Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 83-83)

Tafsir: at-Tafsīr

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقرئ " ملكة كل شيء " و " مملكة كل شيء " واعلم أن المَلَكة كالملكوت في المعنى ، كما أن المملكة كالملك فيه . وقرئ " ترجعون " - بضم التاء وفتحها - . فسبحان - تقديس لذاته تعالى عن مباشرة الأجسام في فاعليته وإيجاده للأشياء ، وعن استعماله القوى والآلات في صانعيته للموجودات ، وتنزيه له عما يوصفه الجاهلون ، وتعجيب من أن يقولوا فيه ما قاله الملحدون ، و " الفاء " للتفريع على ما ثبت في الآية السابقة من كيفية صنعه وإبداعه ، حيث بيّن فيها أن إيجاده لشيء عين إرادته . وقوله تعالى : { كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] فيتفرع عنه تقديس الله عن القصور من الكمال والفتور في الأفعال ، لأنه الذي بيده ملكوت الأشياء ، وله التصرف بموجبات ( بمواجب ) مشيته وقضايا حكمته فيما شاء ، وإليه رجوع كل شيء ، لأنه الغاية الأصلية لكل ظلّ وفيء . حكمة قرآنية فيها اشارات ربانية أولاها : الإشارة إلى تقديس ذاته وتنزيه صفاته عن وصمة التغير والتجدد في نسبة الأفعال الحاصلة من مصادرها بالإنفعال إليه تعالى ، وإبطال ما ارتكز في أوهام أقوام من أهل الكلام " إن الفاعل ليس إلاّ ما هو علة التغير " واشترط عندهم في مفهوم الفاعلية سبق الزمان موجوداً أو موهوماً . وأما الإبداع المحض من غير اشتراط سبق زماني للفاعل بالذات على مجعوله ، ولا اقترانه بعدم المجعول وهو التأييس ( التأسيس ) المطلق له من ليس ساذج غير زماني ، فقوم لا يسمون مثل هذا التأييس ( التأسيس ) المطلق " فعلاً " ، لاشتراطهم انتقال الفاعل من حالة إلى حالة ، وسبق العدم الزماني فيه ، وهو وهم باطل ، إنما حداهم إليه حسبانهم إن حدوث العالم منه تعالى لا يتمشى إلاّ بهذا الوجه . وقد أوضحنا هذه المسألة بما لا توقف لها على نسبة التغير إليه سبحانه ، وفي القرآن تنبيهات بليغة على أن فعله تعالى ليس إلاّ الإبداع الصرف والتأييس ( التأسيس ) المحض ، من غير مباشرة ولا تغير وانفعال وتكثر ، وقوله : { فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } إشارة إلى تفريع الحكم السابق بأن فعله ليس إلاّ بأمره المطلق وإرادته المطلقة ، الخالية عن شوب قصور ووصمة حدوث وفتور . الاشارة الثانية الإشعار إلى تقديس ذاته وتنزيه صفاته عن أن يكون افتقار الممكن إليه في الحدوث فقط من جهته لا في البقاء ، كما ذهب إليه أيضاً أوهام هؤلاء القاصرين من المتكلمين ، لما رأوا أن الابن يبقى بعد الأب ، والبناء يبقى بعد البنّاء ، والسخونة تبقى بعد النار ، ولم يتفطنوا أن هذه الأمور ليست عللاً بالحقيقة ، فوقعوا في الغلط بسبب " أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات " . وقد برهن في الحكمة الحقّة ، على أن جسماً من الأجسام - ولا أحد جزئيه - لا يكون علة لجسم آخر ولا لأحد جزئيه ، وعلى أن علة كل جسم لا يكون إلاّ ما هو بريء عن مخالطة الأجسام والمواد . وأما مثل البنّاء فحركته علة لحركة لِبَنٍ مّا ، ثم سكونه علة لسكونه ، وانتهاء تلك الحركة علة لاجتماع مادة ، وذلك الإجتماع علّة لشكل ما ، ثم انحفاظ ذلك فلما تقتضيه طبيعة