Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 60-61)
Tafsir: at-Tafsīr
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
و " العهد " في اللغة بمعنى " الوصية " ، و " عهد إليه " : إذا وصّاه ، وقرئ " اِعهَد " - بكسر الهمزة وفتح الهاء - وقد جاء عند أهل اللغة والاشتقاق كسر حرف المضارعة غير الياء في باب " فعل " كله ، و " أَعهِد " بفتح الهمزة وكسر الهاء ، ونقل عن الزجّاج تجويز كون هذا الفعل من باب " نعم ينعم " و " ضرب يضرب " و " احهد " بإبدال العين حاء ، و " أحد " بإبدال الهاء أيضاً حاء ، ومنه قولهم : دحّا محاً . وعهد الله إلى بني آدم ، ما فطرهم الله على فطرة الاستعداد لإيداع علم التوحيد في ذواتهم المشار إليه بقوله : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [ الأعراف : 172 ] . ولاقتناء الخيرات واكتساب السعادات الأخروية . وميثاق ذلك العهد ، ما ركّز في نفوسهم من أوائل المعقولات وأدلة العقليات وشواهد السمعيات للتوحيد ، وإلزام ذلك العلم إياهم ، وجعله من اللوازم الذاتية لهم ، بحيث إذا تجردوا عن الصفات النفسانية والغواشي الجسمانية ، تبيّن لهم ذلك وانكشف عليهم أظهر شيء وأبينه ، وهو إشهادهم على أنفسهم ، لكون ذلك العلم فطرياً لهم حينئذ ، وإجابتهم لذلك بقولهم : " بلى " ، قبولهم الذاتي . ونقض ذلك العهد انهماكهم في اللذّات البدنية والغواشي الطبيعية ، وتعبّدهم للهوى والشيطان ، بحيث احتجبوا عن علم التوحيد ومعارف الإيمان . وعداوة الشيطان لبني آدم ، هي اضلالهم عن الصراط المستقيم ، المؤدي بسالكه إلى الوصول بالحق وجنة النعيم ، ودعوته إياهم إلى ما فيه هلاكهم . وإنما قال : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } لأنه مجبول على عداوتهم ، إذ شأنه الوسوسة في الصدور ، وجِبِلّته الأمر بالفحشاء والمنكر والبغي ، والوعد بالشر والتوعّد على الخير . تذكرة لوحيه فيها تبصرة عرشية إن أردت - أيها الراغب إلى فهم أسرار القرآن ودرك أغواره - أن تسمع كلاماً في كيفية عبادة أفراد النفوس الآدمية للشيطان وطاعتهم لجنوده ، فاستمع لما يتلى عليك إنشاء الله من تحقيق الكلام وتبيين المرام بأصول عقلية هي دعائم لكشف هذا المقام - والله ولي التوفيق والإلهام - : الأصل الأول إن لله تعالى صفتين متقابلتين من بين الصفات المتقابلة ، اسمهما " الهادي " و " المُضِلّ " ، وبإزائهما في المخلوقات معاني وصفات متضادة ، وأفراد وأنواع متفاسدة متعاندة : كالوجوب والإمكان ، والخير والشر ، والنور والظلمة ، والعلم والجهل ، والسعادة والشقاوة ، والتوفيق والخذلان ، والمَلَك والشيطان ، والرحمة والغضب ، والجنة والنيران ، والدنيا والآخرة - إلى غير ذلك من الأمور المتقابلة المنسوبة في سلسلة المعلولية والحاجة إلى الله - . أما أحد الطرفين - وهو الأشرف ، فأولاً وبالذات وبالأصالة ، وأما الطرف الآخر ، فثانياً وبالعَرَض وعلى سبيل التبعيّة والاستجرار ، اللازمة لقصور القوابل الإمكانية عن قبول الفيض والرحمة من الحق الصرف ، والنور المحض على التمام من غير نقص وآفة ، لقوله : " سبقت رحمتي غضبي " فالخيرات كلها برضاه ، والشرور كلها بقضاه ، وبهذا يدفع شبهة الثنوية القائلة بوجود مبدأين قادرين بالذات . فالملائكة كلهم مخلوقون من نور رحمة الله ، والشياطين صادرة من نار غضبه . والإنسان في أول الفطرة حاصل من الله تعالى بحسب أسمائه المتقابلة ، ممتزج من جهتي نور وظلمة ، مخمّر طينته ببديه أربعين صباحاً ، مركّب من روح وبدن ، وسر وعَلَن ، أما روحه : فجوهر لطيف نوري علوي سماوي ، حاصلة من نفخته تعالى : وأما بدنه : فجوهر كَدِر ظلماني أرضى سفلي ، حاصل من تركيب الأجساد وامتزاج الأضداد . وقلبه - أي نفسه الناطقة - : واقع بين الطرفين ، متوسط بين النشأتين ، له وجه إلى البدن وقواه الجسمانية ، ووجه إلى الروح وقواه الروحانية ، وله قوتان علميتان إحداهما كالمَلَك - بحسب أصل الفطرة - وهي " القوة العاقلة " ، وأخراهما كالشيطان - بحسب الفطرة - وهي " القوة الوهمية " . وله أيضاً قوتان اخريان عمليتان ، إحداهما كالبهيمة ، وكالمرأة الفاسقة ، اسمها " الشهوة " ، وفعلها طلب اللذة والنفع ، واخراهما كالسَّبُع الضاري وكالرجل الظالم اسمها " الغضب " ، وفعلها الانتقام والغلبة . ولكل من هاتين القوتين فروع وخدم كثيرة لا يمكن حصرها ولا يعلم عددها إلاّ الله ، لقوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] وجميعها مخلوقة في مملكة الآدمي لعبادة الله وطاعة العقل الذي هو سرّ من أسرار الله ، وخليفة الله في أرضه ، مبعوث من جانبه على تسخير هذه الجنود ، وصرفها فيما خلقت لأجله ، ومنعها عن طاعة الوهم وعبادة الشيطان ، كما يدل عليه قوله في هذه الآية : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ } . الأصل الثاني إن مبادئ الأفعال الإختيارية من الإنسان - سواء كانت حسنة أو قبيحة ، طاعة أو معصية - أمور أربعة : أولها : تصور الشيء الممكن إدخاله في الوجود بقدرتنا وفعلنا - جلباً أو دفعاً - والتصديق بفائدته أو ملائكته لنا بوجه . وثانيها : الشوق ، وهو توجه نفساني جِبِلّي إلى الشيء المرغوب فيه طلباً وهرباً ، مبدأه قوة حيوانية ذات شعبتين ، إحداهما شهوية للطلب ، والأخرى غَضَبية للهرب . وثالثها : العزم ، وهو تصميم الشوق وتنفيذه ، وهو قوة نفسانية ذات شعبتين هما الإرادة والكراهة . ورابعها : قوة جسمانية مباشرة للتحريك ، شأنها أن تعدّ العضلات للإنتقال ، بأن تبسط العضل بإرخاء الأعصاب إلى جهة مبدئها لينبسط العضو - أي يزداد طولاً وينتقص عرضاً - أو تقبضه بتحديد ( بتمديد - ن ) الأعصاب إلى جهة مبدئها لينقبض العضو - أي يزداد عرضاً وينتقص طولاً - . فهذه مبادي مترتبة للأفعال الإنسانية وبعدها عن عالم الحركة والفعل العقل العملي في الإنسان باستخدام الوهم والخيال - إن كان من أهل الخير والسعادة - أو الوهم باستخدامه - إن كان من أهل الشقاوة - ويليهما القوة الشوقية ، وهي الرئيسة في القوى المحرّكة الفاعلية ، كما أن العقل العملي أو الوهم هو الرئيس في القوة المدركة الباعثة ، وبعد الشوقية وقبل الفاعلية هو القوة المسمّاة باللذاذة والكراهة . وآخرها هي المحرّكة المباشرة للتحريك . الأصل الثالث إن القلب الحقيقي للإنسان الذي هو الجوهر النطقي ، مثاله مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور المختلفة ، فتترآى فيها صورة بعد صورة لا تخلو عنها دائماً ، ومداخل هذه الآثار المتجددة في مرآة القلب ، وسهام الحوادث المتواردة على هدفه في كل حال ، إما من الظاهر كالحواس ، وإما من الباطن كالخيال والشهوة والغضب والأخلاق الآدمية ، فإنه مهما أدرك بالحواس شيئاً ، حصل منها أثر في القلب ، وكذلك إذا هاجت الشهوة والغضب ، حصل من كل منهما أثر في القلب ، وإن كفّ عن الإحساس ، فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وتنتقل المتخيّلة من شيء إلى شيء ، ومن صورة إلى صورة ، وبحسب انتقالها ينتقل باطن الإنسان من حال إلى حال ، فباطنه إذن في التغيّر والانتقال دائماً من هذه الأسباب . وأحضر ( أخص - ن ) الأسباب الحاضرة فيه هي " الخواطر " ، أي الأفكار والأذكار التي من أنواع الإدراكات والتصورات ، إما على الورود التجددي ، أو على سبيل التذكر والإستعراض من المحفوظات في الحافظة بالقوة المسترجعة وهي المسماة بالخواطر ، وهي المحركات للإرادات والأشواق ، فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور ماهية المَنْويّ بالبال ، وحصول صورته في الخيال ، فمبدء الأفعال " الخواطر " ، ثم الخاطر يحرّك " الرغبة " ، والرغبة تحرك " العزم " ، والعزم يحرك " النية " ، والنّية تحرك الأعضاء بالقبض والبسط كما مرّ . الأصل الرابع إن لله تعالى في العالم مخلوقين ، هما مؤثران آخران في قلوب بني آدم فوق ما ذكرنا من المبادئ الأربعة ، أحدهما بالخير والسعادة ، والآخر بالشر والشقاوة ، اسم أحدهما " المَلَك " ، وهو مخلوق من نور رحمة الله ، والآخر " الشيطان " ، وهو مخلوق من نار غضبه . وإلى هذين الصنفين وقعت الإشارة بقوله عليه وآله الصلاة والسلام : " قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمٰن يُقَلّبه كيف يشاء " . وروي أيضاً عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " إن للشيطان لمّة بابن آدم وللملك لمّة . فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشر ، وتكذيب بالحق ، وأما لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمده ، ومن وجد الآخر فليتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم " - ثم قرأ : { ٱلشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ٱلْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً } [ البقرة : 268 ] . وتحقيق إثبات هذين المؤثرين في القلب الإنساني مما ذكرناه في مقامه مستقصى ، وتلخيص القول فيهما ، أما في المؤثر الرحماني : فهو أن الأمور النادرة الواقعة في هذا العالم من خوارق العادات ، مثل الخسف والزلزلة والزجر والوباء العام والقتل العام على أمّة كفرت ، مما لا يمكن أن ينسب إلى عناية الحق الأول والعقول الصريحة بالذات - كما حقّقه بعض الحكماء - بل بواسطة مدبر يفعل الأشياء بقصد جزئي ، ويتخيل الأمور وينفعل عن دعاء المظلومين ، فيجيب الدعوات إغاثة للملهوفين ، وينتقم من الظلمة ، ويفعل العقوبات ، ويعذب قوماً حلّ عليهم غضب الجبار ، كل ذلك بإذن من الحق ورحمته في إيجاد هذا الموجود الملكي على سبيل العناية . فقال بعضهم : " إنه نفس منثبتة ( منبثة - ن ) بعالم الكون والفساد " ، والأكثر من الحكماء أنه نفس متولدة عن العقول والنفوس السماوية ، وخصوصاً نفس فلك الشمس والفلك المائل ، وأنه يدبر لما تحت فلك السماء بمعاضدة الملائكة المتعلقة بالكواكب والسماوات ، وبسطوع أنوار الرحمة الإلهية المنبثة في عالم العقول ، وقد لزم من تصوره بوجه الخير ، انفعال المادة العنصرية وتلبسها في الخارج بصورة ذلك المعقول . قال ابن سينا في بعض كتبه : " يشبه أن يكون ذلك حقاً ، فلا ينبغي أن ينكر أمثال هذه الوقائع في بدن العالم ونفسه ، فإن العالم مشتمل على قوى فعّالة ومنفعلة تحدث منها أمور عجيبة نادرة حادثة ، مرغمة لأنوف أعداء الله الجاحدين للنبوات " . وأما في المؤثّر الشيطاني ، فهو أنه ينبغي لك أن تتصور أولاً ما قد وضح لنا بالكشف الصحيح المطابق للعقل الصريح ، أن في مقابلة ذلك المبدء للعالم على وجه الخير والصلاح ، المتكون في قوى الأجرام الفلكية ، موجوداً آخر نفسانياً صرفاً متولداً من طبقة دخانية نارية يغلب عليها الشرارة والإغواء والإضلال ، وتكون مدركاته من باب الأوهام الكاذبة والأقيسة الداحضة ، وتكون له سلطنة بحسب الطبع على الأجسام الدخانية والبخارية وقواها ونفوسها الجزئية وطبائعها ، فتطيعها تلك النفوس والقوى ، لمناسبة النقص والخسّة ، ويكون المسمى بـ " إبليس " الوارد في الكتب الإلهية وألسنة الأنبياء ، هو هذا الشرير المغوي المُضل . وكونه مجبولاً على الإغواء والإفساد ، وإدعاء الاستكبار والعلو ، كما يستفاد من قوله تعالى : { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْعَالِينَ } [ ص : 75 ] . إنما هو بمقتضى طبعه الغالب عليه النارية الموجبة للإهلاك ، والعلو المكاني الموهم لعلو المكانة والمنزلة . وأما وجه تأثيره في نفوس