر إليه ، والثانية تبتدئ من خارج وترتفع إليه ، فإذا ارتسم في النفس تمّ هناك الإدراك المشاهد ، وإنما يلذ ويؤذي بالحقيقة هذا المرتسم في النفس لا الموجود في الخارج ، وكلما ارتسم في النفس فعل فعله وإن لم يكن سبب من خارج ، فإن السبب الذاتي هو هذا المرتسم ، والخارج هو سبب بالعرض أو سبب السبب " انتهت ألفاظه . والعجب منهما جميعاً ، كيف اقتنعا في هذه المسألة المهمة الشريفة الدينية ، التي لا يخرج الإنسان من خطر سوء العاقبة إلاّ بتحقيقها وتبيينها ، بهذه المرتبة الدنيّة ، وقصرا في الإعتقاد بيوم المعاد على هذه الدرجة النازلة . بل الحق الحقيق بالإعتقاد والتصديق ، هو ما تنورت به نفوس الراسخين في العلم والإيمان ، المثبتين في الحكمة والعرفان ، من علماء هذه الملة البيضاء ، وحكماء هذه الشريعة الغرّاء ، وهو أن الصور الموجودة الموعودة في الدار الآخرة موجودات عينيّة وثابتات خارجية منفصلة عن النفس - لا أنها حالّة فيها حلول الصور الانطباعية - وإنما هي جواهرها جواهر عينية وثابتات خارجية منفصلة عن النفس ، وهي على أشكالها وهيئاتها وصفاتها المنعوتة في الكتاب والسنّة ، وأقدارها واعظامها وإعدادها الموعودة في لسان الشريعة من غير تجوزات واستعارات في اللفظ ، وتكلّفات وتمحّلات في الحكاية . وهي أقوى تأثيراً وأدوم آثاراً من موجودات هذا العالم ، بل لا نسبة بينها وبين هذه المؤثرات ( الداثرات - ن ) المستحيلات في باب الموجودية وترتّب الآثار بها ، وليست أنها بحيث يمكن أن ترى بهذه الأبصار البالية الفانية كما ذهب إليها الظاهريون ، ولا أنها خياليّة محضة لا وجود لها في العين ، أو مثاليّة محضة لا تشاهد إلاّ في مظاهر أخرى نفسانية أو خيالية ، أو أجرام فلكيّة أو كوكبية كما رآه آخرون ، ولا أنها مجرد مفهومات عقلية وأمور ذهنيّة كلية كما زعمه المشّاؤون ، ولا أنها مجرد مثالات عقلية لأجسام نوعية وأرباب أنواع جسمانية لأصنام شخصية كما ذهب إليه الرواقيّون ، ولا أنها أشخاص وأجسام ستوجد في هذا العالم ويتعلق بها النفوس الناقصة والمتوسطة بعد مرور أكوار وأدوار كثيرة ، ومضيّ دهور وأحقاب عديدة ، كما تمحّله وانتحله التناسخية . بل كما ذكرناه ، صورة عينيّة جوهرية موجودة ، لا في هذا العالم ودار العمل ، ولا يشاهد بهذه الحواس ، وإنما هي ثابتة في عالم الآخرة ودار الثواب . وعالم الآخرة جنس لعوالم كثيرة ، كل منها أعظم من هذا العالم بما لا نسبة بينهما ، ولكل نفس من نفوس الأخيار عالم عظيم الفسحة ، ومملكة أعظم من السماوات والأرض بعدة أضعاف . ووجود أمور الآخرة وإن كان يشبه وجود الصور التي يراها الإنسان في المنام أو في المرآة من وجه ، إلاّ أن الموجودة في المنام والمرآة أمور ضعيفة ، شأنها الحكاية المحضة ، وأما الصور الموجودة في الدار الآخرة فهي أمور قوية الوجود شديدة التأثير ، نسبتها إلى هذه الصور الدنيوية كنسبة هذه الصور المحسوسة