الأرضية التي في اللَّبِنات ، وهي مما أفادها الله بقوّته التي تمسك السماء والأرض أن تزولا ، ومن أسمائه تعالى " الحافظ " و " القابض " . وكذلك النار علة لتسخين عنصرٍ ما ، لا أن تفيد السخونة ، بل أن تبطل البرودة التي كانت مانعة من حصول السخونة في الماء من جهة واهب الصور ، وأما حدوث السخونة واستحالة الماء إلى النار ، فبالجاعل المفيد الذي يكسو العناصر صورها ، وقد عرفت أنها لا يصح أن تكون جسماً أو جسمانياً ، وأما الأسباب السابقة فهي مُعِدّات ومُغيّرات وعلل بالعرض . وقد ثبت وتقرر أن العلة يجب أن تكون متقدمة على المعلول بالذات لا بالزمان ، فكيف تكون نار علة لوجود نار أخرى ، ولا نار أحق أن تكون علة لنار متقدمة عليها بالذات من نار أخرى ، وكذا الحكم في سببيّة إنسان - كالأب - لإنسان - كالابن . وبالجملة ، كل ماهيّة نوعية لا تكون واجبة الوجود ، لم يكن لها بدّ من علّة خارجة عن النوع ، ولا تكون علتها إلاّ ما يتساوى نسبته إلى جميع أفراده ، ولا تحتاج في إيجاده إلى أمر خارج عنه وعمّا ينتهي إليه في سلسلة الحاجة من زمان أو حركة ، فكل ما سوى الله تعالى - سواء كان جوهراً أو عرضاً ، أو حركة أو زماناً ، موجوداً أو موهوماً - فهي مفتقرة إليه ، فائضة من لدنه ، ففعله لا يكون إلاّ الأمر والابداع والتأييس ( التأسيس ) والإختراع . فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وباطنه ، وما به قوام حقيقته وذاته ، فيكون مثل هذا المبدع الحق والجاعل المطلق ، علة الحدوث والهيئة دون بقاء الذات وقوام الماهية - تعالى عما يقوله الظالمون علواً كبيراً - . الاشارة الثالثة إن قوله : { بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } ، مع قوله : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } يدلاّن على أن ذاته المقدسة عن وصمة القصور والفتور ، كما أنه فاعل لجميع الممكنات كذلك غاية لها ، فهو أول الأشياء وآخرها ، ومبدأُها وتمامها ، فالوجود كما صدر منه على الترتيب الصدوري والنظام النزولي ، كذا ورد عليه ورجع إليه بالترتيب الصعودي والنظام العروجي على التعاكس في السلسلتين . فكان أولاً عقولاً مجردة ، ثم نفوساً منطبعة ، ثم صوراً منوعة ، ثم صوراً مجسمّة ، ثم هيولى - هي نهاية تدبير الأمر لقوله : { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } [ السجدة : 5 ] فيكون الحادث أولاً من الهيولى جسماً مطلقاً ، ثم نوعاً بسيطاً ، ثم مركباً ، ثم نباتاً ، ثم حيواناً ، ثم إنساناً ذا نفس مجردة على مراتبها ، ثم ذا عقل مفارق على درجاتها في الصعود ، إلى أن ينتهي إلى الحق المعبود ، فوقع الإبتداء من العقل والإنتهاء إلى العاقل ، وبينهما أمور متفاضلة . اعلم أنّا كما أفادنا النظر في الوجود اثبات فاعل له ، كذلك أفادنا إثبات غاية له ، فكما لا يجوز أن يكون الممكن موجوداً إلاّ بموجد يفيد وجوده لإفتقار ماهيّته إلى مرجّح ، كذلك لا يجوز أن يكون موجوداً إلاّ لغاية يتم بها وجوده لقصور وجوده عن درجة التمامية الأخيرة . وكما أن سلسلة الأسباب الفاعلية لا بدّ وأن تنتهي إلى فاعل لا فاعل له ، وإلاّ لم يكن شيء منها فاعلاً ولا موجوداً ، لأنها على ذلك الفرض يكون الكل على حكم الوسط - وهذا خلف - ، فكذلك سلسلة الأسباب الغائية لا يجوز أن تذهب إلى لا نهاية ، بأن تكون لكل غاية غاية من غير انتهاء إلى غاية أخيرة لا تكون لها غاية أصلاً ، وإلاّ لم يكن لشيء من الأشياء غاية أصلاً - وهو خرق الفرض - . فثبت وتبيّن أن للممكنات كلها فاعل أول لا يكون له فاعل أصلاً ، وثبت وتبيّن أيضاً أن لها غاية أخيرة لا تكون لها غاية أصلاً ، ثم يجب أن تكون هذه الغاية هي بعينها ما فرضناه فاعلاً ، لاستحالة تعدد الواجب تعالى ، لأن كلاً منهما موصوف بالمفارقة الكليّة عن وصف الإمكان والقصور ، والمفارقة الكلية تقتضي سلب الماهيّة ، ويستحيل وجود شيئين كل منهما لا ماهيّة له ، فالله هو الأول والآخر ، ليس كمثله شيء ، منه ابتداء ملكوت كل شيء وأمره ، وإليه يرجع كمال وجوده وغايته إذا بعثر ما في القبور وحصّل ما في الصدور ، أَلاَ إلى الله تصير الأمور . خاتمة في موضع نزول هذه السورة وعدد آياتها وبيان فضلها أما موضع النزول : فهي مكة بالإتفاق ، قال ابن عباس : إلاَّ آية منها : وهي قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ ٱلله } [ يس : 47 ] - الآية . نزلت بالمدينة . وأما عدد آياتها : فهي ثلاث وثمانون آية كوفي ، واثنتان وثمانون عند الباقين . واختلافها آية واحدة هي " يس " ، كوفي . وأما فضلها : أُبَيُّ بن كعب ، عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : " من قرأ سورة يس ، يريد بها وجه الله عزّ وجلّ ، غَفَر الله له ، وأُعطِيَ من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتي عشرة مرة ، وأيّما مريض قرئت عنده سورة يس ، نزل عليه بعدد كل حرف منها عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفاً ، ويستغفرون له ، ويشهدون قبضه ، ويتبعون جنازته ، ويصلّون عليه ، ويشهدون دفنه ، وأيما مريض قرأها وهو في سكرات الموت ، أو قُرِئت عنده ، جاءه رضوان خازن الجنة بشربة من شراب الجنة فسقاه إياها ، وهو على فراشه ، فيشرب فيموت ريّان ، ويبعث ريان . ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء ، حتى يدخل الجنة وهو ريّان " . وعن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال : " سورة يس ، تدعى في التوراة المعمة ، قيل : وما المعمة ؟ قال : تعم صاحبها خير الدنيا والآخرة ، وتكابد عنه بلوى الدنيا ، وتدفع عنه أهاويل الآخرة ، وتدعى المدافعة القاضية ، تدفع عن صاحبها كل شر وتقضي له كل حاجة ، ومن قرأها عدلت له عشرين حجة ، ومن سمعها عدلت له ألف دينار في سبيل الله ، ومن كتبها ثم شربها أدخلت جوفه ألف دواء ، وألف نور ، وألف يقين ، وألف بركة وألف رحمة ، ونزعت منه كل داء وعلة " . وعن أنس بن مالك ، عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : " إن لكل شيء قلباً ، وقلب القرآن يس " . وعنه ، عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : " من دخل المقابر ، فقرأ سورة يس ، خفّف عنهم يومئذ ، وكان له بعدد من فيها حسنات " . وروى أبو بصير ، عن أبي عبدالله جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) قال : " إن لكل شيء قلباً ، وقلب القرآن يس ، فمن قرأ يس في نهاره قبل أن يمسي ، كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتى يمسي ، ومن قرأها في ليله قبل أن ينام ، كان في ليله من المحفوظين والمرزوقين حتى يصبح ، ووكّل به ألف ملك يحفظونه من كل شيطان رجيم ، ومن كل آفة ، وان مات في نومه ، أدخَله الله الجنة ، وحَضَر غسله ثلاثون ألف ملك ، كلهم يستغفرون له ويشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له ، فإذا أُدخِلَ لحْدَه ، كانوا في جوف قبره ، يعبدون الله وثواب عبادتهم له ، وفُسِحَ له في قبره مدّ بصره ، وأَمِنَ من ضغطة القبر ، ولم يزل في قبره نور ساطع إلى عنان السماء ، إلى أن يخرجه الله من قبره . فإذا أخرجه ، لم تزل ملائكة الله معه يُشَيّعونَه ، ويُحَدِّثونه ، ويضحكون في وجهه ، ويُبَشْرونه بكل خير ، حتى يجوزوا به الصراط والميزان ، ويوقفوه من الله موقفاً لا يكون عند الله خَلْقٌ أقربُ منه إلاّ ملائكة الله المقربون ، وأنبياؤه المرسلون ، وهو مع النبيين واقف بين يدي الله ، لا يحزنُ مع مَنْ يحزن ، ولا يهتمّ مع مَن يهتمّ ، ولا يجزع مع من يجزع ، ثم يقوله الرب تعالى : " إشْفَعْ عبدي أُشَفِّعْكَ في جميع ما تَشْفَعْ . وسَلْني عبدي أُعطِكَ جميعَ ما تسأل " . فَيَسأَلُ فيُعطى ، وَيَشْفَع فيُشَفَّعْ ، ولا يحاسَبُ فيمن يحاسَب ، ولا يَذلِ مع من يذلِ ، ولا يُبْكَتُ بخطيئته ، ولا بشيء من سوء عمله ، ويعطى كتاباً منشوراً ، فيقول الناس بأجمعهم سبحان الله ، ما كان لهذا العبد خطيئة واحدة ، ويكون من رفقاء محمد ( صلى الله عليه وآله ) " . وروى محمد بن مسلم عن أبي جعفر ( عليه السلام ) قال : إن لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إثني عشر اسماً ، خمسة منها في القرآن : محمد وأحمد وعبدالله ويس ون . فهذا يا حبيبي آخر ما قصدنا ترقيمه وحاولنا تفهيمه من الصنائع العلمية والعملية القرآنية ، والذخائر العقلية البرهانية ، المتعلقة بآيات هذه السورة الكريمة ، ولمعات هذه الدرة اليتيمة ، لتكون وسيلة لمن اهتدى في ظلمات البر والبحر ، وخلص من دياجير الظلم والجور ، وغلبة المضِلّين ، وكثرة أنواع الشياطين ، وخمول الحق وأهله ، وانقطاع طُرُقه وسُبُله . فأنت أيها الرفيق الشفيق ، المؤمن الموقن بحقيقة هذه الأسرار ، الحريص على اقتفاء هذه الآثار ، كنتَ بين أهل زمانك وأقرانك ، وأعداء إيمانك ، وجحدة ايقانك ، كقادح زناد في ليلة ظلماء ، ذات رياح عاصفة ، وظلمات متراكمة ، وأهوية باردة ، يريد استضاءةً بنوره في طريق قد نفدت أَدِلَّتها ، واندَرَسَتْ معالمها ، وذهبت دلائلها ، فلم يبقَ إلاّ طرقٌ وعرة ، وعلامات داثرة ، يصعب السلوك فيها ، والقصد إليها ، إلاّ على أصحاب اقتفاء الآثار الخفية ، بمعرفة قد سبقت عندهم وخفيّت على الذين يريدون اطفاء نور الله بأفواههم ، بذهابها وإزالتها ، لئلا ترتفع حجة الله من أرضه وتنمحي آثار حكمته . فلما أوراك الزناد بنوره ، ودلّك الدليل بظهوره ، وصلت إلى بقعة من بقاع الجنة ، وروضة من رياضها ، التي فيها تبدل الأرض غيرَ الأرض ، والسموات مطويات يوم العرض ، فيها رجال لا تلهيهم تجارة ولا بَيعٌ عن ذكر الله ، تراهم ركّعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود . والحمد لله الملك المعبود ، والصلاة على محمد صاحب المقام المحمود ، وآله الهادين إلى سبيل المعرفة والشهود .