الآدميين الموهم لعل المكانة والمنزلة . وأما وجه تأثيره في نفوس الآدميين بالشر ، أما من جانب المؤثر فللطافته وسرعة نفوذه في عروقهم ودمائهم التي هي محالّ الشعور والإعتقادات ، واقتداره على إغوائهم بالوسوسة والتخيلات ، وكما أن الشهوات ممتزجة بلحم الآدمي ودمه ، فسلطنة الشيطان أيضاً سارية في لحمه ودمه ، ويحيط بالقلب الذي هو منبع الدم المركّب للروح البخاري ، الحامل للقوى الوهمية والشهوية والغضبية ، ولذلك ورد في الحديث النبوي : " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم " . وكما لا يتصور أن ينفك آدمي من وسواس ، فلا يتصور أن ينفك من شيطان ، ولذلك قال ( صلى الله عليه وآله ) : " ما من أحد إلاّ وله شيطان " . وهذه الشياطين الجزئية من فروعات ذلك الموجود الشرير الذي ذكرنا ، كما أن العقول الجزئية الإنسانية من آثار الملك الملهم بالخيرات . وأما من جانب القابل ، فلقصور القوى الدرّاكة لأكثر الناس ، وضعفها عن المعارضة والمدافعة والمجاهدة مع جنوده وأحزابه من القوى لا سيما " الوهمية " ، إلاّ من عصمه الله من عباده المخلصين ، الذين أيّدهم الله بالعقل القويم وهداهم إلى الصراط المستقيم : { أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [ المجادلة : 22 ] ، وذلك لأجل تسخيرهم قواهم البدنية وخصوصاً الوهمية التي هي أحد أعداء الله ، المجيبة لدعوة الشيطان ، إذا لم يسخره العقل المهتدي بنور رحمة الرحمان . الأصل الخامس إن الله خلق للعقل الإنساني جنوداً كثيرة لتكون مطيعة له معينة عليه ، خادمة إياه في طريق سفره إلى الله وسعيه ، ولهذا خلقه وخلقها ، إذ خلق الإنسان في أول حدوثه ضعيفاً في خلقته ، ناقصاً في فطرته ، وفي وقته إدراك عظمة الله وصفاته وآياته ، وله استعداد الترقي من مرتبة إلى مرتبة ، حتى يصل إلى المعبود الحق ، ولا بد لكل مسافر في طريق مخوف فيه أعداء وقطّاع من مركب وزاد وخدم ، فمركبه مادة البدن ، وزاده العلم والتقوى ، وجنوده الأعضاء والقوى ، وعدوّه الشيطان ، وقطّاع طريقه الدواعي النفسانية والوهمية . وهذه الجنود على صنفين : صنف يُرى بالأبصار - وهي الأعضاء والجوارح - ، وصنف لا يُرى بالأبصار ولا يدرك بالحواس الظاهرة - وهي القوى والمشاعر - وجميعها خلقت خادمة للعقل مسخّرة له بسبب فطرتها ، وهو المتصرف فيها والمحوّل لها بإصبعيه العاقلة والعاملة ، وهي مجبولة على طاعته . أما الجند الأول فلا يستطيعون له خلافاً ولا عليه تمرداً ، فإذا أمر العين للانفتاح انفتحت ، وإذا أمر الرِّجْل للحركة تحركت ، وإذا أمر اللسان بالكلام وجزم الحكم به تكلم ، وكذا سائر الأعضاء . وأما الجند الآخر ، فهي أيضاً كذلك ، إلاّ أن الوهم له شيطنة الفطرة ، يقبل إغواء الشيطان ومغاليطه فيعارض العقل في المعقولات ، فيحتاج إلى تأييد من جانب الحق ليقهره ويغلب عليه ، وتَسَخُّر الحواس للعقل يشبه من وجه تَسَخُّرَ الملائكة السماوية لله تعالى ، حيث إنهم جُبلوا على الطاعة ، لا يستطيعون له خلافاً ، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . وتمرد الوهم عن طاعة العقل يشبه تمرد الشيطان عن طاعة الله - وهذا مما يطول شرحه - . ومن رؤساء جنود العقل " الشهوة " و " الغضب " ، وهما قد ينقادان له انقياداً تاماً ، فيعينانه على طريقه الذي يسلكه ، وقد يستعصيان عليه استعصاء بغي وتمرد لأجل طاعة الوهم المطيع للشيطان ، حتى يملكانه ويستعبدانه ، وفيه هلاكه وانقطاعه عن سفره الذي به وصوله إلى سعادة الأبد . وللعقل فوق ذينك الجندين جند إلهي ، هو " العلم " و " الحكمة " ، وحقّه أن يستعين بهذا الجند ، لأنه حزب الله ، على الجندين الآخرين ، الملتحقين بحزب الشيطان الذي هو القوة الوهمية ، فإن من ترك الاستعانة به - كما هو حال أكثر الناس من أعداء الحكمة وأولياء الوهم - فقد سلط على نفسه الشهوة والغضب ، وهلك يقيناً وخسر خسراناً مبيناً . وإني في مدة عمري ما رأيت أحداً من المعرضين عن تعلم الحكمة إلاّ وقد غلب عليه حب الدنيا وطلب الرياسة فيها ، والإخلاد إلى الأرض ، وقد صار عقله مسخّراً لشهوته في استنباط وجوه الحيل للوصول إلى المستلذات النفسانية ، حتى استهواه الشيطان واستجاب لدعوته وكيده ، فجعل آخر الأمر في نظم جنوده وأوليائه ، وخرج عن الانتظام في سلك حزب الله وأوليائه - نعوذ بالله منه - . وفي أدعية الصحيفة الملكوتية لمولانا وسيدنا علي بن الحسين ( عليهما السلام ) ما وقع الاستعاذة به عن مثل ذلك من قوله : " اللهم اجعلنا في نظم أعدائه ، واعزلنا عن عداد أوليائه ، لا نطيع له إذا استهوانا ، ولا نستجيب له إذا دعانا ، اللهم واهزم جنده ، وأبطِلْ كَيده ، واهدم كهفه ، وأَرْغِم أنفه " . الأصل السادس في استئناف القول في الخواطر وتقسيمها إلى خاطر الخير وخاطر الشر . اعلم أن الخواطر المحرّكة للرغبة والرهبة في القلب الإنساني ، تنقسم إلى ما يدعو إلى الخير - أعني ما ينفع في الدار الآخرة - ، وإلى ما يدعو إلى الشر ، - وهو ما يضرّ في العاقبة - ، وهما خاطران مختلفان ، فافتقرا إلى اسمين مختلفين ، فالخاطر المحمود يُسمى " إلهاماً " ، والخاطر المذموم يُسمى " وسواساً " ، وكل منهما ينقسم عند أرباب الرياضيات والخلوات بدقيق تأملاتهم ولطيف أفهامهم وتصرفاتهم بقسمين : أما الأول : فإلى الرحمان والملكي ، وأما الثاني : فإلى الشيطان والنفساني . ولسنا الآن نشتغل بتحقيق كل قسم من قسمي القسمين بخصوصه لعدم الحاجة إليه فيما كنّا بصدده من بيان كيفية خصومة الشيطان لابن آدم ، أي القوة العاقلة ، التي هي نتيجة الروح الأعظم والعقل الكلي الفعّال ، وهي حقيقة الإنسان ، وبيان العداوة الواقعة بينه وبين أعداء الله ، وكيفية المحاربة