إلى الموجودة في المنام ، من بقايا المرتسمات الوهمية والمخزونات الخيالية ، كما ورد في الحديث من قوله ( صلى الله عليه وآله ) : " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا " ، فيعلم منه أن الكون في الدنيا منام والعيش فيها أحلام . وقد مرت في تفسيرنا لبعض الآيات إشارات لطيفة وتنبيهات على كيفية وجود الصور الأخروية ، وأما بيانه التفصيلي على المنهج البرهاني اللمّي بالنظم الحكمي المتعارف بين المباحثين ، المناسب للناظرين ، فقد أودعناه في بعض " الأسفار الإلهية " الموسومة بالحكمة المتعالية . وأما إجماله ، فإنما يستفاد من هذه الآية ونظائرها ، بملاحظة أن النفس الناطقة الإنسانية من سنخ الملكوت وعالم القدرة والنورية ، والنور فياض لذاته ، والملكوتيون لهم اقتدار على اختراع الصور من غير حاجة إلى مادة وموضوع تصرفوا فيها كأرباب الصنائع في صنائعهم ، ووجود المادة وعدمها مناط الفرق بين الصنع والإبداع ، فإن الحاصل بالإنشاء والإبداع يكون صورة من غير مادة وموضوع ، والحاصل بالصنع والتكوين صورة في مادة أو مع مادة . لكن النفس ما دامت متعلقة بهذا البدن الكثيف الظلماني ، المركب من الأضداد ، لا يمكنها إنشاء الصور والأشكال التي أرادت وشاءت إلاّ ضعيفة الكون شبحية الوجود ، بمنزلة الطلل والرسوم التي لا تترتب عليها الآثار المطلوبة ، ولا تكون أيضاً ثابتة باقية بل دائرة زائلة ، لأن مظهرها القوة الخيالية ، وهي دائمة التحلل والتجدد والزوال ، والإنتقال من حال إلى حال حسب اختلاف أمزجة محلها ، بسبب ما يرد على الروح البخاري من المشوّشات والمتغيّرات الخارجة والداخلة . أَوَلاَ ترى أن النفس كلما استراحت من الشواغل الضرورية وغير الضرورية والحركات اللازمة لحفظ البدن ، المجتمعة من الأمور المتضادة المتداعية إلى الانفكاك ، وتعطلت حواسها الظاهرة واحتبست عن استعمالها والاشتغال بها - إما بالنوم ، أو بتوجهها إلى الجنبة العالية بقوة في ذاتها نظرية أو كسبية - اغتنمت الفرصة ورجعت إلى ذاتها النورية الفياضة ، فأصبحت مخترعة للصور مشاهدة إياها بحواسها التي لها في ذاتها بلا مشاركة البدن ، فإن للنفس في ذاتها بصراً وسمعاً وذوقاً وشمّاً ولمساً من دون حاجة لها إلى البدن وقواه ، بل هي أتم وأقوى وأصفى من هذه التي في البدن ، بل هذه هي ظلال تلك ، وكما أن حواس البدن كلها ترجع إلى حاسة واحدة هي " الحس المشترك " ، فجميع حواس النفس وقواها ترجع إلى قوة واحدة وهي ذاتها النوريّة الفيّاضة للصور . وقد أشرنا إلى أن نزول الشيء عن فطرته يكثّره ويضعفه ، فهذه الحواس على كثرتها كأنها هي صفات النفس الموجودة في ذاتها بوجود واحد ، تشعّبت وتكثرت في البدن ، والضعف مما يوجب التكثر والإنقسام ، كالنبض يتعدد ويتواتر عند ضعفه ، فإذا رجعت النفس إلى فطرتها وذاتها من هذا العالم ، صار إدراكها للأشياء عين قدرتها عليه ، فيكون علمها فعلاً وحسها قدرة ، وكلما كانت أتم قوة ، وأقوى تجوهراً ، وأقل مزاحمة من قواها وشواغلها ، كانت ملاقاتها للصور الغيبيّة ومشاهدتها إيّاها ، وترتب آثار الوجود على صورها المشهودة إلذاذاً أو إيلاماً أكثر . وربما كانت قوة بعض النفوس لغاية جلالتها وقربها من الحق سبحانه بحيث تفي بضبط الجانبين ، وتسع للتصرف في النشأتين ، فكانت مع تعلقها بهذا البدن مشاهداً لعالم الآخرة ، وذلك لنفضهم غبار هذه المحسوسات عن أذيال نفوسهم ، وعدم التفاتهم إلى صور هذه الدار إلاّ بعين الاحتقار ، فلا يشغلهم شأن عن شأن ، ولا يحجبهم منزل عن منزل ، ولا يلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وتذكّر الأمور الأخروية ، فهي كالمبادئ الفعّالة ذاتاً وصفة وفعلاً ، فتقدر على إيجاد الصور وإنشاء الأعيان ، وذلك لظهور سلطان الآخرة على قلوبهم ، وقيامهم إلى الله عن هذه القبور البالية . فهذه أنموذج لمعرفة أحوال الآخرة وما يراه الإنسان من الصور الملّذة أو المؤذية الموعودة أو المتوعّدة عليها في الجنة والنار ، ويعلم منه كيفيّة احضار كل ما يشتهيه ويدّعيه أهل الجنة في الجنة المشار إليه في هذه الآية قوله : { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } [ يس : 57 ] . بل يعلم أيضاً كل نفس - سواء كانت سعيدة أو شقية - ، فهي إذاً انقطعت عن البدن ، وارتحلت عن هذه الدار ، وارتفعت عنها شواغلها صحبة الأغيار ، ورجعت إلى ذاتها وعالمها ، وصارت جوانبها الباطنية لإدراك الأمور الأخروية قوية حديدة ، لقوله تعالى : { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ ق : 22 ] فيشاهد الصور الغيبية المخزونة عنها من نتائج أعمالها وأفعالها ، ومطامح أنظارها ومقاصد طبائعها وغاية هممها وقصورها ، فإن كانت هي من الأمور القدسية الدائمة الباقية المقرّبة إلى الحق ، المؤكدة للرَوْح والرَيحان ، والانس بروائح القدس ، كانت الروح عند ملاقاتها مسرورة بها ، قريرة العين بمشاهدتها ، كالجنة والرضوان ومجاورة الرحمان ، وإن كانت من باب اللذات الداثرات ، والشهوات الدنية الفانية ، كانت الروح عند ملاقاتها في غصة وعذاب أليم ، وتَصْلِيه جحيم . مباحثة أخرى ثم إني لأتَعَجَّبُ من بعض الشيوخ الموصوفين بالعلم والحكمة وفقه الآيات بالإشراق والهمّة ، مع شدة توغله في فهم الأسرار وعلم الأنوار ، واعتقاده بوجود عالم الجنة والنار - إليه رجعى نفوس الأخيار والفجّار - كيف صوّب واختار قول بعض العلماء ، كما صوّبه واختاره الشيخان الجليلان - وهما أبو علي والغزالي - تصريحاً وتلميحاً ، من كون جرم سماوي موضوعاً لتخيلات طوائف من السعداء والأشقياء ، مستدلاً بأنهم لم يتصور لهم العالم العقلي ، ولم تنقطع علاقتهم عن الأجرام ، وهم بعد بالقوة التي احتاجت بها النفس إلى علاقة البدن ، وقال : " إنه كلام حسن " ، موافقاً لما قال أبو علي بعد نقله إياه : " أنه مما يشبه أن يكون كلاماً حقاً " وكما اختاره الغزالي في مقالته المضنون بها - وهو ما نقلنا آنفاً - . إلاّ أن هذا الشيخ الاشراقي ، خالفهما في تعلق نفوس الأشقياء بتلك الأجرام الشريفة ذوات النفوس النورانية ، حيث قال : " والقوة تحوجهم إلى التخيل الجرمي ، فليس يمتنع أن يكون تحت فلك القمر وفوق كرة النار جرم كروي غير منخرق هو نوع بنفسه ، ويكون برزخاً بين العالم الأثيري والعنصري موضوعاً لتخيلاتهم ، فيتخيلون به من أعمالهم السيئة مثلاً من نيران وحيّات تلسع ، وعقارب تلدغ ، وزقّوم تُشرب ، وغير ذلك " . وقال : " ولست أشك لما اشتغلت به من الرياضات أن الجهال والفجرة لو تجرّدوا عن قوة جرمية مذكرة لأحوالهم مستتبعة لمَلَكاتهم وجهالاتهم ، مخصصة لتصوراتهم ، نجوا إلى الروح الأكبر " انتهى . ولا يخفى على الخبير البصير ، أن كون جسم من الأجسام فلكي أو عنصري موضوعاً لتخيل النفس ومرآةً لمشاهدتها صور الأشياء ، لا تستم إلاّ بأن يكون لها معه علاقة ذاتية أو وضعية بتوسط ما هو لها معه تلك العلاقة بالذات ، وبالجملة ، لا بدّ من أن يكون ذلك الجسم في تصرف النفس بوجه من الوجوه ، وأقلّه كما يكون في المرايا التي لها علاقة وضعية بالنسبة إلى المادة البدنية ، التي هي موضوعة لأفاعيل النفس ومحل لقواها ، ومطرح لأشعّتها وأضوائها ، المنبعثة عن ذاتها النيرة الواقعة عليك . فإنك إذا كنت ترى صورة في المرآة ، فهو لأجل علاقة وضعية لها ابتداءً أو بتوسط مرآة أخرى مع عينك التي هي أيضاً مرآة في تصرّف النفس بعلاقة طبيعية ، وليس الجرم الفلكي أو ما يجري مجراه ، مما يؤثر فيه شيء من النفوس إلاّ نفسه الفائضة عليه من مبدئه ، وقد تقرر عندنا ، أن الأجرام العلوية ليست مطيعة لغير مباديها الذاتية ، وهي ملائكة السماوات بأمر ربّها ، ولا قابلة للتأثيرات الغريبة من القواسر ، وليست لتلك النفوس المفارقة عن هذه الأبدان أبدان أخرى ، حتى تكون لأبدانها بالقياس إلى تلك الأجرام العلوية علاقة وضعية ، لتصير هي كمرآة لتلك النفوس يشاهدون ما فيها من الصُّوَر . وعلى تقدير صحة كونها مرائي ، تكون الصور المرتسمة في مرائيها هي تخيلات الأفلاك وما في حكمها ، لا تخيلات تلك النفوس ، فكيف يُجَوّزون أن تكون تلك الصور مما يتلذذ به السعداء أو يتعذب به الأشقياء ؟ كيف والصور المؤلمة لهم - على ما اعترفوا به - ، ليست إلاّ هيئاتهم الردية وتخيلاتهم النفسانية المشوشة الباطلة ، وعقائدهم الوهمانية الخبيثة الفاسدة ، دون الصور المطابقة لما هو الواقع ، لأن الكائن في القابل الذي هو في غاية الخلوص والنقاء - كالأجرام العالية - من الفاعل الذي في غاية الشرف والبهاء - كالمبادي العقلية - لا يكون إلاّ صوراً علمية مطابقة لما هو عليه الأمر في نفسه . ثم من المعلوم أن علاقة الجوهر الروحاني بجرم إنما هي لنسبة طبيعية بين مادته البدنية وبين الجوهر الروحاني ، فأيّه نسبة حدثت بينهما بالموت حتى أوجبت اختصاصه به وانجذابه من عالمه إليه دون غيره من الأجرام ؟ بل إلى حيّزه دون بقية الاحياز من نوع ذلك الجرم ؟ ثم أن الجسم الذي هو موضوع التخيلات ، يجب أن تتصرف فيه النفس وتحركه بحركات جرمية ، تابعة للحركات النفسانية وارادته الفكرية ، كما يعرض لجوهر الدماغ من الإنفعال والتغيرات ، وظاهر ، أن الجوهر الفلكي يأبى عن تَصرُّف فيه من غير نفسه المحركة إياه حركة متشابهة مستمرة على نهج واحد . وإن كان جرماً مركّباً دخانياً تحت كرة النار - كما زعمه قوم - فهو أيضاً غير صحيح ، لعدم اعتدال فيه يصلح لقبول النفس المدبّرة له ، فإنه أن قرب من النار فتحيله بسرعة إلى جوهرها ، وأن بَعُدَ منها فيكون في حيّز الهواء ، فأما أن يتخلخل فيصعد بحرّ ، أو يتكاثف فينزل ببرد ، وليس فيه جرم محيط يغلب عليه من الصلابة واليبس ما يحفظه من التبدد ويحرسه عن ممازجة غيره به ، كما للجوهر الدماغي فينا ، ليتعين فيه محل التخيل بتشكلاته ، ولا بدّ من جوهر يابس لتنحفظ فيه الصور ، ورطب ليقبل . ثم لما كانت النفوس المفارقة عن الأبدان الإنسانية غير متناهية عندهم ، لزم مما ذكروه اجتماع المفارقات كلها على جسم من أجسام العالم ، فيلزم أما نهاية تلك الجواهر ، أو عدم نهاية ذلك الجسم ، وكلاهما محال ، فلا يستتم ما قالوه ولا يستقيم ما تصوروه من كونها مما يتعذب به الأشقياء . وكما لم يجز ذلك في الجرم الفلكي ، فكذلك لا يصح في جرم إبداعي غير منخرق منحصر نوعه في شخصه كما توهموه ، بل هذا الجرم أيضاً كما فرضوه ، له طبيعة خامسة فلكية وإن كانت تحت كرة القمر ، للزوم كونه غير مستقيم الحركة ، بل ذا حركة مستديرة دائمة يخرج بها أوضاعه وكمالاته من القوة إلى الفعل ، وسائر صفات الأفلاك على رأيهم ، ولعل عدد نفوس الأشقياء غير متناه على رأيهم كما مرّ ، فكيف يكون جرم دخاني متناه موضوعاً لتصرفاتها وصورها الإدراكية الغير المتناهية ، إذ لا أقل من أن يكون فيه بإزاء تعلق كل نفس وكل ارتسام صورة فيها قوة واستعداد لها ، فيلزم أن يكون جرم واحد ذا قوة غير متناهية مجتمعة ، وذلك معلوم الفساد . بل الحق ، أن الصور المُلِذَّة للسعداء ، والمؤذية للأشقياء ، في النشأة الثانية - ، كما وعدت الشريعة الحقة النبوية ، على الصادع بها وآله أفضل الصلاة والتحية - هي واقعة في صقع آخر ، مظاهرها نفوس هاتين الطائفتين بضرب من الفعل والتأثير ، كما أن الصور تقع في المرآة بضرب من القبول ، ولا منافة بين صدور الفعل عن قوة بجهة ، وانفعالها عنه بجهة أخرى ، كما أن الصحة والمرض البدنيين ينشئان من النفس في هذه الدار - كما هو التحقيق - بواسطة ما سبق من أفعال تغير المزاج ، ثم تنفعل النفس منهما ، وتكون من أحدهما في راحة ومن الآخر في مشقة . وذلك لكونها ذات جهتي قوة وفعل ، وكمال ونقص ، ووجوب وإمكان ، يفعل بأحدهما وينفعل بالأخرى ، وهكذا يكون حالها بحسب فعل الطاعات واقتراف السيئات المؤدية إلى الصور الحسنة