والمجاهدة بين حزب الله وحزب الشيطان . ثم أنك قد علمت أن هذه الخواطر حادثة لما أشرنا إليه ، وكل حادث لا بد له من سبب ، ومهما اختلفت المعلولات ، دلّ اختلافها على اختلاف العلل ، وكما أن اتفاقها في أصل الإمكان دلّ على افتقارها إلى قيّوم واحد ، وجوده - كوحدته - عين ذاته ، فكذلك اختلافها يحتاج إلى أسباب مختلفة متوسطة بينها وبين مسبب الأسباب ، وهذا - مع قطع النظر عن الأنظار البرهانية - معروف في سنّة الله تعالى وعادته في ترتيب المسبّبات على الأسباب ، فمهما استنارت مثلاً حيطان البيت وأظلم سقفه واسودّ بالدخان ، علمت أن سبب الأسوداد غير سبب الإستنارة ، فحكمت بأن سبب الإستنارة نور النور ، وسبب الاستظلام ظلمة الدخان . كذلك لأنوار القلب وظلماته سببان مختلفان : فسبب الخواطر الداعي إلى الخير في عرف الشريعة يسمى " مَلَكاً " ، وسبب الخواطر الداعي إلى الشر يسمى " شيطاناً " ، واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام المَلَك يسمى " توفيقاً " ، والذي به يتهيأ لقبول وسوسة الشيطان يسمى " إغواءاً " و " خذلاناً " ، فإن المعاني المختلفة تحتاج إلى أسامي مختلفة . وقد مرّ في الأصل الرابع ، بيان ماهية المَلَك والشيطان ، وأن أحدهما عبارة عن خلقٍ شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم ، وكشف الحق والوعد بالمعروف ، وقد خلقه الله وسخّره لذلك . والآخر عبارة عن خلقٍ شأنه ضد ذلك ، وهو الوعد بالشر والتخويف ، كما دلّت عليه الآية المنقولة ، وقوله تعالى : { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [ فاطر : 6 ] . وهما جوهران مُسَخّران لقدرته في تقليب القلوب ، كما أن لك أصابع مسخرة لقدرتك في تقليب الأجسام ، كما دلّ عليه الحديث المنقول ، فإنه يتعالى أن يكون له اصبع جسماني مركب من لحم وعظم ودم منقسم بالأنامل ، ولكن روح الإصبع ومعناه - كما ذكره بعض أعاظم المحققين - واسطة التحريك والتقليب ، والقدرة على التغيير والتصريف ، وكما أنك تفعل بأصابعك فالله سبحانه إنما يفعل ما يفعله باستسخار المَلَكَ والشيطان ، وبهذا جرت حكمته واستمرت سنّته في نظم الأمور وترتيب الأشياء ، لتكون أسباباً لمعرفته ، وطرقاً إلى جنابه ، وإلاّ فذاته غني عن العالمين ، والوسائط مقهورة تحت قدرته النافذة ونوره القاهر . الأصل السابع إن القلب الإنساني ، لصفائه ولطافته ، صالح في أصل الفطرة الهيولانية لقبول آثار المَلَكية والشيطانية صلاحاً متساوياً ، وإنما يترجّح أحد الجانبين باتّباع الهوى والانكباب على الشهوات ، أو الإعراض عنها ومخالفتها ، فإن اتّبع الإنسان مقتضى شهوته ، ظهر تسليط الشيطان بواسطة الأوهام الكاذبة والخيالات الفاسدة المشيرة إلى اتباع الهوى والشهوات . فصار القلب عشّ الشيطان ومعدنه ، والبدن مملكة جنوده ، لأن الهوى مرعى الشيطان ومرتعه ، لمناسبة ما بينهما ونحو من الاتحاد . وإن جاهد الشهوات ، ولم يسلّطها على نفسه ، ولم يذعن لها ، بل عارضها بمدد البرهان اليقيني على وجود نشأة ثانية باقية تضاد هذه النشأة الداثرة الفانية ، ودافع هذه الظنون والأوهام الكاذبة المستدعية للشهوات والركون إلى الدنيا والوتوق بلذّاتها ، والإخلاد إلى الأرض ، والإقتصاد على هذه النشأة الناقصة الزائلة ، وتشبّه بأخلاق الملائكة في اقتناء المعلومات الإلهية ، وتَذَكّر المعارف اليقينية ، واستنّ بقوة الإيمان بسنّة الأنبياء والأولياء في ترك الدنيا والزهد فيها ، صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم ، ينزل كل يوم بزيارته كما بينّا في موضعه . ولما كان كل واحد من الناس ، ما دام في هذا العالم لا يخلو عن شهوة وغضب وحرص وطمع وطول أمل ، إلى غير ذلك من الصفات البشرية ، المتشعبّة عن الهوى المتّبع للقوة الوهمية التي شأنها إدراك الأمور على غير وجهها ، فلا جَرَمَ لا يخلو الباطن عن جولان الشيطان فيه بالوسوسة ، إلاَّ من عصمه الله . ولذلك " قال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " ما منكم إلاّ وله شيطان " . قالوا : " وأنت يا رسول الله " ؟ قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : " وأنا ، إلاّ أن الله أعانني عليه فأسلم على يدي " " . فمهما غلب على النفس ذكر الدنيا ومقتضيات الهوى ومستلذات الشهوات ، وجد الشيطان المتدرع بها مجالاً فوسوس لها ، ومهما انصرفت النفس إلى ذكر الله ، ارتحل الشيطان وضاق مجاله ، فأقبل المَلَك وألهم ، والنفس هيولانية الوجود ، لها قابلية الإرتباط بكل من المَلَك والشيطان بتوسط قوتيه العقلية والوهمية ، باستعانة انكسار القوى الشهوية والغضبية والوهمية ، وفتورها واستيلائها وسَوْرَتها ، وأكثر النفوس مما قد فتحها وسخّرها جنود الشيطان وملوكها ، فامتلأت بالوسواس الداعية إلى إطّراح الآخرة وإيثار العاجلة . الأصل الثامن في كيفية قبول الإنسان كلاًّ من الإلهام والوسوسة من المَلَك والشيطان . اعلم أن حصول الإلهام من المَلَك ، والوسوسة من الشيطان ، يقع في قلب الإنسان على وجوه أربعة : أحدها : كالهوى والشهوة الصادرتين عن جانب شمال القلب ، في مقابلة العلم واليقين ، الحاصلتين في جانب يمينه . وثانيها : كالصور العلمية الحاصلة من هيئة العالم الكبير ، الذي هو كصورة العالم الإنساني ، وهي بمنزلة عقبة بين الوسوسة والإلهام ، من حيث إنك لو نظرت إلى آيات الآفاق والأنفس على سبيل الاشتباه والغفلة والإعراض عنها - كما وقع لعوام الناس والمقلدين - ، فشأنك منها الشبهة والوسواس في الواهمة والمتخيّلة ، وهما على جانب الشمال { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] وفي الحديث : " ويل لمن تلى هذه الآية ثم مسح بها سبلته " والآية { إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [ البقرة : 164 ] - إلى آخرها - . وإذا نظرت إلى تلك الآيات على سبيل النظام والإحكام مع التدبّر اللائق والتأمل التام ، زالت عنك الشكوك والأوهام ، وحصلت المعرفة واليقين في القوة العاقلة التي هي على جانب اليمين ، وصرت من الملائكة المقربين ، وخرجت من جنود الشياطين ، فإن الآيات المحكمات بمنزلة الملائكة والعقول والنفوس الكلية ، لأنها مبادئ العلوم البرهانية ، والمتشابهات بمنزلة الشياطين والنفوس الوهمية والخيالية ، لأنها مبادئ المقدمات السفسطية . ومن الحكايات في هذا الباب ، بعد ما ذكر أن سبب وقوع النفوس الإنسانية في هذا العالم أولاً ، ومنشأ ابتلاء بني آدم بهذه البليّات الدنيوية التي أحاطت بهم من الذنوب والمعاصي ، كانت هي الخطيئة الواحدة التي اكتسبها أبوهم " آدم " وأمهم " حواء " لمّا ذاقا الشجرة وبدت لهما سوآتهما - لنقص امكاني في جوهريهما ، وقصور جِبِلّي في ماهيتيهما - هو أنه : لما تمّت حيلة إبليس على آدم ، ونال بغيته بإيصال الأذيّة إليه ، وبلغ أمنيته بإيقاع الوسوسة عليه ، سأل ربه بوسيلة بعض صفات الله كالعزة والجلال ، الإنظار إلى يوم يبعثون - فأجيب ِإلى يوم الوقت المعلوم - ، أخذ لنفسه جنة غرس فيها أشجاراً ، وأجرى فيها أنهاراً ، ووضع فيها أشكالاً وهيئات وتماثيل ، وصوراً شبيهة بما في الجنة من الصُّوَر الحسان ، ليشاكل الجنة التي أسكنها الله آدم وقاس عليها ، وهندس على مثالها هندسة فانية لا بقاء لها ، وجعل مسكن أهله وأولاده وذريّته وجنوده ، وهي كمثل السراب الذي يحسبه الظمآن ماءاً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً . وذلك أنه كان من الجن ، ومن شأن الجن - كما قيل - التخييل والتمثيل لما لا حقيقة له ، كذلك فِعْلُ إبليس وجنوده ، إنما هو تمويه وتزويق ومخاريق وتنميق لا حقيقة لها ولا حق عندها ، كالقياس المغالطي السفسطي ، ليصّد بها الناس عن سنن الحق والصراط المستقيم ، وبذلك وعد ذرية آدم كما حكى الله عنهم بقوله : { لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ] . وثالثها : متابعة أهل الجحود والإنكار ، وأهل التعطيل والمشبّهة والكفّار ، في مقابلة طاعة الرسول المختار ، والأئمة الأطهار ، والعلماء الأخيار - صلوات الله عليهم من العزيز الغفّار - ، فكل من سلك سبيل الضلال ، فهو بمنزلة الشياطين ، ومن تابعه فقد تابع الشيطان اللعين ، وكل من سلك سبيل الهداية ، فهو من حزب الملائكة ، ومن تابع أهل الله وذوي الإلهامات الحقة ، فقد تابع أنبياء الله وملائكته المقدّسين الملهمين للإيمان واليقين : { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [ النساء : 80 ] . ورابعها : من جهة الغايات وباعتبار الدرجات ، فإن التوجه إلى الملائكة العقلانيّة والمهيّمة والمدبرات الكلية الملكوتيّة ، يوجب الحشر إليهم ، والانخراط معهم ، واستفاضة المعارف منهم ، وكانت العلوم المستفاضة منهم من قبيل التعقلات والإلهامات الكلية ، ويقابله التوجه إلى الأبالسة المحجوبة عن الله ، المطرودة عن جناب القدس ، المحبوسة في الظلمات ، واكتساب الحيل والخديعة والمكر ، وكان المستفاد منها من قبيل الأفكار الجزئية المتعلّقة بالأمور السفلية . فالإنسان على الوجه الأول شابه الملائكة وجنود الرحمان ، وعلى الثاني شابه الشياطين وَمَرَدَةَ الجن ، المحبوسة في طبقات الجحيم ، المحرومة في الدنيا عن الارتقاء إلى ملكوت السماء ، المحجوبة في الآخرة عن الجنة والنعيم . وقد انكشف من هذا ، أن طبقة من الجن ، وحزباً من مَرَدَةَ الشياطين ، حيث سقطت درجتهم عن درجة الملكوت مما لا اقتدار لهم على فعل الضرر على أولياء الله ، لأنهم صمّ بكم عمي ، مقيدون في السلاسل والأغلال في الجحيم ، معذَّبون بالعذاب والنكال الأليم . فقد ثبت أن أصل الضلال والعمى والجهل من الشيطان ، وأن أصل الهدى والبصيرة واليقين من المَلَك ، والله الهادي والمُضل فوق الكل ، وإن اسم إبليس كاسم " شجرة خبيثة " ، والشياطين بمنزلة أغصان تلك الشجرة الملعونة وتمارها ، تخرج في أصل الجحيم ، طلعها كأنه رؤوس الشياطين ، فأنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ، واسم المَلَك كاسم " شجرة طيبة " ، أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها ، وثمارها الحاصلة منها هي العلوم الكلية الإلهية والمعارف الحكمية الربانية . إذا تمهدت هذه الأصول فنقول : معنى قوله : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ } : انه خلقتكم على فطرة العقل القادس ، والبصيرة الباطنية التي لها القوة على إدراك الحقائق ، والنظر في مقدمات الأمور وأسباب الأشياء وأواخرها وغاياتها ، وجعلت لكم السمع والأبصار والأفئدة ، والإقتدار على مدافعة تسويلات الوهم الموسوس بالشيطان ، وقهره بنور البرهان وقوة الإيمان ، والإطلاع على حيله ومكره وجنوده وأحزابه وأتباعه بسلامة الذوق والوجدان . وقوله : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } معناه : أن الضدّية والعناد ثابتة بينكم وبينه كما بين المَلَك والجن ، والنور والنار ، والبرهان والمغالطة ، والإلهام والوسوسة ، والتوفيق والخذلان ، والهداية والضلال ، والسعادة والنكال . وقوله : { وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } : إنه إذا وقعت المعارضة بين البرهان والسفسطة ، والحق والباطل ، والعقل والوهم ، وإلهام المَلَك بإيثار الآخرة على الأولى ، ووسوسة الشيطان بإيثار العاجلة على الآجلة ، فأطيعوا أمر الحق وامضوا حيث تؤمرون ، واسمعوا قول العقل الصريح والشرع الصحيح ، واتبعوا سبيل المسلمين ، ولا تتبعوا أمر المفسدين ، وانحرفوا عن طريق المجرمين ، ولا تطيعوا أمرهم ، أن هذا صراط مستقيم يؤدي إلى عالم الرحمة والقرب والرضوان ، وباقي الصُرُط مُعْوَجَّةً منتهية إلى عالم النقمة والطرد والخسران ، والهلاك والنيران . تبصرة برهانية اعلم أن هذه العبادة المشار إليها في الآية ، الموجبة للكون على الصراط المستقيم ، والتخلص عن الشيطان الرجيم ، هو الاستقامة على طريق الحق بالعلم والعمل ، وأما أصل العلم الذي أفضل جُزْئَي هذه العبادة ، فهو العلم الربوبي المتعلق بذات الله وصفاته وأفعاله وكتبه ورسله ، وحقيقة الملائكة والشياطين ، وعلم القلب وأحواله ، وكيفية سلوك العبد من الدنيا إلى الآخرة ، ومن الخلق إلى الحق ، وطريق تخلصه عن اضلال الشيطان ، واستعداده لإلهام المَلَك . فهذه هي أصل العلوم الإيمانية التي بها يمكن للإنسان المجاهدة مع أحزاب الشيطان ، وهي أصل الصراط المستقيم المدعو من الله في كل صلاة مرتين ، وهو دين التوحيد المسلوك لنبيّنا وسائر الأنبياء ( عليه وعليهم السلام ) أجمعين ، بقوله : { قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ } [ يوسف : 108 ] وقوله : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } [ الشورى : 13 ] وقوله : { كَذَلِكَ يُوحِيۤ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ٱللَّهُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [ الشورى : 3 ] . وفي الأدعية السجّادية والصحيفة العبادية على مُرَتّبها ومُنْشئها أفضل الصلاة والتحية ، وقعت الإستعاذة من شر الشيطان بهذا الأصل كثيراً ، حيث قال : " اللهم أخسأه عنا بعبادتك ، واكِبْته بدؤوبنا في محبتك ، واجعل بيننا وبينه ستراً لا يهتكه ورَدْماً مُصْمَتَا لا يفتقه . اللهم متّعنا من الهدى بمثل ضلالته ، وزوّدنا من التقوى ضد غوايته ، واسلك بنا من التقى خلاف سبيله من الردى . اللهم لا تجعل له في قلوبنا مدخلاً ، ولا توطنن له فيما لدينا منزلاً . اللهم وما سوّل لنا من باطل فعرِّفناه ، وإذا عرَّفْتناه فقِناه ، وبصّرنا ما نكائده به ، والهمنا ما نعدّه له ، وأيقظنا عن سِنَة الغفلة بالركون إليه ، واحْسِن بتوفيقك عوننا عليه . اللهم واَشْرِب قلوبنا انكار عمله ، وألطف بنا في نقض حِيَله . اللهم واعمم بذلك من شهد لك بالربوبية ، وأخلص لك بالوحدانية ، وعاداه لك بحقيقة العبودية ، واسْتَظهر بك عليه في معرفة العلوم الربّانية " . وأما أصل العمل ، فله فنون كثيرة مرجع الجميع إلى سلامة القلب عن كدورة الشهوة وغشاوة الغضب ، ولا شيء للإنسان بعد المعرفة أنفع من سلامة قلبه من الكدورات والغواشي { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الشعراء : 88 - 89 ] . وهذه المرتبة هي التي أمر الله بها خليله ( عليه السلام ) : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ البقرة : 131 ] { فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً } [ الجن : 14 ] فكل من سلم قلبه فقد فاز بدرجة الإسلام الحقيقي ، وهذه أيضاً مما لا يتيسّر إلاّ بتوفيق الله حسبما قدّر له في الأزل أن يكون من جملة الأخيار ، آمناً من سخط الجبّار ، كما قال تعالى : { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ } [ آل عمران : 179 ] فالمؤمن بالحقيقة من يتميز خبيثته الجسماني الشيطاني عن طيبته الروحاني المَلَكي . تقسيم استكشافي اعلم أن القلوب الإنسانية في الثبات على الخير وعبادة الحق ، أو الشر وعبادة الشيطان ، أو التردد بين الطرفين ، على ثلاثة أقسام ، كما ذكره بعض علماء الإسلام : أحدها : قلب عمر ( طهر - ن ) بالتقوى وزكى بالرياضة ، ونقى عن خبائث الأخلاق ، وتنقدح فيه خواطر الخير من خزائن الملكوت ، فيصرف عقله إلى التفكر في عواقب الأمور والنظر في مقدماتها ، ويطلع على أسرار الخيرات والطاعات ، وينكشف له بنور البصيرة جهة الخيرية فيها ، فيحكم عقله بأنه لا بدّ من فعلها ، وترك أضدادها من المعاصي ، فيدعوه إلى العمل الخير ، وينهى نفسه عن العمل الشر ، فينظر المَلَك الهادي والمعلم للحقائق إلى قلبه - أي نفسه الناطقة - فيجده طيّباً بجوهره ، طاهراً بتقواه ، مستنيراً بضياء العقل ، فأفاض عليه أنوار المعرفة والهدى ، وأيّده بجنود لا ترى ، ويهديه إلى خيرات أخرى ، وإلهامات تترى ، حتى ينجرّ الخير إلى الخير ، ويحشر النور إلى النور . وفي مثل هذه اللطيفة الربانية ، يشرق نور المصباح من مشكاة الربوبية حتى لا يخفى فيه الشرك الخفي ، الذي هو " أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصمّاء " ، ولا يؤثر فيه شيء من مكائد الشيطان ، بل يقف على باب قلبه ويوحي زخرف القول غروراً ، وهو لا يلتفت إلى مكره ، ويتوجه إلى الله وذكره ، وإلى مثله الإشارة في قوله تعالى : { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [ الأعراف : 201 ] . وثانيها : قلب مخذول مشحون بالهوى ، ومقهور للشهوات ، مفتوح عليه أبواب الشياطين ، مغلق عليه أبواب الملائكة ، ومبدء الشر فيه أن ينقدح فيه خاطر من الهوى ويحبس فيه صورة من الشهوة ، فينظر القلب إلى حاكم العقل ليستفتي منه ، وهو قد ألِفَ خدمة الهوى فأَنِسَ به ، واستمر على مساعدة الهوى واستنباط وجوه الحيل في جواب فتواه ، فيشير إلى قوله ، فينشرح الصدر بالهوى ، وينبسط فيه ظلماته لانحباس نور العلم عنه ، وانقهار جند العقل عن مدافعة الوهم ، فيقوى سلطان الشيطان لاتّساع مكانه بسبب انتشار الهوى ، فيقبل عليه بالتزيين والغرور والأماني ، ويوحي بذلك زخرفاً من القول غروراً ، فيضعف سلطنة البرهان على خوف القيامة ، ويحجب نور الإيمان بالوعد والوعيد ، إذ يتصاعد إلى القلب دخان مظلم من الهوى ، يملأْ جوانبه ، ويطفيء