والقبيحة يوم الآخرة عند تجسّم الأعمال ، فيتنعّم أو يتعذب . وهاتان الجهتان موجودتان في النفس ما لم يصرّ عقلاً بسيطاً صرفاً يكون فعّالاً ودرّاكاً ، وقد ثبت عندنا أن " عنه " و " فيه " في المفارقات المحضة شيء واحد . فقد وضح أن جميع ما يلحق النفس في الآخرة هو ما ينشأ منها ، فظهر بطلان قول هؤلاء المتشبّثين بأذيال الأفكار الفلسفية ، الواقفين عن الإرتقاء إلى ذروة قدس الملة المصطفوية ، وأوْج عرفان الحكمة المحمدية ، على الصادع بها وآله أزكى الصلوات الأبدية . تأييد تنبيهي ومما يؤكد ويوضح ما ذكرناه ، من بطلان قول هؤلاء بتعلق الأرواح بعد الموت بأجسام فلكية أو دخانية ، ليكون الحاصل في قواها من الصور المثالية هي بعينها جنة السعداء وجحيم الأشقياء ، وتصحيح أن تلك الصور والأشباح حادثة عن الأرواح في صقع منها وفي عالمها المختص بها ، نتيجة لأعمالها وأخلاقها الحاصلة في الدنيا ، هو ما صرح به بعض أهل الكشف بقوله : " عليك أن تعلم أن البرزخ الذي تكون الأرواح فيه بعد المفارقة من النشأة الدنيوية هو غير البرزخ الذي بين الأرواح المجردة والأجسام ، لأن تنزلات الوجود ومعارجه دورية ، والمرتبة التي قبل النشأة الدنيوية هي من مراتب التنزلات ولها الأولية ، والتي بعدها من مراتب المعارج ولها الآخرية . وأيضاً ، الصور التي تلحق الأرواح في البرزخ الأخير ، إنما هي صور الأعمال ونتيجة الأفعال السابقة في الدنيا ، بخلاف صور البرزخ الأول ، فلا يكون أحدهما عين الآخر ، لكنهما يشتركان في كونهما عالماً روحانياً وجوهراً مثالياً " - انتهى . وقال في الباب الثالث والستّين من فتوحاته المكية : " فجميع ما يدركه الإنسان بعد موته في البرزخ من الأمور لَعَيْنُ الصور التي هو بها في الدنيا " . وقال في آخر هذا الباب : " وكل إنسان في البرزخ مرهون بكسبه ، محبوس في صور أعماله ، إلى أن يبعث يوم القيامة في النشأة الآخرة " انتهى كلامه . وبه يُعلم ، أن تلك الصور الملذّة والمؤلمة مبدء وجودها النفوس ، لأنها نتائج الأعمال اللاحقة ، وهي ليست تخيلات الأفلاك وتصوراتها التي هي بعينها صور عالم المثال السابقة عندهم ، ولا يمكن أيضاً أن ترتسم فيها صور أخرى حاصلة من تلك النفوس ، وإلاّ لانفعلت عنها وتأثّرت من آثارها ، فانفسدت بكثرة التأثيرات الغريبة . ويعلم من قوله : " فجميع ما يدركه الإنسان بعد موته - إلى آخره - " وقوله : " كل إنسان في البرزخ مرهون بكسبه - إلى آخره - " أن الصور الإعتقادية هي بعينها ستصير بعد القيامة موجودات عينية متحققة القوام ، مستمرة الثبات والدوام ، مؤثرة في النفوس إلذاذاً وإيلاماً ، وأن المكاسب العملية هي بعينها ستصير إما منشأ انطلاق النفس عن وثاقها إلى سعة الرحمة الإلهية ، أو منشأ لانحباسها عن عالمها وتقيدها بسلاسل التعلقات ، وضيق عطنها وطردها عن الرحمة وبُعدها عن الجنة في غصة وعذاب أليم ، وانحدار إلى مهوى الجحيم .