سراج العقل وتصير البصيرة الباطنة كالعين التي ملأ الدخان أجفانها ، فلا يقدر أن يرى الأشياء كما هي . وهكذا تفعل غلبة الشهوة وحب الجاه وطلب الرياسة بالإنسان ، ولو بصرّه أحد بعيوب نفسه بالوعظ والنصيحة ، ويوقظه من هذا النوم الغالب عليه ، وينبهه من هذه الغفلة المحيطة به ، ويستفيقه من هذا الشراب الذي أسكره ، ويسمعه ما هو الحق الصريح ، عمي عن الفهم وصم عن السمع ، كما أشير إليه بقوله تعالى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 171 ] وهاج شهوته وطغى غضبه ، وصال عليه كالسَّبُع الضاري والكلب العقور ، وتحركت جوارحه على وفق الهوى ، واشتد مرضه المزمن ، واشتعل نار غيظه الخامد ، وانتشر دمه الفاسد في ظواهر جلده الجامد ، متكلماً بحديثه البارد في تخطئة هذا الناصح الفقير بصوته النكير ، طلباً للانتقام وتشفيّاً في حقده بالاقتحام ، فظهرت المعصية عنه في عالم الشهادة من خزائن الغيب بقضاء الله وقدره . وإلى مثل هذا القلب أشار تعالى بقوله : { أَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [ الفرقان : 43 ] - إلى قوله - { بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [ الفرقان : 44 ] وبقوله : { لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [ يس : 7 ] - إلى قوله - { أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [ يس : 10 ] ورُبّ قلب هذا حاله بالإضافة إلى بعض الشهوات دون بعض . اعلم أن كلاً من هاتين الطائفتين مشغوف بما عنده ، مغرور بما لديه ، فرحان بما يجري على يديه { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ المؤمنون : 53 ] ، فكما أن المحق مشغوف بما لديه من الحقائق والإلهامات والبراهين النّيرة الواضحة والمعارف الحقة الدائمة ، فكذا المبطل مسرور بما عليه من الوساوس المتبدلة والوهميات الكاذبة ، مغرور بالأماني الشيطانية والمزخرفات العامية والمقدمات المشهورة الجمهورية ، التي تستعمل في جلب القلوب وتكثير الشعوب . فانظر إلى أنه كيف حكى الله تعالى كيفيه مناظرة وقعت بين محق ومبطل ، فالمحق هو شيخ الموحدين إبراهيم الخليل - على نبيّنا وعليه سلام الله الملك الجليل - والمبطل هو نمرود اللعين ، الذي هو من جملة الشياطين ، في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] . فتأمل في أنه إذا كان هذا المقدار من الإحياء والإماتة ، الذي قد كان للملوك من اقتدارهم على قتل أحد وتخليص آخر من القتل ، موجباً للاشتباه والإغترار والمغالطة ، حيث ادعى الملعون أن ما سماه بالإحياء والإماتة إحياء حقيقي وإماتة حقيقية ، فكيف في غير ذلك بسبب اغترار الشيطان وجنوده في أكثر المباحث العنادية من هذا القبيل ، ومرجعه إلى القياس الفقهي الذي ورد أنه " أول من قاس به إبليس " في مقابلة النص ، إذ كل ما يوجد في عالم الملكوت يوجد مثاله في عالم الدنيا ، وكل ما يوجد في قلب من استولت عليه الرحمة من الإلهامات والكرامات وغيرها يوجد أمثاله وأظلاله الباطلة الفانية في نفس من استولت عليه الجهة الظلمانية الشيطانية ، من الوساوس والأماني وغيرها . وقد قيل : " العلم علمان ، علم بالقلب وعلم باللسان " ، نعوذ بالله من شريرٍ عليمِ اللسان جهولِ القلب ، فوامصيبتاه من علماء الجهالة وصلحاء الإفساد ، الذين هم من علماء الدنيا وجهّال الآخرة ، المتذكرين لأداب صحبة الخلق ، الناسين لآداب صحبة الرب ، المقبلين على دقائق علومهم الدنيوية ، المعرضين عن حقائق علوم الآخرة ، وواشوقاه إلى لقاء الأشباه - ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين - . وثالثها : قلب متردد بين طاعة الحق وطاعة الشيطان ، فالمطاردة قائمة في هذا القلب بين جنود الرحمان وجيوش الشيطان ، بخلاف القسمين الأولين ، فإن في الأول تكون الجنود مطيعة عابدة لله ، والأحزاب مؤتمرة بأمر رسوله ، منهية بنهيه ، والمملكة الآدمية مفوضة لخليفة الله من القوة الملكية العقلية ، وفي الثاني تكون الجنود خادمة تابعة للشيطان ، جارية فيها حكمه ، والمملكة مسخّرة للهوى الذي هو أحد أولياء الشيطان ، وأما هذا الثالث ، فالمطاردة قائمة في معركة روحه النفساني ، إلاّ أن يغلب أحد الجندين حسب ما جرى في قضاء الله وقدره ، ويفتح الله المملكة لأحدهما ، ولا يكون للآخر إلاّ الإجتياز ، - لا التوطن والاستقرار - . وكيفية هذه المطاردة بين الحزبين ، أنه يبتدئ في القلب أولاً خاطر الهوى ، وهو من جنود الشيطان ، فيدعوه إلى الشر ، فيلحقه خاطر الإيمان وهو من جنود الملك ، فيدعوه إلى الخير ، فتنبعث النفس بشهوتها إلى نصرة خاطر الشر ، فتقوى الشهوة وتحسّن التمتّع والتنعّم . فينبعث العقل إلى نصرة خاطر الخير ، ويدفع في وجه الشهوة ويقبّح فعلها وينسبها إلى الجهل ، ويشبّهها بالبهيمة والسبع في تهجمّها على الشر وقلّة اكتراثها بالعواقب ، فتميل النفس إلى نصح العقل . فيحمل الشيطان حملة على العقل ويقوي داعي الهوى ، ويقول : " ما هذا التحرج البارد والتزهد اليابس ، لِمَ تمتنع عن هواك وتؤذي نفسك ؟ وهل ترى أحداً من أهل عصرك يخالف هواه أو يترك غرضه ؟ أفتترك ملاّذ الدنيا لهم فيتمتعون فيها وتحجر على نفسك حتى تبقى محروماً شقياً متعوباً يضحك عليك أهل الزمان ؟ أتريد أن يزيد منصبك على فلان وفلان ، وقد فعلوا مثل ما اشتهيت ولم يمتنعوا ؟ أما ترى العالِم الفلاني ليس يحترز من مثل ذلك ، ولو كان ذلك شراً لامتنع منه ؟ " فتميل النفس إلى الشيطان وتنقلب إليه . فيحمل الملك حملة على الشيطان ويقول : " هل هلك إلاّ من اتّبع لذة الحال ونسي العاقبة والمآل ؟ أفتقتنع بلذة يسيرة وتترك لذة الجنة ونعيمها أبد الآباد ؟ أم تستثقل ألم الصبر عن شهوتك ؟ ولا تستثقل ألم النار ؟ أتغترُّ بغفلة الناس عن أنفسهم واتّباعهم هواهم ومساعدتهم للشيطان ، مع أن عذاب النار لا يخفف عنك بمعصية غيرك ؟ أرأيت لو كنت في صيف ووقف الناس كلهم في الشمس ، وكان لك بيت بارد ، أكنت تساعد الناس ، أو تطلب لنفسك الخلاص ؟ فكيف تخالف الناس خوفاً من حرّ الشمس ولا تخالفهم خوفاً من حرّ النار ؟ فعند ذلك تميل النفس إلى قول الملك . وإلى ها هنا تكون المطاردة بين الجندين لجمهور الناس ، ويختص المنسوبون إلى العلم والفقه بمراتب أخرى من المدافعة بينهما ، وهي أنه بعد ذلك يحمل الشيطان حملة أخرى وهي : " إن الله سمى نفسه " غفوراً رحيماً " ، فغفرانه إنما يتحقق بفعل المعاصي منّا ، فلِمَ تتأبّ أيها العقل عن الراحة وتتعب نفسك وبدنك بهذه الرياضة الشاقة ؟ ولنفسك عليك حق ، وإن العمر طويل - فاصبر " . فيحمل الملك تارة أخرى فيقول : " أيتها النفس ! إن العقوبات الإلهية على الخطيئات ليست من قبيل الانتقام ، بل هي من لوازم المعاصي وتبعات الذنوب ، والله سبحانه حكيم عادل ومغفرته لا توجب قلب الحقائق ، وترك الراحة القليلة لأجل السعادة الأبدية مما تقتضيه بديهية كل عقل ، وحق الله أعظم من كل حق ، وطول العمر مما ليس إلينا ، فلعله لم يكن إلاّ ساعة ، وقد ورد أن " أكثر صيحة أهل النار من تسويف التوبة " . ثم ليت شعري أيتها النفس ! هل عجزت في الحال إلاّ لقوة الشهوة ، وهي ليست تفارقك يوماً آخر أو سنة أخرى ، بل هي قرينك في الدنيا حتى تهلكك ان قعدت عن قلعها عن طينة قلبك " . فلا يزال يتردد هذا القلب بين الجندين ، متجاذباً بين الحزبين ، منقلباً بين الطرفين ، والتطارد قائم في معركة الصدر الإنساني ، إلى أن يغلب عليه ما هو أنسب إليه وأَوْلىٰ بحسب ما قدّره الله ، ويفتح الله المملكة الإنسانية وعماراتها وبيوتاتها ، ومنازلها وخلائقها وجنودها وأرباب صنائعها وحرفها ، وحيواناتها البهيمية والسبعية ، ونباتاتها وجماداتها ، وفنون أطعمتها وأشربتها ، ومياهها وأشجارها ، وعمرانها وخرابها ، وبرّها وبحرها لواحدة منهما ، فصارت المملكة اقطاعاً لها خاصة ، وتخرج عنها الثانية ، وربما تخرج عنها بالكلية بحيث لا يبقى فيها عين ولا أثر . فإن كانت الصفات التي في القلب ، الغالب عليها الصفات الشيطانية التي ذكرناها إما فطرةً أو اكتساباً - من جهة المعاشرة مع الأشرار ، والتدين بدين الكفار - غلب عليه الشيطان ، ومال القلب إلى جنسه من أحزاب الشيطان ، معرضاً عن حزب الله وأوليائه ، وجرى على جوارحه بسوابق التقدير ما هو سبب بُعده عن الله ورحمته . وإن كان الغالب عليه الصفات المَلَكية ، مال إلى حزب الله ، ولم يُصْنع إلى إغواء الشيطان وتسويلات النفس الأمّارة ، فظهرت منه الطاعة بموجب ما سبق من القضاء على جوارحه ، ويكون سبب قربه من الله ووصوله إلى رضوانه . وهذه الطاعات والمعاصي تظهر من خزائن الغيب إلى عالم الشهادة بواسطة خزانة القلب ، لكونه من خزائن الملكوت ، وهي أيضاً إذا ظهرت كانت علامات بها تعرف أرباب القلوب سابق القضاء فيها ، فبعض النفوس ممن خلقت للجنة وغلبت عليها جهة الرحمة ، ويسّر لها الطاعة وأسبابها . وبعضها ممن خلقت للنار ، يسّر لها أسباب المعصية وسلط عليها أقران السوء ، وألقى في قلبها حكم الشيطان ، فإنه بأنواع الوساوس يغترّ الحمقى فيهلكهم ، يَعِدُهُم ويمنّيهم { وَمَا يَعِدُهُمْ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً } [ النساء : 120 ] كل ذلك بقضاء الله وقدره { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [ الزمر : 22 ] فجزاؤه الجنة الموعودة ، وهو بإزاء من قسى قلبه واسودّ طبعه فجزاؤه جهنم المتوعّد عليها { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ ٱللَّهِ } [ الزمر : 22 ] . { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] . { فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ، وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ كَذٰلِكَ يَجْعَلُ ٱللَّهُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 125 ] . { إِن يَنصُرْكُمُ ٱللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ٱلَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ } [ آل عمران : 160 ] . فهو الهادي والمضلّ ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، أن الأبرار لفي نعيم وأن الفجّار لفي جحيم . وفي الحديث الإلهي المتفق عليه ، المروي في كتاب الكليني وغيره . " خلقت هؤلاء للجنة ولا أُبالي ، وخلقت هؤلاء للنار ولا أُبالي " ، والله الغني عن طاعة المطيعين ، والمتعالي عن معصية العاصين ، فإن آمنوا بربهم فرَوْحٌ وريحان وجنة نعيم ، وذلك هو الفوز العظيم والمنّ الجسيم ، وإن كفروا فنُزُولٌ من حميم وتَصْلية جحيم ، وهناك سلاسل وأغلال وعذاب أليم ؛ وحق الفريقين الثواب والعقاب { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } [ الحديد : 13 ] . وقد أخرجنا أكثر هذه المعاني في عجائب القلب من كتب أهل الله ، لما فيها من لطائف الأسرار وبدائع الأنظار ، وعظيم النفع في كشف معنى هذه الآية المشيرة إلى معرفة ماهية الشيطان وجنوده ، وكيفية عداوته وطريق التخلص عن شرّه وفساده وإغوائه ، المؤدي إلى نار الجحيم وسلوك سبيل المجرمين ، والنجاة عنه بنور المعرفة والإيمان وقوة الصبر والتقوى وسلوك الصراط المستقيم ، وثبات القدم والعزم القويم في المجاهدة مع أحزابه التي هي من أعداء الله وقطّاع سبيل المسلمين ، ولا يتخلص عن شرها وضرّها وإضلالها وإفسادها إلاّ خُلّص أولياء الله المتقين ، ولذلك عقّب الآية بقوله { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ } [ يس : 62 ] .